يعتبر مزيج الماء، الكحول، الأوكسجين وبكتيريا التخمير مسؤولًا عن أحد أكثر المنتجات المفيدة في المطبخ: الخلّ

أتذكّر كيف كان يتحوّل منزلنا الصّغير في طفولتي إلى "معركة" تنظيف خلال عيد الفصح اليهوديّ، حيث كان يفوز الخلّ بمهمة عامل التّنظيف الأساسيّ. تتناقض أدوار الخلّ والخميرة في هذا العيد، فأحدهما ضيف مرحَّب به على طاولة العيد، أمّا الآخر فيُمنَع وجوده في المطبخ حتّى إنتهاء العيد، وفقًا للتّقاليد. سنتحدّث هنا عن وظائف الخلّ في المطبخ، وسنكتشف كيفيّة إنتاجه والفروقات بين أنواع الخلّ المختلفة. لكن أوّلًا هيّا بنا نرى وصفة السّمك بالخلّ والبطاطا.

 

ماذا نحتاج؟ (وصفة لطبقين)

  • قطعتان من فيليه سمك البحر مقطّع إلى قطع كبيرة بدون عظم وجلد (250 جرام)

  • 4 حبّات بطاطا صغيرة مقطعة إلى أرباع

  • نصف كوب بصل أخضر مقطّع إلى شرائح

  • 1 فلفل أحمر حارّ مقطّع إلى شرائح (حسب التّفضيل) 

  • ملعقتان كبيرتان من زيت الزّيتون للصلصة، ورشّة إضافيّة

  • ملعقتان كبيرتان من الخلّ

  • 1 ملعقة صغيرة بابريكا مدخّنة للصلصة، ورشّة إضافيّة

  • 1 ملعقة صغيرة من الملح

طريقة التّحضير

  1. نقوم بطهي البطاطا في الميكرويف لمدّة 5 دقائق حتّى تصبح طريّة.

  2. نقوم بخلط زيت الزّيتون، الخلّ، الفلفل الحلو والملح في وعاء. ثمّ نضيف البصل والفلفل الحارّ والبطاطا المسلوقة. ثمّ نضيف قطع السمك ونقلّبها جيّدًا في الخليط حتى تتغطّى بجميع مكونات الصّلصة جيّدًا.

  3. نقوم بوضع البطاطا في طبق مدهون بالزّبدة، ونضع السّمك فوقها. نرشّ عليها الملح، البابريكا وقليل من زيت الزّيتون وبقيّة الصّلصة.

  4. نقوم بخبزها لمدّة 15 دقيقةً في فرن محمّى مسبقًا على حرارة 200 درجة مئوية، حتّى يصبح السّمك جاهزًا.


للخلّ عدّة أدوار في المطبخ، من التّنظيف إلى تتبيل الأسماك. فيليه سمك باللّيمون والخلّ والبهارات | المصدر: Shutterstock, Jarvna

والآن لننتقل للعلم

الخلّ هو محلول مكوّن من الماء وحمض الخلّ (Acetic acid) مع كمّيّة قليلة من المواد الأخرى. يحوي محلول الخل النموذجي 5-8% كحولًا أيضًا. لإنتاج الخلّ تاريخ طويل يمتد لآلاف السّنين على الأقلّ.

لقد عُثِر على أقدم دليل لاستخدام الخلّ في منطقة بابل القديمة (العراق اليوم)، لأغراض طبّيّة وحفظ الطعام. بالإضافة إلى ذلك، استخدمه القدماء المصريّون لأغراض تجميليّة، واستهلكه الإغريق والرومان كتوابل ومواد حافظة للأطعمة والنّبيذ.

في العصور الوسطى، أصبح إنتاج الخلّ صناعة مهمّة في أوروبا لأغراض تخصّ الأغذية والتّنظيف، وأنتِجت أنواع كثيرة من الخلّ من مجموعة متنوّعة من المواد، بما في ذلك العنب، التّفاح، الشّعير والعسل. طوّر الفرنسيّون خبرة خاصّة في إنتاج الخل، والّذي يعني بالإنجليزية "Vinegar" مشتقّ من كلمة "vin aigre" بالفرنسيّة، والّتي تعني "النّبيذ الحامض".

في العصر الحديث، طُوِّرت طرق جديدة للإنتاج الصّناعيّ، للحصول على كمّيّات كبيرة من الخلّ بسرعة وبكفاءة عالية. قام الكيميائي الفرنسي لويس باستير (Louis Pasteur) بتحديد خمسة معايير ضروريّة لإنتاج الخلّ في القرن التّاسع عشر: وجود كحول في السّائل؛ التّعرّض للأوكسجين الموجود في الهواء؛ عمليّة التّخمير باستخدام البكتيريا الغلوكونيّة (Gluconobacter) وبكتيريا الخلالة (Acetobacter)؛ العناصر الغذائيّة للبكتيريا، مثل السّكّريّات الموجودة في النّبيذ؛ ودرجة حرارة تتراوح بين 20-30 درجة مئويّة، ممّا يسمح للبكتيريا بالتّكاثر والازدهار.

مراحل إنتاج الخلّ

عملية إنتاج الخل ليست سهلة وتتطلّب الكثير من الوقت، المهارة والخبرة. إلى جانب عمليتي تخمير. في العمليّة الأولى، يتمّ فيها تحويل الكربوهيدرات - النّشويات والسّكّريّات - إلى كحول. بعد ذلك، في عمليّة تخمير أخرى، يتحوّل الكحول إلى خلّ.

في عمليّة الإنتاج التّقليديّة، يحدث التّخمير الأوّل باستخدام الخميرة، الموجودة أحيانًا في المكوّنات الغذائيّة بشكل طبيعيّ، ومع ذلك، في بعض الأحيان نحتاج لإضافتها إلى المحلول. تقوم الأنزيمات الموجودة في الخميرة بتفكيك الكربوهيدرات، وهذه هي الطريقة الّتي يتشكّل بها الكحول (الإيثانول) وثاني أكسيد الكربون الغازيّ (CO2).

في الخطوة الثّانية، يأتي دور بكتيريا الخلالة، الّتي ينتج عنها عمليّة تخمير أخرى. بمساعدتهم، يتفاعل الكحول المتكوّن في المرحلة الأولى مع الأوكسجين الموجود في الهواء، ويتمّ الحصول على محلول مائيّ من حمض الخلّ وكمّيّات صغيرة من المكوّنات الأخرى المشتقّة من المكونات الغذائيّة الّتي نتج الخلّ منها. لإنشاء التّخمير في هذه العمليّة، من المعتاد استخدام النّبيذ المخفّف، وإضافة البكتيريا الّتي تبقّت من عمليّة تحضير خلّ سابقة إليه. تعتبر هذه العمليّة التّقليديّة بطيئة تستمرّ عدّة أشهر في براميل خشبيّة. يعود السّبب في الوقت الطّويل إلى حقيقة أنّ العمليّة الّتي يتحوّل فيها الكحول إلى حمض تحدث فقط على سطح السّائل، حيث يتلامس النّبيذ مع الأكسجين الموجود في الهواء. يترك التّخمير المطوّل وقتًا كافيًا لحدوث عمليّات كيميائيّة إضافيّة، مما يمنح المنتج طعمًا ورائحة مميّزة.

تعتبر الطّريقة الأسرع لإنتاج الخلّ هي تقطير محلول كحول على مزرعة بكتيريّة (bacterial culture) ذات ظروف تهوية جيّدة. وبالتّالي، فإنّ مساحة السّطح الّتي يتعرّض فيها الكحول للبكتيريا والهواء تكون كبيرة بشكل خاصّ، ويكتمل إنتاج الخلّ في غضون أسبوع على الأكثر. في الإنتاج الصّناعيّ للخلّ، يُسكب أحيانًا النّبيذ والمزرعة البكتيريّة في وعاء تُضخّ فيه فقاعات من الهواء الغنيّ بالأوكسجين باستمرار. يتمّ الحصول على الخلّ بهذه الطّريقة في غضون يوم أو يومين.

أصبح من الممكن في يومنا هذا إنتاج الخلّ بشكل صناعيّ، من خلال التّخليق الكيميائيّ وليس من خلال عمليّة التّخمير. تكون المواد الأوّليّة لهذه العمليّة عبارة عن مركّبات عضويّة، جنبًا إلى جنب مع محفّز معدنيّ، و ينتج عنها  حمض الخلّ والماء فقط.


يغير الحمض بنية البروتينات في اللحوم أو الأسماك وبالتالي أيضًا قوامها. طبق السمك والخضراوات | المصدر: Shutterstock, marco mayer

الخلّ في الطّبخ

للخلّ العديد من الأدوار في المطبخ، بما في ذلك إضافته لمزيج تتبيل اللّحوم. يغيّر الحمض بنية البروتينات في اللّحوم، وبالتّالي أيضًا قوامها - على سبيل المثال في صنع طبق السيبيتشي (Ceviche). بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الخلّ في تخليل الخضار - الخيار المخلّل مثلًا. كان هذا أحد الاستخدامات الرئيسيّة للخلّ في الماضي، لكنّه اليوم يُستخدم بشكل أقلّ للحفظ ولتعزيز رائحة الطعام ومذاقه. 

أحيانًا، يوصى باستخدام الخلّ أيضًا في الكعك والمعجنات الحلوة. وذلك لأنّ خلط الخلّ مع صودا الخَبْز يساعد في انتفاخ المعجّنات، بسبب إطلاق ثاني أكسيد الكربون الّذي يتراكم ويكوّن فقاعات هوائيّة. 

بالإضافة إلى ذلك، يساعد الخلّ في تعزيز النّكهات الأخرى، وذلك بفضل طعمه الحامض على اللّسان، ورائحته المميّزة الّتي تهيِّج الأنف، خاصّة عند تسخينها.

معلومة إضافيّة خاصّة للذين لديهم حساسيّة لحموضة الخلّ: عند إضافة حمض آخر في تحضير الطعام - مثل عصير اللّيمون - فإنّ الرّائحة السّائدة والمذاق اللّاذع للخلّ يكونان أقوى. والسّبب في ذلك أنّه في وجود حمض آخر لا يتحلّل حمض الخلّ، فيبقى تركيزه في الطّعام مرتفعًا.


تختلف أنواع الخلّ عن بعضها البعض في الطّعم، اللّون، الرّائحة والحموضة. قوارير بأنواع مختلفة من الخلّ | المصدر: Shutterstock, MAHATHIR MOHD YASIN

أنواع الخلّ

تقدّم الأسواق أنواعًا عديدة من الخلّ، والّتي تختلف عن بعضها في الطّعم، اللّون، الرّائحة والحموضة، وذلك لأنّها تُحضَّر من مواد أوّليّة مختلفة. ويعتبر القاسم المشترك بينها جميعًا هو حمض الخلّ. سنشير هُنا إلى أهمّها وإلى استخداماتها.

الخلّ الأبيض: الخلّ النّاتج عن تخمير الكحول النّقيّ أو النّاتج عن التّخليق الكيميائيّ. يتكوّن هذا الخلّ من حمض الخلّ والماء فقط، ولا توجد فيه أيّة مكوّنات أخرى. يُستخدَم في المطبخ بشكل أساسيّ للتّنظيف أو تحضير مخلّل الخضار وصلصات للسّلطة.

خلّ التّفّاح: خلّ مصنوع من عصير التّفاح المخمّر، لذلك له رائحة تفّاح مميّزة. مذاقه حلو بعض الشّيء بمذاق الفاكهة، وغالبًا ما يستخدم لصنع المخلّلات والصلصات. كما أنّ استهلاكه شائع في بعض الأنظمة الغذائيّة.

خلّ النّبيذ: الخلّ الّذي يتمّ الحصول عليه من تخمير النّبيذ الأحمر أو الأبيض، لذلك فهو غنيّ بالمركّبات المشتقة من العنب والعمليّات الّتي مرّ بها النّبيذ قبل أن يصبح خلًّا - على سبيل المثال، عمليّة التّعتيق في البراميل. يستخدم هذا الخلّ لتتبيل اللّحوم والخضراوات و الصّلصات.

الخلّ البلسميّ: خلّ داكن كثيف، مصدره من مقاطعة مودينا بإيطاليا. يُنتَج بشكل أساسي من عنب تريبيانو (Trebbiano)، وتُضاف أحيانًا أنواع أخرى من العنب، إلى جانب خليط مسحوق من قشر العنب وبذوره وسيقانه. يُغلى الخليط، يُكثّف ويُصفّى، ثمّ يُنقل السّائل إلى تخمير بطيء جدًّا في براميل خشبيّة. تقليديًّا، يُترك الخلّ البلسميّ لينضج لمدّة 12 عامًا. يؤثّر طول الوقت الّذي يبقى فيه الخلّ في البراميل على مذاقه وجودته. في النّهاية، يصبح للخل مذاق فريد، يستخدم عادة لتحضير السّلطات والمخلّلات والتّوابل.

خلّ الأرزّ: يُنتج من الأرزّ المخمّر، مذاقه معتدل وحلو وحموضته معتدلة. يُستخدَم في المطبخ الآسيوي لصنع السّوشي والمخلّلات والصّلصات.

خلّ الشّعير: خل داكن يُنتَج من الشّعير المنبّت والحبوب الأخرى، الّتي خُمِّرَت بطريقة مماثلة لعمليّة صنع البيرة. يعتبر هذا الخلّ شائعًا في المطبخ البريطانيّ، حيث يُضاف للأسماك والبطاطا والأطعمة المخلّلة.


يساعد الحمض الموجود في الخل الصناعي على تحليل الدهون وأنواع أخرى من الأوساخ. التنظيف بالخل وصودا الخَبز | المصدر: Shutterstock, Daniele De Vivo

الخلّ والتّنظيف

يعتبر الخل الأبيضّ الصّناعيّ عامل تنظيف رخيصًا وفعّالًا، حيث يساعد الحمض الموجود فيه على تحليل الدّهون وأنواع أخرى من الأوساخ. كما أنّ ملعقة صغيرة من الخلّ في كوب من الماء تكفي لمنع تكاثر بعض البكتيريا.

تنتح صناعة الخلّ العالميّة العديد من أنواع الخلّ لمجموعة متنوّعة من الأغراض، بما في ذلك الطّهي، التّنظيف وحتّى في المجالات الطّبّيّة. بعد أن استمرّ إنتاج الخلّ بالطّريقة التّقليديّة دون تغيير تقريبًا لآلاف السّنين، أسفرت التّكنولوجيا الحديثة والفهم العلميّ عن تقنيات مبتكرة، أدَّت إلى تحسين جودتها وإنتاجها. كلّ ما تبقّى هو الذّهاب إلى المطبخ واستخدام أنواع الخلّ المختلفة، حسب الذّوق، لتحضير المشاوي أو السّلطة أو المعجنات. صّحّة وعافية!

 

0 تعليقات