إذا اعتقدنا في نهاية العام الماضي أنَّ اللقاحات ستضع حدًّا لجائحة كورونا، فقد خلطت المتحوّرات الجديدة الأوراق مرّة تلو المرّة وغيّرت الواقع

جلب لنا عام 2020 مرض كوفيد-19 (Covid-19) الّذي يسبّبه فيروس SARS-CoV-2. لم يتخيّل أحد كم سيكون هذا الفيروس أسوأ من سابقه، فيروس السارس SARS، وكيف سيقلب العالم رأسًا على عقب. لكن العام الّذي كان مليئًا بالمرضى والموتى، الإغلاقات، القيود والكمامات، انتهى وهو يحمل معه أملًا كبيرًا. في كانون الأوّل من عام 2020، بدأت دول العالم في الموافقة على استخدام اللقاحات الجديدة الّتي تمّ تطويرها بسرعة غير مسبوقة نسبة للتاريخ البشريّ، واُفتتح عام 2021 بأمل اللقاح الجديد الّذي  كان من المُفترض أن ينهي الجائحة بشكلٍ سريع.

ولكنّ لاحقًا، اتّضح أنَّ عام 2021 سيكون أيضًا عام المتحوّرات. في نهاية عام 2020، اجتاح المتحوّر ألفا العالم، والّذي تطوّر في المملكة المتّحدة (بريطانيا)، وهي واحدة من الدول الّتي سمحت للفيروس الأصليّ الّذي ظهر في الصين بالانتشار بين الناس بدون رادع تقريبًا، وبالتّالي منحه الكثير من الفرص للتضاعف. كان هذا المتحوّر معديًا أكثر من المتحوّر الأصليّ وانتشر في العديد من الدول حتّى قبل بدء حملات التطعيم. في الوقت نفسه، أثار متحوّر بيتا الّذي كان معديًا بنفس القدر والّذي تطوّر بشكلٍ منفصل في جنوب إفريقيا قلقًا شديدًا. متحوّر آخر أثار قلقًا، هو المتحوّر غاما الّذي تطوّر بشكل مستقلّ في البرازيل، الدولة الّتي  كان رئيسها منكرًا لوجود الكورونا، ممّا أدّى إلى "إغراق" أمريكا الجنوبيّة فيه.

أمّا البلاد، (هنا في إسرائيل) فقد عانت من موسم شتاء صعب للغاية. بحلول نهاية عام 2020، تمّ إحصاء حوالي 3400 حالة وفاة جرّاء الإصابة بالكورونا. تُوُفي حوالي 500 منهم خلال شهر كانون الأوّل، بسبب المتحوّر ألفا. وشهد هذا الشهر أيضًا بدء حملة التطعيم الإسرائيليّة، بعدما أبرمت إسرائيل صفقة مع شركة فايزر، الّتي كان لقاحها أول لقاح غربيّ تتمّ الموافقة عليه، لجعل إسرائيل دولة نموذجيّة للّقاح. وبفضل هذا، تلقّت إسرائيل كميّة كبيرة جدًّا من اللقاحات وباشرت بأسرع حملة تطعيم في العالم في ذلك الوقت، لكنّها لم تكن كافية لإنقاذ حوالي 1500 شخص أُصيبوا بالفعل وتُوُفوا خلال الشهر الأوّل من عام 2021. حتّى انحسار موجة المتحوّر ألفا قرابة شهر نيسان. خلال فترة حملة التطعيمات الواسعة والإغلاق الجزئيّ، تُوُفي حوالي 3000 مريض آخر بالكورونا في إسرائيل.

חנויות סגורות וריקות מאדם בשוק העיר העתיקה בירושלים | צילום: Roman Yanushevsky, Shutterstock
فترة مليئة بحالات الموت، الحجر المنزليّ والإغلاقات. محلّات تجاريّة مُغلقة وخالية من الناس في سوق البلدة القديمة في القدس | تصوير: Roman Yanushevsky, Shutterstock
 

أزمة عالميّة

لم تكن فترة سهلة أيضًا على باقي العالم. في العديد من البلدان، بدأت حملة التطعيمات بتأخير ملحوظ، وحتّى عندما بدأت، فإنّها واجهت صعوبات لوجستيّة مركّبة. بالمقابل، في إسرائيل، كانت هناك بنية تحتيّة جاهزة لدى صناديق المرضى لتقديم اللقاحات بشكلٍ سريع ولمتابعة المطعَّمين ومراقبتهم، أمّا في العديد من البلدان كانت هناك حاجة لإنشاء البنية التحتيّة من الصفر.

لم تنتظر المتحوّرات فِرَق التطعيم، إنّما انتقلت بين الناس وأصابتهم في جميع أنحاء العالم. أُجبرت العديد من الدول على الدخول إلى إغلاقات. لقد انهارت المنظومات الصحيّة، وشهدنا مجدّدًا في بلدان مختلفة، اكتظاظًا في الأقسام الطبيّة والمشارح. في الولايات المتّحدة، أحصوا ربع مليون مريض وحوالي 3500 حالة وفاة يوميًّا. 

 في بريطانيا، قرّروا التطعيم بالجرعة الثانية بعد مضي ثلاثة أشهر من الجرعة الأولى، في محاولة لمنح الجرعة الأولى لأكبر عدد ممكن من الناس في أسرع وقتٍ ممكن. شهد البريطانيّون أرقامًا قياسيّة لأعداد المرضى، وصلت إلى حوالي 50 ألف حالة يوميًّا وأحصوا عشرات الآلاف من الوفيات خلال هذه الفترة. تمّت الموافقة على المزيد والمزيد من اللقاحات، ولكن لم يكن هناك ما يكفي منها، إضافة إلى رهان العديد من الدول على اللقاحات الأقلّ كفاءة والأرخص كلفة وخاصّة المصنوعة في روسيا والصين. في البرازيل، تفشّى المتحوّر غاما على الرغم من فصل الصيف الّذي ساد هناك، إضافة إلى فشل اللقاحات القليلة الّتي توفّرت في البلاد في صدّه.

لقد اكتشفت الدول الفقيرة في العالم أنّها لا تملك لقاحات كافية وأنّها لا تملك مالًا كافيًا لشرائها. حذّرت منظّمة الصحّة العالميّة من التوزيع غير العادل للّقاحات وبدأت في تنظيم حملة تبرّعات باللّقاحات من الدول الغنيّة للفقيرة.

في جنوب إفريقيا، بدؤوا التطعيم بلقاحات أسترازينيكا AstraZeneca، لكنّهم اكتشفوا أنَّ هذا اللقاح بالكاد يحمي من المتحوّر بيتا الإشكاليّ الّذي سيطر على البلاد في حينه، وانتقلوا إلى استخدام لقاحات فايزر Pfizer وجونسون أند جونسون Johnson & Johnson، والّتي كانت أكثر فعاليّة ضدّه.

أطلقت الهند أيضًا حملة تطعيم مركّبة للغاية بسبب حجم البلاد الضخم، مع لقاحات مستورَدة وأيضًا العديد من اللقاحات المُنتَجة في البلاد. بعضها تمّ تطويرها بشكلٍ ذاتيّ وبعضها الآخر كانت نُسخًا محليّة، معتمدة على ترخيص لقاح أسترازينيكا. خلال هذه الفترة، في أوائل عام 2021 كانت معدّلات الإصابة بالمرض في الهند منخفضة جدًّا. لذلك تبرّعت الهند باللقاحات وباعَت بعضها الآخر، وقامَت بالتطعيم ببطء كبير وأزالَت القيود حتّى يتمّ عقد تجمّعات انتخابيّة.

لم يدركوا أنَّ متحوّرًا جديدًا وأكثر خطورةً من أيّ متحوّر سابق عرفه العالم حتّى حينه قد بدأ فعلًا في الانتشار بينهم - وهو المتحوّر الذي مُنِحَ اسم "دلتا". في حين أنَّ الجائحة قد هدأت بالفعل في إسرائيل وبدا أنَّ اللقاحات قد قضت عليه أخيرًا، ارتفعت الأعداد بشكلٍ حادّ في الهند. خلال شهرَي نيسان وأيّار، رصدت الهند مئات الآلاف من الإصابات الجديدة يوميًّا، وأبلغوا عن حوالي 5000 حالة وفاة يوميًّا،  وهي أرقام بالتأكيد أصغر بكثير من الأرقام الحقيقيّة على أرض الواقع. امتلأت المستشفيات حتّى آخرها.

مات الناس خلال انتظارهم لسرير في غرفة الطوارئ. امتلأت محارق الجثث وانهارت ووقف الناس في الدور حاملين جثث أحبّائهم في انتظار المواقد الجنائزيّة في محرقة جثث ميدانيّة مؤقّتة. بينما ينتشر المتحوّر ويضرب البلدان المجاورة، منها نيبال وإندونيسيا وغيرهما، راقب العالم الغربيّ ما يحدث بأريحيّة مبالغ بها، واثقًا في اللقاحات الفعّالة والّتي تمكّنت من القضاء على موجة المتحوّر ألفا، وأظهرت البيانات المعدّلة في البرازيل أنّها هي أيضًا فعّالة ضدّ المتحوّر غاما، الّذي كان حتّى حينه أكثر المتحوّرات إثارةً للقلق.

لكن عندها، اكتشفت إسرائيل حقيقة مخيفة بأنَّ الحماية من اللقاحات لا تدوم كما كانوا يأملون. جلب فتح الأجواء (الرحلات الجويّة) أخيرًا معه عائدين من خارج البلاد، يحملون المتحوّر دلتا، بعضهم تمّ تطعيمهم مرّتين ولم يكونوا مجبرين على الدخول إلى الحجر الصحّيّ عند عودتهم.

انخفضت معدّلات الإصابة بالمرض في تلك المرحلة إلى عدد قليل من الحالات يوميًّا وذلك بدون معرفة أنَّ العديد من المطعَّمين لم يعودوا محميّين بشكل كافٍ، أزالت الدولة جميع القيود. أصبحت إسرائيل أرضًا خصبة لانتشار المتحوّر دلتا. تقدّمت حملة تطعيم الشباب ببطء، وبدأ المتحوّر في الانتشار. في المراحل الأولى لانتشار المرض، لم يكن واضحًا بعد ما إذا كانت لقاحات شركة فايزر المطوَّرة ضدّ الفيروس الأصليّ فعّالة ضدّ المتحوّر دلتا أم إذا لم تكن الحماية الّتي توفّرها طويلة الأمد. ماطلت الحكومة في عمليّة اتّخاذ خطوات مفصليّة للحدّ من الإصابات، حتّى حصلنا على تفشٍّ واسع للمتحوّر دلتا. بدافع اليأس، راهنت الحكومة على الجرعة المعزّزة لكلّ شخص تمّ تطعيمه قبل خمسة أشهر على الأقلّ، وهكذا كشفت إسرائيل للعالم عن حقيقة انتهاء فاعليّة اللقاح بعد بضعة أشهر وحقيقة أنَّ اللقاح لا يزال فعّالًا ضدّ المتحوّر دلتا.

מתחם חיסונים של "מכבי" באולם ספורט בחולון | צילום: Roman Yanushevsky, Shutterstock

استجابت صناديق المرضى في البلاد بسرعة كبيرة. مجمع لقاحات تابع لصندوق المرضى "مكابي" بصالة حولون الرياضيّة | الصورة: Roman Yanushevsky, Shutterstock

فترة انتشار متحوّر دلتا

حاول رؤساء الجهاز الصحّيّ في إسرائيل تحذير العالم من أنَّ ما حدث في إسرائيل سيحدث في دول أخرى أيضًا، بأنَّ اللقاحات المتأخّرة الّتي حصل عليها مواطنوها لن تحميهم، لكن كالعادة لم يستعدّ العالم بشكلٍ مناسب وسمح للمتحوّر دلتا بالانتشار دون رادع. تُوُفي خلال فترة انتشار المتحوّر دلتا، ما بين الأشهر تموز وتشرين الأوّل حوالي 1800 شخصٍ آخر. قرّرت بريطانيا في حينه إزالة جميع القيود والاعتماد على حقيقة وجود نسب مرتفعة من المطعَّمين في المملكة، وهي سياسة أدّت في نهاية الأمر إلى إصابة ملايين الأشخاص.على الرغم من وجود عدد قليل نسبيًّا من الوفيات مقارنة بالشتاء الّذي سبقه، إلا أنَّ حوالي 20 ألف شخص بريطانيّ ماتوا هناك في فترة ستّة أشهر. في أوروبا أيضًا، كانت معدّلات الإصابة منخفضة وعادت الحياة تدريجيًّا إلى حالتها السابقة تقريبًا. بدأت عدّة دول في العالم في إعطاء جرعات معزّزة لمواطنيها، معظمها فقط للأشخاص في المجموعات المعرّضة للإصابة بمضاعفات المرض.

مع برودة الطقس وتراجع فاعليّة اللقاحات، أدركت الدول المختلفة خطأها. ارتفعت معدّلات الإصابة بالمرض مجدّدًا وضربت الدلتا البلدان الّتي اعتقدت بالفعل أنّها آمنة. حطّمت روسيا أرقامًا قياسيّة. وكذلك الأمر في ألمانيا ودول أوروبا الشرقيّة. ارتفع عدد المرضى مجدّدًا، وبالتّالي عدد الوفيات، حتّى لو كانت أقلّ من فترة "ما قبل اللقاحات". وجدت نيوزيلندا وأستراليا اللتان اتّبعتا حتّى حينه سياسة "صفر إصابات" من خلال منع دخول الكورونا إلى البلاد، أنَّ هذه الاستراتيجيّة لم تعد نافعة في مواجهة المتحوّر دلتا. إنّه مُعدٍ للغاية. تفشّى المرض في هذه البلدان أيضًا، وعندها شرعوا في حملات تطعيم واسعة النطاق.

يبدو أنَّ العالم يتحرّك في اتّجاه لقاح آخر للجميع قد يخرجنا هذه المرّة من الوباء. في إسرائيل، تلاشت الأرقام بالفعل إلى الحدّ الأدنى وتمّ إفراغ المستشفيات. عادت الدول الأوروبيّة إلى القيود المخفّفة، وفي الجزء الجنوبيّ من العالم بدأ الصيف الّذي قلّل من الازدحامات في الأماكن المغلقة.

אזרחים בסאו פאולו בברזיל בתור לקבלת חיסון קורונה | צילום: Nelson Antoine, Shutterstock
عاد الفيروس من جديد. مواطنون في ساو باولو في البرازيل يصطفّون للحصول على لقاح كورونا | الصورة: Nelson Antoine, Shutterstock

 
المتحوّر الّذي خلط الأوراق 

ولكن عندها، وقبل شهر ونصف فقط من نهاية العام، أبلغت جنوب إفريقيا عن ظهور متحوّر جديد، شديد العدوى، وهو النوع الأكثر عدوى حتّى الآن، والّذي حظي بسرعة أكبر من جميع سابقيه من المتحوّرات بشرف تكريمه بحرفٍ يونانيّ، أوميكرون. على الرغم من أنَّ عددًا كبيرًا من المتحوّرات حظيت بأحرف مثيرة للخوف، بين الدلتا والأوميكرون، وذلك بعد اكتشافها خلال العام في أجزاء مختلفة من العالم، لكنّ أيًّا منها لم يحظَ بقدرة العدوى العالميّة دي، حتّى وصل "المهاجم" الجديد وبدأ في الهجوم والانتشار. وعلى عكس سابقيه، فإنّه يهاجم المطعَّمين والمتعافين أيضًا بأكثر سهولة من المتحوّرات السابقة. يبدو أنَّ لا شيء يقف في طريقه سوى لقاح جديد جدًّا، وحتّى ليس كلّ لقاح جديد سيكون فعّالًا ضدّه.

وهكذا انتهى عام 2021 بذروة وبائيّة جديدة حول العالم، في حين لا يزال الخطر الّذي يشكّله الأوميكرون غير واضحٍ. يبقى السؤال، أين نتّجه من هنا؟ هل سيصيب الأوميكرون الجميع ويُنهي الجائحة؟ أم أنّه سيظهر متحوّر آخر أكثر تعقيدًا، بحيث يمكنه بسهولة إصابة أيّ شخص أصابه الأوميكرون قبل ذلك؟ هل ستكون الحماية الّتي حصلنا عليها حتّى الآن من خلال اللقاحات والإصابات السابقة كافية لجعل المتحوّرات القادمة ليست أكثر من زكام؟ أم أنّها ستكون فتّاكة أكثر من سابقيها؟

ليس لدينا خيار سوى اكتشاف ذلك سويًّا العام المقبل. بدون عرض ترويجيّ (Trailer)، وبدون حرق للمشاهد (Spoilers)، لن يعرف أحد كيف سيستمرّ "الفيلم" الّذي نعيشه، المُسَمَّى "واقعًا".

0 تعليقات