لماذا ليس الآن؟ لا تؤجِّل عمل اليوم إلى الغد!
حول سيكولوجيّة التّسويف (التّأجيل)

التّهرّب من المواجهة

يهوديت كتس هي مؤلّفة كتاب "نفكّر جيّدًا"، وهي متخصّصة في علم النّفس الإيجابيّ - دراسة الرّخاء وتحقيق الذّات لدى بني البشر - وتقريبه لعامّة النّاس بواسطة المدوّنات الصّوتيّة، والكتب، والمحاضرات والاستشارة. الفارق كبير، برأيها، بين موقفنا العلنيّ تجاه التّسويف وموقفنا الذّاتيّ الدّاخليّ: "نحبّ الضّحك من سلوكنا التّسويفيّ. يُعتبر اليوم القليل من التّسويف أمرًا لا بدّ منه ومُسلّيًا، وحتّى مثيرًا للشّغب. إلّا أنّه عند إلقاء نظرة متعمّقة، في لقاءات الاستشارة على سبيل المثال، نجد أنّ الصّورة أكثر تعقيدًا. تبتعد آمال الفرد وإمكانيّة تحقيق ذاته إذا شعربأنّ التّسويف يتحكّم به".

راجَ الإقرار في السّنين الأخيرة بأنّ التّسويف لا ينجم عن الكسل، ولا حتّى عن سوء إدارة الوقت. يبدو أنّ جذور التّسويف مغروسة في صعوبة تعاملنا والمحيطين بنا، مع الشّعور السّلبي تجاه المهام المثيرة للتّحدّيات. تعتقد فيوشا سيرويس (Sirois)، الباحثة في سيكولوجيا التّسويف، أنّ التّسويف هو مثل الدّالّة، الّتي يتجنّب الشّخص بواسطتها الممارسة السّلبيّة المرتبطة بالقيام بمهمّة ما. يقوم الشّخص بعمل آخر يضمن له الاكتفاء الفوريّ، بدلًا من مواجهة التّحدّي الحِسّيّ المنوط بالمهمّة الأصليّة. 

تدّعي سيرويس أنّه، وفقًا لذلك: يزداد اختيارنا للتّسويف مع ازدياد انشغالنا في التّعامل مع عبء عاطفيّ ما. 

يتيح الامتناع عن القيام بمهمّة مثيرة لِلشّعور بفقدان الثّقة أو بالعجز، واستبدالها بمهمّة أسهل منها، استجابةً عاطفيّةً لرغبة المسوّفين والمُسوّفات بالشّعور الفوريّ بالرّضا. إلّا أنّ هذا التّصرّف يضرّ بأمر لا يقلّ أهمّيّة - مدى رضانا عن أنفسنا. 

يوفّر لنا التّسويف أحيانًا حمايةً من الخوف العميق من الفشل. أعطت كتس المثال التّالي: "إذا كنت تحلم بتأليف كتاب، لكنّك لا تعمل حقًّا على قلب الحلم إلى حقيقة، سيلاحقك دائمًا الوعد والأمل بأنّ الكتاب قد يصبح الأكثر مبيعًا على المستوى الدّوليّ، وتتمّ ترجمته إلى عشرين لغة". "أو إذا أردت إقامة علاقة زوجيّة، لكنّك 'لا تجد وقتًا للخروج للمواعيد'، سيبقى الرّجاء والأمل يراودانك دائمًا، بالعثور على كامل الأوصاف". "نحن نعلم بأنّ خوض تجربة تأليف الكتاب، أو الخروج للمواعيد قد يكون محفوفًا بخيبة الأمل. هل سينفجر رجاؤنا وخيالنا في أوجهنا؟ ماذا سيقولون عني؟ والأسوأ من ذلك - ماذا أفكّر عن نفسي؟ ستبدو لي أيّة مهمّة، عدا عن الخروج للمواعيد، أو تأليف الكتاب، أكثر جاذبيةً من التّخوّف من موعد مربك، أو كتاب جديد مبهم غامض".

قصّة حزينة، قصّة سعيدة

أجريت تجربة لفحص العلاقة بين التّسويف وضبط المشاعر، طُلب فيها من طلّاب جامعيّين قراءة نصّ حزين، يروي قصّة سائق اقتحم مفرق طرق بالضّوء الأحمر، فقَتل شخصًا ماشيًا شابًّا، أو قراءة قصّة سعيدة أنقذ فيها شخص آخر الماشي من الدّهس. طُلب من المشاركين التّعبير عن مشاعرهم في حال كانوا هم الشّخصيّة الرّئيسيّة في القصّة، ثمّ أجري لهم امتحان في حلّ المشاكل، ووُعدوا بالحصول على تقرير عن انجازاتهم فيه. دُعي المشاركون، قبل التّقدّم للامتحان، للاستعداد له، وذلك داخل غرفة تحوي مُلهيات عديدة، مثل الألغاز والألعاب المحوسبة والمجلات وما إلى ذلك. تبيَّن أنّ المشاركين الّذين قرأوا القصّة الحزينة قضوا وقتًا أقلّ في الاستعداد للامتحان، ووقتًا أطول في المُلهيات. 

حاول الباحثون، في الجزء الثّاني من التّجربة، الكشف عمّا إذا هرب المشاركون المكتئبون المُحبطون إلى التّسويف، لِصرف انتباههم عن حالتهم النّفسيّة السّيئة، أو أنّهم أرادوا بذلك تحسين مزاجهم؟ في هذه المرحلة، أخبِر قسم من المشاركين من المجموعتين، أنّ التجربة تفحص علاجًا يعتمد على رائحة أعدّت لِتثبيت المشاعر، وهي تحافظ على مشاعرهم الحاليّة دون تغيير. أمل الباحثون بذلك أن يؤمن المشاركون بأنّ مزاجهم السّيء أو الجيّد غير قابل للتّغيير. 

أشعل الباحثون هذه المرّة شموعًا معطّرة، داخل غرفة مغلقة جلس فيها المشاركون لبضع دقائق. وُجد أنّ المشاركين الّذين قرأوا النّصّ الحزين، واقتنعوا أنّه من الصّعب تحسين مزاجهم، قضوا زمنًا أقلّ في المُلهيات والتّسويف وبذلوا وقتًا أطول في الاستعداد للامتحان، بالمقارنة مع أولئك الذين قرأوا النّصّ الحزين، ولم يتعرّضوا للرّائحة الّتي تحافظ على المشاعر. ذلك يعني أنَّ ميلنا للتّسويف متعلّق بحاجتنا للتّشجيع والتّعافي. فضّل المشاركون تأجيل الاستعداد للامتحان، ما دام تغيير المزاج ممكنًا. وقلّ الدّافع للتّسويف، بمجرد الإدراك بأنّه لا مجال لتغيير المزاج. 

تشير هذه التّجربة، إلى جانب تقييدات البحث النّاجمة عن صعوبة إثارة مشاعر الحزن والفرح، بشكل مصطنع في ظروف المختبر، إلى الخصائص السّيكولوجيّة المرتبطة بالتّسويف - استخدام التّسويف لضبط المشاعر السّلبيّة. 

الرّضا الفوريّ

يرتبط تركيز المسوّفين على "الآن وها هنا" بصفة أُخرى - الاندفاعيّة. أشارت بعض التّجارب الّتي هدفت لفحص الخصائص والسّمات الشّخصيّة إلى وجود علاقة إيجابيّة بين التّسويف والقابليّة للاندفاع. 

لا يبدو الرّابط بين الاندفاع والتّسويف أمرًا بديهيًّا أو حدسيًّا - إذ يُؤجّل المسوّف القيام بالمهام في حين ينفّذ المندفع الفعل فورًا. يمكن القول، مع ذلك، أنّ المسوّف يريد، هو الآخر، القيام بعمل شيء ما بشكل فوريّ - إذ يريد تحسين شعوره وتجنّب المشاعر السّلبيّة، من خلال التّركُّز بمهمّة بديلة. 

يمكن أن يتفهّم الّذين لا يعتبرون أنفسهم مُسوّفين، المواقف الّتي تتغلّب فيها الحاجة لتهدئة المشاعر الجيّاشة على الرّأي الرّزين. قد تكون تلك هي الرّوجيلاخ النّاعمة والحلوة، الّتي أكلناها بعد الخصام مع الزوج أو الزوجة، على الرّغم من قرارنا المسبق بالتّحوّل لتغذية أكثر صحية؛ قد نفضّل ترتيب الملابس بعد غسلها على تحديد موعد مع الطّبيب، وقد يكون شيئًا آخر. 

يضمن تناول الرّوجلاخ أو ترتيب الملابس شعورًا إيجابيًّا فوريًّا، من النّوع الّذي تسمّيه يهوديت كتس "الفوز السّريع" - النّجاح الفوريّ، وكأنّه يدلّ على النّجاح في ضبط المشاعر السّلبيّة. تثير كلّ واحدة من هاتين الفِعلتين، كلّ منهما بطريقتها الخاصّة، إفراز الدّوبامين - تلك المادّة الّتي تثير فينا الشّعور بالرّضا بعد تناول الشّوكولا، أو الانتقال إلى مرحلة جديدة في لعبة محوسبة، أو تلقّي إطراءٍ من الآخرين، أو شيئًا أفضل من ذلك - الحصول على حوّالة بنكيّة ماليّة، وما إلى ذلك. 

يرتبط الدّوبامين أيضًا بحالة الرّغبة في "المزيد"، وحتّى بحالات الإدمان. يتضعضع إيماننا بأنفسنا وبقدرتنا على ضبط النفس، بسبب التّفكير في اختيارنا الخاطئ، وذلك بمجرد انخفاض تركيز الدّوبامين. إلّا أنّه من النّاحية البيولوجيّة والسّلوكيّة، فقد شجّع دماغنا التّسويف وعزّز دائرة المكافأة، ممّا يشجّعنا على اختيار التّسويف المرّة القادمة، الّتي نواجه فيها صعوبة ما.  

ما الذي يجعل الشّخص غير المدمن على الرّوجلاخ، ولا يريد حمل عبء ذنب التّسويف على كتفيه، يختار الرّوجلاخ وما يُمثّله في اللّحظة الحاسمة؟ يقف أساس تطوريّ جليّ وراء التّفسيرات السّيكولوجيّة المختلفة لهذه المسألة. يتصادم التّخطيط المسبق وضبط النفس دائمًا مع ميولنا الحيوانيّة لإشباع رغباتنا المُتّقدة، الآن وها هنا. 

توضّح لنا يهوديت كتس أنّ صراعًا يجري بين مركزَيْ الفعاليات في الدّماغ: الجهاز الحِسّيّ الحيوانيّ، وهو الأقدم، والمسمى بالجهاز الحوفيّ (أو النّطاقيّ)، الّذي يٌفعّل عندما نحبّ أن نسعدَ في هذه اللّحظة، ونتجنّب الأذى والوعيد؛ وبالمقابل، قشرة الفصّ الجبهيّ الّتي تطوّرت في مراحل متأخّرة من التّطوّر، وبلغت درجة بالغة من التّعقيد لدى بني البشر. هذه القشرة هي المسؤولة عن التّحكّم بالذّات، والتّخطيط وضبط اتّخاذ القرارات. تقول يهوديت كتس: "جهاز 'الآن وها هنا' هو الفائز عند التّأجيل". وحقًّا، فقد أشارت الدّراسات الّتي استخدمت فيها تكنولوجيا المسح الوظيفيّ للدّماغ، بواسطة الرنين المغناطيسي (fMRI)، إلى تناسب سلبيّ بين الميل للتّسويف وشبكة الضبط الخاصة بالجهاز الحوفي، - يشتدّ ميل الشّخص للتّسويف مع تضعضع الرّابط بين الجهاز الحوفي، والمناطق الفعّالة في قشرة الفصّ الجبهيّ. 

تطوّر لدينا الشّعور بالخوف، والفرح، والجوع، والعزلة وحبّ الاستطلاع، كما تطوّر عند سائر الحيوانات، نظرًا لِضرورتها للبقاء على قيد الحياة. يسهم اختيارنا لتجنّب ما يخيفنا، وإطالة تفحص ما يثير فضولنا، في بقائنا على قيد الحياة وعلى التّعلّم. يختلف الإنسان عن سائر الحيوانات بقدرته على التّخطيط لعدّة أيّام، بل أسابيع، وحتّى لأشهر إلى الأمام. ما هي إذًا الخصائص السّيكولوجيّة الّتي تجعلنا نتجاهل البرامج الّتي خطّطناها بأنفسنا، والأهداف التي وضعناها نصب أعيننا؟ 

وماذا الآن؟

تحتلّ محاضرة تيم أوربان (Urban) عن موضوع التّسويف المرتبة الثّالثة في قائمة محاضرات TED الأكثر مشاهدة على مرّ الزمن، أكثر من 67 مليون مشاهدة. يؤدّي أوربان محاضرته بشكل رائع. إنّه يروي تجربته كمُسوّف بروح الدّعابة والفطنة والذّكاء. يغيّر أوربان نغمته، ويصبح أكثر جديّةً في الجزء الأخير من محاضرته، إذ يحكي لجمهور مشاهديه عن مفاجأته الكبرى، عندما رأى كيف أسفرت مقالة نشرها على مدوّنته قبل بضع سنين، عن عدد كبير من الرّسائل المؤلمة، التي أُرسلها أشخاص عبر البريد الالكتروني، يصفون فيها الإحباط العميق والشّعور بانعدام تحقيق المهام بسبب ميلهم للتّسويف.

" داخل دماغ المسوّف المماطل" محاضرة TED لِتيم أوربان:

كيف نكوّن المزاج الجيّد؟ 

تقول كتس إنّ إنشاء دائرة من النّجاح هو أحد أساليب التّغلّب على دائرة التّسويف القاسية. يتوجّب علينا، من أجل ذلك، تفكيك المهمّة الصّعبة الّتي نواجهها إلى مهام صغيرة جدًّا يمكننا إنجازها دون أن تثير نفورنا. مثلًا، يمكننا اتّخاذ قرار بالقيام بثلاث تمارين ضغط فقط هذا اليوم، وذلك يكفي، في حال مرّت الأيّام، ولم يتوفّر لدينا الوقت الكافي للقيام بالتّمارين الجسمانيّة، الّتي نرغب بالقيام بها بشكل يوميّ. وتضيف كتس: "قد يتبيّن لنا أحيانًا أنّ تغيير الهدف بشكل مؤقّت واستبداله بتحدٍّ أسهل كثيرًا، هو خطوة ضروريّة تجاه ترميم ثقتنا بأنفسنا، حتّى وإن كانت رغبتنا الحقيقيّة هي القيام بـ 30 تمرين ضغط كلّ مساء".

تؤكّد كتس أنّه عادةً، سرعان ما تزداد ثلاثة تمارين الضّغط هذه، وتصبح خمسةً ثمّ عشرةً وأكثر. ذلك أنّ ما يعيق علينا كثيرًا هو التّخوّف من الخطوة الأولى. يسهّل كثيرًا الاستمرار بالعمليّة بمجرّد تحريك بدايتها. 

ثلاثة، أربعة، و…

هل ما يزال التسويف عالقًا بكم، على الرّغم من أنّكم سمحتم لأنفسكم ونمَّيتم تعاطفًا تجاهها، وفكّكتم المهمّة إلى مهام صغيرة؟ اقترحت كتس، من خلال فصلها في جريدة "هآرتس"  "حول علم النّفس الإيجابيّ والسّعادة"، عددًا من النّصائح العمليّة الإضافيّة، الّتي يمكن أن تساعد في التّغلّب على التّسويف. تتمثّل النّصيحة الأولى في تحديد مواعيد نهائيّة مُلزِمة للمهام، الّتي تفتقر إلى تاريخ إنهاء محدّد، وإدراجها في التّقويم السّنويّ. تقول كتس: "قد تُؤجَّل إلى الأبد عمليّة بسيطة، لكنّها مخيفة، مثل دعوة شابٍّ للخروج للقاء عاطفيّ، إذا لم يتمّ تحديد موعد نهائيّ لها".

وتنصح كتس كذلك تكوين حالات الـ "لا خيار" المُلزِمة. يمكن مثلًا الالتزام أمام الأصدقاء بأنّك ستقوم بنشر نصّك "تمامًا بعد أسبوع من الآن"، لحثّ نفسك على الكتابة، أو دفع الأجرة سلفًا لِمدرّبك الشّخصيّ، للالتزام بالقيام بالتّمارين الرّياضيّة. 

وهناك أسلوب آخر فعّال، مع أنّه يبدو تافهًا نوعًا ما، هو العدّ في القلب أو بصوت عالٍ، "ثلاثة، أربعة، و…"، تمامًا كأنّك على وشك الانطلاق على ظهر حمار وحش بريّ، أو، على الأقل، كأنّك على وشك انتزاع لاصقة الجروح عن جِلدك. وازنت كتس بين هذا الأمر وبين القفز بالحبال - قفزة البنجي -، إذ يقلّ احتمال القفز كلّما طال زمن الوقوف قبله، والنّظر إلى الأسفل، وطرح الأسئلة على النّفس. يسهم الانطلاق نحو الهدف، بكل بساطة، في البدء به. وفي النّهاية، يمكنكم الاتّفاق مع شخص آخر، أو مع عدّة أشخاص على موعد مشترك، يعمل كلّ واحد منكم حتّى قدومه على إنجاز المهمّة الّتي تعنيه. يمكنكم الالتقاء وجهًا لوجه في أمسيات بغرض الكتابة، أو العمل عن بُعد سويةً عن طريق "الزوم" أو عن طريق أيّ تطبيق محوسب مناسب. يكفيكم، إذا كنتم مثلي، مجرّد التّخوّف ممّا قد يفكّر عنكم "الشّرطيّ" الّذي يراقبكم من الجانب الآخر عبر كاميرا الحاسوب، لِيجعلكم تركضون نحو العمل على المشروع الذي أجّلتموه مرارًا وتكرارًا. 

نتقدّم بالشّكر الخاصّ لِيهوديت كتس الّتي أجرينا معها المقابلة لإعداد المقالة. يهوديت كتس هي أديبة، ومحاضرة، ومُدرِّبة، ومُدوِّنة صوتيّة (بودكاستر) مختصّة في مجال علم النّفس الإيجابيّ (دراسة السّعادة) وعلم النّفس التّطبيقيّ الّذي يعتمد على الأبحاث والدّراسات. تُسجّل كَتس المدوّنة الصّوتية "نفكّر جيّدًا"، وألّفت الكتاب الشّائع "نفكّر جيّدًا - تجرّأ أن تعيش الحياة الّتي تناسبك".