كيف يؤثِّر صيام شهر رمضان على قدرة الرّياضيّين على التّوفيق بين المتطلِّبات الفسيولوجيّة للصّيام ومتطلّبات التّدريب والأداء البدنيّ؟
يُمارس الصّيام لأسبابٍ متعدّدة، منها الدّينيّة، الصّحيّة، والسّياسيّة، إلّأ أنّ صيام شهر رمضان يعدُّ من أكثر أنماط الصّيام شيوعًا، حيث يمتنع المسلمون عن الطّعام والشّراب من شروق الشّمس حتّى غروبها، لمدّة تتراوح بين 29-30 يومًا. يشّكل هذا النّمط من الصّيام تحدّيًا حقيقيًّا، خاصّة للرّياضيّين المحترفين الّذين يعتمدون على الغذاء كمصدرٍ أساسيٍّ للطّاقة، أثناء التّدريب والمشاركة في البطولات الرّياضيّة المختلفة. حيث لا يقتصر تأثير الصّيام على أوقات تناول الوجبات فحسب، بل وقد يؤدّي إلى اضطرابات في ساعات النّوم وفي العمليّات الفسيولوجيّة المختلفة، مثل العمليّات الأيضيّة والهرمونيّة، الكتلة العضليّة والقدرة على التّحمّل والتّعافي.
يثير صيام شهر رمضان جدلًا واسعًا في الوسط الرّياضيّ، خاصّة بالتّزامن مع أوقات التّدريب والمنافسات، فبينما يحرص بعض الرّياضيّين المحترفين على الالتزام بالصّيام، يختار آخرون الإفطار لضمان تزويد أجسامهم بالطّاقة اللّازمة. تمكَّن الكثير من رياضيّي النّخبة من تقديم أداءٍ احترافيٍّ، وإحراز الكثير من النّجاحات أثناء صيامهم شهر رمضان. على سبيل المثال: استطاع حكيم أولاجون، أسطورة الدوري الأمريكيّ لكرة السّلّة (NBA)، الحفاظ على أدائه المذهل خلال الشّهر الفضيل، بل وحقّق بعضًا من أبرز إنجازاته في المباريات أثناء الصّيام. "إنّه وسيلة لتطهير الجسد والعقل، ويجعلني أشعر بالرّاحة." صرَّح أولاجون في إحدى مقابلاته. كما أشار مهاجم ريال مدريد كريم بنزيما إلى أهمّيّة الصّيام بالنّسبة له، موضّحًا كيف يعزّز انضباطه الذّهنيّ. إذًا كيف ينجح اللّاعبون المسلمون في الحفاظ على مستوياتهم الرّياضيّة رغم انقطاع مصادر الطّاقة، الطّعام والشّراب، طيلة فترة الصّيام؟ وما هو الرأي العلميّ حول تأثير الصّيام على الأداء البدنيّ؟
الصّيام ومصانع الوقود الدّاخليّ: كيمياء البقاء والتكيّف الذّكيّ
للإجابة عن هذه الأسئلة، دعونا نبدأ بشرح آليّة عمل الجسم أثناء الصّيام، وكيفيّة تكيُّف أعضاؤه بغياب الطّعام والشّراب لساعاتٍ طويلة.
يُنتج الجسم الطّاقة بالاعتماد على عدة آليّات، حسب توفّر الغذاء. في الوضع الطّبيعيّ، أي في حالة تناول الطّعام، يُعدُّ الجلوكوز مصدر إنتاج الطّاقة الأساسيّ؛ بعد تناول الوجبة، يقوم الجسم بهضم الكربوهيدرات وتحويلها إلى سكّر الجلوكوز الّذي يُمتصّ في الأمعاء ونقله إلى مجرى الدّم، ممّا يؤدّي إلى زيادة مستويات السّكّر في الدّم. في هذه الأثناء يعمل البنكرياس على إفراز هرمون الأنسولين، الّذي يعزّز امتصاص الجلوكوز من الدّم إلى خلايا الجسم لاستخدامه في إنتاج الطّاقة. يتحلّل الجلوكوز إلى جزيئات طاقة بمجرّد دخوله إلى الخلايا في عمليّة تحلّل الجلوكوز (Glycolysis). بالإضافة إلى ذلك، يقوم الأنسولين بتخزين فائض الجلوكوز في الكبد والعضلات على شكل جليكوجين، أو تحويله إلى أحماضٍ دهنيّة تخزّن في الخلايا الدّهنيّة.
تختلف آليّة إنتاج الطّاقة في حالات الصّيام. في ساعات الصّيام الأولى، تبدأ مستويات السّكّر بالدّم بالانخفاض، ممّا يؤدي إلى إفراز هرمون الجلوكاجون من البنكرياس، الّذي يعمل عكس الأنسولين، حيث يُحفّز الكبد على تكسير الجليكوجين المخزّن إلى جلوكوز، في عمليّة تُعرف بِتحلّل الجليكوجين (Glycogenolysis). بعد حوالي 12 ساعة من الصّيام تبدأ مخازن الجليكوجين بالنّفاذ، يُنتج الكبد الجلوكوز من الأحماض الأمينيّة (البروتينات) والجليسرول (المشتقّ من الدّهون) في عمليّة تعرف بِاستحداث الجلوكوز (Gluconeogenesis). تعدّ عمليّة استحداث الجلوكوز ضروريّة للحفاظ على مستويات السّكّر بالدّم، لكنّها غير مناسبة للمدى الطّويل، حيث لا يمكن الاعتماد على البروتينات كمصدرٍ أساسيٍّ للطّاقة، لذلك في حالة استمرار الصّيام يلجأ الجسم إلى تكسير الدّهون (Lipolysis)، حيث تتحلّل الدّهون المخزنة إلى أحماضٍ دهنيّةٍ حرّة، تنتقل هذه الأحماض إلى الكبد والقلب والعضلات لتستخدم كمصدر مباشر للطّاقة. بالإضافة إلى ذلك، يحوّل الكبد الأحماض الدهنيّة إلى أجسام كيتونيّة، لتصبح هذه الأجسام مصدر الطّاقة الرّئيسيّ لتغذية الدّماغ، بسبب عدم قدرة الدّماغ على استخدام الدّهون مباشرةً كمصدر للطّاقة.
هل يكون الصّيام عبئًا يُثقل خُطى الرّياضيّ، أم سرًّا يعيد تشكيل قوّته من الدّاخل؟
والآن حان وقت الإجابة عن السّؤال التّالي: هل من الآمن ممارسة الرّياضة والتّمارين خلال شهر رمضان؟
تُجرى العديد من الدّراسات على الرّياضيّين الصّائمين خلال شهر رمضان، بهدف فهم تأثير الصّيام على الأداء الرّياضيّ. يؤثّر الصّيام بشكل متفاوت على الأداء الرّياضيّ، اعتمادًا على نوع النّشاط البدنيّ. حيث يمكن تصنيف التّمارين إلى تمارين هوائيّة (Aerobic) ولا هوائيّة (Anaerobic)، وكل منهما يتأثّر بالصّيام بشكلٍ مختلف، نظرًا لتأثّر أنماط التّمثيل الغذائيّ ومستويات الطّاقة بالجسم. تشمل التّمارين الهوائيّة أنشطة مثل الجري لمسافات طويلة، تمارين التّحمّل بأنواعها، ركوب الدراجات، والسباحة. هذه التّمارين تعتمد بشكل أساسيٍّ على الأكسجين لإنتاج الطّاقة من خلال استهلاك الكربوهيدرات والدّهون المخّزنة. بينما تعتمد التّمارين اللاهوائيّة على مخزون الجليكوجين في العضلات، لإنتاج الطّاقة بسرعة دون الحاجة إلى الأكسجين، وتشمل أنشطة مثل رفع الأثقال، والعدو السريع والتدريبات عالية الشّدّة (HIIT). أظهرت العديد من الدّراسات السّابقة أنَّ الجفاف قد يؤثّر سلبًا على تمارين التّحمّل، لكنّه لا يؤثر على الأداء اللاهوائيّ. كما وأظهرت الدّراسات أنّ تأثير تغيير أنماط النّوم ضئيل على الأداء اللّاهوائيّ، في حين لوحظ انخفاض في أداء التّحمّل في نفس الظّروف. وفقًا لذلك، كان الاعتقاد السّائد أنَّ صيام رمضان قد يؤثّر بشكل أكبر على الرّياضات الهوائيّة مقارنةً باللّاهوائيّة، خاصّة فيما يتعلّق بالقدرة على التّحمّل والجفاف.
بيّنت عدّة أبحاث، الّتي تعمّقت في دراسة الأداء البدنيّ لرياضيّين محترفين أثناء شهر الصّيام، أنّ الأداء البدنيّ والتّدريب لم يتأثّروا سلبًا بالصّيام، بشرط تنظيم التّغذية والنّوم الجيد. إذ لم يُلاحظ أيّ تغيّير في الأداء الهوائيّ واللّاهوائيّ، كما ولم تتأثّر الغالبيّة العظمى من معايير الأداء البدنيّ بصيام رمضان سواءً عند اختبارها صباحًا أو مساءً. كما وصّرحت قنطة أحمد (Qanta Ahmed) في مقابلة إذاعية، وهي أستاذة في كلّيّة الطبّ بجامعة نيويورك لانغون لونغ آيلاند (NYU Langone Hospital—Long Island)، ومؤلّفة مشاركة في ورقة بحثيّة تحلّل تأثير رمضان على لاعبي كرة القدم المسلمين: "يتمكّن معظم الرياضيّين الصّائمين خلال شهر رمضان من التّكيّف، لأنّه بمجرّد اتّباعهم روتينًا يشمل ساعات نوم كافية وتغذية سليمة، وبالطّبع الحفاظ على الترطيب… فإنّ معظم الصّدمة الّتي يتعرّض لها جسمهم تكون في الأسبوع الأوّل".
احتفال المنتخب الجزائريّ بتأهّله إلى دور الـ16 بعد تعادله مع نظيره الرّوسيّ بهدف لكلّ فريق بالبطولة المقامة في البرازيل عام 2014. يتكوّن الفريق بالكامل من لاعبين مسلمين| Ivan Sekretarev / AP
يبدو إذًا أنّ ممارسة النّشاط البدنيّ أثناء الصّيام تعدّ آمنة، بشرط الالتزام بنمط حياة صحّيّ يشمل الحصول على قسط كافٍ من النّوم، وتناول وجبات متوازنة غنيّة بالبروتينات والكربوهيدرات، مع الحرص على وجبة السّحور، والحفاظ على التّرطيب، وتعديل أوقات التّمارين بما يتناسب مع احتياجات الجسم. لذلك، يمكن للأشخاص الأصحّاء متابعة أنشطتهم البدنيّة المعتادة خلال الصّيام دون قلق. وتذكّر بأنّ جوهر الصّيام لا يقتصر على الامتناع عن الطّعام والشّراب فحسب، بل هو تجربة روحيّة وجسديّة متكاملة تهدف إلى تهذيب النّفس وتعزيز الصّبر والانضباط!
رمضان كريم!