تُغيّرُ فيروسات الدّنغ (أو الضّنك) والزّيكا رائحةَ جسم المريض - وتَجذب البعوض الذي يُسهم في استمراريّة سلسلة العدوى

يُخيّل لنا أحيانًا أنَّ البعوضة تُصرُّ على لسع أشخاص معيّنين وتترك الآخرين. إنّها ظاهرة حقيقيّة. لكن لماذا يحدث ذلك؟ هل هؤلاء الأشخاص "أطيب مذاقًا" للبعوضة من غيرهم؟ تتوفّر دلائل كثيرة على أنّ البعوضة تنجذبُ إلى أشخاص معيّنين لأسباب متنوعة، مثل حرارة الجسم، وتركيز غاز ثنائي أكسيد الكربون في أنفاسهم، وشرب المُسكرات، ونوع الدّم وحتّى الحَمْل

تشير دراسة جديدة نُشرت في مجلة Cell، إلى أنّ فيروسات الدّنغ والزّيكا التي تُسبّب أمراضًا قاتلة تعمل بطريقة متقنة، لتزيد من انتشارها من مكان (أو شخص) إلى آخر. تعمل هذه الفيروسات بطريقة فعّالة عجيبة غير مباشرة، على تغيير رائحة أجسام الأشخاص المضيفين لها، إلى نكهةٍ تَجذب المزيد من البعوض التي تلسع المريض. تستهلك البعوضة الدمَ المصاب بالفيروس، وتنقله إلى المزيد من الضحايا.

יתוש אדס | Fendizz, Shutterstock
يحمل البعوض الفيروسات التي تُسبّب الأمراض، من ضمنها فيروس الدّنغ وفيروس الزّيكا. في الصورة بعوضة الزاعجة | Fendizz, Shutterstock

 

الكائن الحيّ الأكثر فتكًا

يُعدُّ البعوض، والإناث منه بشكل خاصّ، الكائن الحيّ الأكثر فتكًا بالإنسان، لأنّ الأمراض التي ينقلها مثل الملاريا والزّيكا وحُمّى الدّنغ والحُمّى الصفراء تُسبّب موت مئات آلاف الأشخاص كلّ عام، خاصّةً في المناطق الاستوائيّة وشبه الاستوائيّة من العالم. يُعلَن في بلادنا أيضًا، من حينٍ إلى آخر، عن مرضى أصيبوا بالزيكا أو الدّنغ خلال رحلاتهم خارج البلاد. 

حصل ارتفاع هائل في العقدين الأخيرين، وفقًا لمعطيات منظّمة الصحّة العالميّة، في عدد المصابين بحمّى الدّنغ، المقدّر حاليًّا بحوالي 390 مليون شخص في السنة. يشعر حوالي 80% من المصابين بمرض خفيف أو لا يشعرون بأية أعراض لِلمرض، ويعاني باقي المصابين من مرض أكثر خطورةً يشبه الأنفلونزا، مصحوبًا بالحُمّى والصُّداع وأوجاع المفاصل والتقيُّؤ، وقد يتطوّر عند البعض، في بعض الحالات، مرضٌ شديدٌ يُشكّلُ خطرًا على الحياة يتجلّى بنزيف دمويٍّ شديد.

ويُسبّب فيروس الزّيكا عادةً مرضًا خاليًا من الأعراض، أو تكون الأعراض خفيفة وعابرة مثل الحُمّى والطفح الجلديّ والصُّداع. لكن، قد تؤدّي إصابة المرأة الحامل بفيروس الزّيكا إلى ضرر خطير لِلجَنين في رحمها. أدّى اندلاع الفيروس في البرازيل سنة 2015م إلى ولادة آلاف الأطفال، الذين عانَوْا من عيوب في الدّماغ مثل صغر الرأس (microcephaly)، وهي حالة يكون فيها الرأس والدّماغ أصغر من المعتاد. 

تنتقل فيروسات الدّنغ والزّيكا من شخصٍ إلى آخر عن طريق لسعات البعوض المصابة بها، خاصّةً بعوضة النمر الآسيويّ (Aedes albopictus) وبعوضة الزّاعجة المصريّة (Aedes aegypti). يمكن أن تَنقل البعوضة الفيروس إلى شخصٍ ما عندما تلْسعه، بعد أن تكون قد لَسَعت شخصًا مُصابًا، وامتصَّت دمَه وأصيبت. لا تتوفّر لدينا اليوم علاجات فعّالةٌ، أو لقاحاتٌ ضدّ فيروسات الدّنغ والزّيكا، مع أنّه تمّ التصديق مؤخّرًاعلى لقاح محدود ضدّ فيروس الدّنغ. يُعطى هذا اللقاح للأولاد والشبيبة القاطنين فقط، في مواقع الخطر، الذين كانوا مرضوا بالدّنغ مرّةً واحدةً - لأنّ الإصابة الثانية بالفيروس غالبًا ما تُسبّبُ مرضًا أصعب كثيرًا من الإصابة الأولى.

הדמיה של נגיפי דנגי | Kateryna Kon, Shutterstock
لايوجد علاجٌ فعّال، إلّا أنه تمت المصادقة مؤخرًا على لقاح محدّد ضدّ الفيروس. في الصورة محاكاةٌ لفيروس الدّنغ | Kateryna Kon, Shutterstock

 

رائحة المرض

أشارت الدراساتُ السابقة إلى أنّ الكائن الطفيليّ الذي يُسبّب مرض الملاريا (Plasmodium falciparum) يُغيّرُ رائحة جسم المرضى. يجعلُ هذا المتطفّل الأشخاص المصابين به يُفرزون جزيئات متطايرة من الجلد، لها رائحة تَجذب البعوض، وتجعلها تُفضّلُ لَسْع الأشخاص المصابين بالذات. أراد طاقم الأبحاث من جامعة طاسين جوا الصينيّة، وعلى رأسهم هيونغ جانغ (Zhang)، أن يَفحصوا فيما إذا كانت فيروسات الزيكا والدّنغ أيضًا تُناور في روائح مُضيفيها. اكتشف طاقم الباحثين أنّ هذه الفيروسات تفعل ذلك حقًّا، وتستخدم أسلوبًا مخادعًا مُتقنًا جدًّا.

بنى الباحثون في التجربة التي أجرَوها تجهيزًا مُقسّمًا إلى ثلاثة أقسام أو خلايا. وضعوا ستين بعوضة من الزاعجة المصريّة في الخليّة الوسطى، ووضعوا في إحدى الخليتين الجانبيّتين ثلاثة فئران مصابة بفيروس الزّيكا، ووضعوا ثلاثة فئران سليمة معافاة في الخلية الجانبية الثانية. عدّ الباحثون، في نهاية اليوم السّادس، البعوض الذي قَدِمَ إلى كلّ واحدة من الخليتين الجانبيتين، فتبيّن لهم أنّ ما يقارب ثلاثة أرباع البعوض فضّلَ الخلية التي كانت فيها الفئران المصابة. وقد حدث نفس الشيء عندما استخدموا بعوض الزّيكا. 

اتّجه الباحثون إلى فحص إمكانية أنّ الرائحة التي تتطاير من الفئران المصابة، تختلف عن الرائحة الصادرة عن الفئران السليمة، بعد أن دحضوا التفسيرات البديلة وتأكّدوا من أنّ البعوضات لم يخترْن الفئران المصابة بسبب ارتفاع درجة حرارة جسمها بتأثير المرض، ولا بسبب التغيّر في مستوى ثاني أكسيد الكربون. وضع الباحثون لهذا الغرض مصفاةً تحجز مرور جزيئات الرائحة. لم يُفضّل البعوض في هذه الحالة الفئران المصابة بشكل خاصّ. ينتج من التجربة أنّ الفئران المصابة تُصدِر رائحةً تجذب البعوض. 

جمعَ الباحثون جميع الجزيئات المتطايرة التي انبعثت من الفئران السليمة والمصابة، لتشخيص الجزيء الذي جذبَ البعوض. لوحظ وجود مستوى عالٍ بشكلٍ خاصّ من 20 مركبًّا مختلفًا عند الفئران المصابة، أثارت ثلاثة منها اهتزازًا شديدًا في مُحسّسات البعوض - عضو الحِسّ الذي يحوي مستقبِلات الرائحة أيضًا عند البعوض. انجذبت البعوض بشكل خاصّ إلى الفئران التي دُهنت جلودها بالمواد الثلاثة - الاستيوفينون والدِّكانال والستايرين، وإلى أيادي أشخاص متطوعين دُهنت أياديهم بنفس المواد. برزت مادة الاستيوفينون بشكل خاص، إذ جذبت البعوض إليها بشدةٍ بلغت عشرة أضعاف شدّة جاذبيّة الجزيئات الأخرى للبعوض. تُذَكّرنا رائحة هذه المادة برائحة اللوز، وهي موجودة بشكل طبيعيّ في التفاح ولحم البقر، كما تُستخدم أحيانًا في صناعة العطور. 

جنّد الباحثون أشخاصًا مرضى بفيروس الدّنغ، للتأكد من أنّ النتيجة التي حصلوا عليها صحيحة على الإنسان ولا تقتصر على الفئران، ووجدوا أنّ كمّيّة الاستيوفينون على جلودهم أكبر منها على جلود الناس الأصحّاء. جمعوا بعد ذلك عيّناتٍ من تحت آباط أشخاص مريضين، ومن تحت آباط أشخاص أصحّاء، ووجدوا أنّ البعوض تنجذب إلى العيّنات التي أُخذت من المرضى. تبيّن في تجربة أخرى أنّ البعوض انجذبت أكثر إلى أيادي أشخاص متطوّعين مدهونة بروائح من مرضى الدّنغ، وبشكل متّسق من انجذابها إلى أيادي أشخاص متطوّعين مدهونة بروائح من أشخاص أصحّاء.


تؤدّي الإصابة بفيروس الدّنغ والزّيكا إلى إفراز مادّة لها رائحة تَجذِب العوضة | الرسم التوضيحي: إيلات زاوبرمان; المصدر: شاترستوك

 

ذَنْب البكتيريا

السؤال المثير للاهتمام هو: كيف تُغيّرُ البكتيريا رائحة جسم الإنسان؟ توصّل الباحثون إلى نتيجة غير متوقّعة. الاستيوفينون مادّة جانبيّة تَنتج، من ضمن عمليّات أخرى، من عمليّات أيض بكتيريا العصيّات غير الضارّة التي تعيش على جلد الإنسان والفئران. تُفرز خلايا الجلد في الحالة الاعتياديّة مادةً مُضادة للبكتيريا تُسمّى RELMα، تعيق تكاثر البكتيريا وتحصرُ عدد العصيّات الموجودة على سطح الجلد. 

قامَ الباحثون بتشخيص كلّ البكتيريا الموجودة على جلد الفئران، فوجدوا أنّ التجمّعات البكتيريّة الموجودة على جلود الفئران المريضة تختلف عن تلك الموجودة على جلود الفئران السليمة. الاختلاف الرّئيس هو الازدياد الكبير في عدد بَكتيريا العصيّات التي تُنتِج الاستيوفينون أيضًا. تحدث، بهذه الطريقة، عمليّة معقّدة تعيق فيها الفيروساتُ إنتاجَ المادة المضادّة للبكتيريا، التي تقلّل من تكاثر العصيّات على الجلد. نتيجة لذلك، تتكاثر البكتيريا وتَزيد من إنتاج جزيئات الرائحة التي تَجذب البعوض، فتزداد بذلك فرص استمرار تكاثر الفيروس.

יתושת אדס בהגדלה תחת מיקרוסקופ | מקור: Steve Gschmeissner, Science Photo Library
شخّصَ الباحثون نظامًا تبادليًّا بين الفيروسات والمضيف والبكتيريا والبعوض. صورة بعوضة الزاعجة مُكَبّرة تحت المجهر | المصدر: Steve Gschmeissner, Science Photo Library
 

من حَبّ الشباب إلى طارد البعوض

إذا كانت الرائحة التي تجذب البعوض تنجم عن الإخلال بتوازن البكتيريا الموجودة على الجلد فقد تكون هناك طريقةٌ لاستعادة هذا التوازن. قرّر الباحثون تجربة الدّواء ايزوتريتينوين المعروف، وهو عبارة عن إحدى مشتقات الفيتامين "أ" (A)، الذي يُستخدم في علاج حبّ الشباب (acne)، في محاولةٍ منهم لاستعادة التوازن. تكمن أفضلية هذا الدّواء في أنّه يعمل بشكل معاكس لعمل الفيروس، إذ يُحفّز إنتاج الـ RELMα في الجلد، فيُقلل بذلك من كمّيّة البكتيريا وتَلَوُّث الجلد. وفعلًا، كما توقّع الباحثون، عندما أعطوا الدّواء لِفئران مريضة وأدخلوها إلى قفص مع البعوض، انجذبت البعوض إليها أقلّ من الفئران التي لم تحصل على الدّواء، وبالتالي لسعتها أقلّ.

يتوجّب على الباحثين، في المرحلة التالية، تأكيدُ النتائج على جلد الإنسان وعلى مرضى الدّنغ والزّيكا من البشر، لأنّ غالبية دراساتهم أجريت على الفئران، وكذلك فحصُ إمكانية أن تُقلِّل أدوية مشابهة أخرى من انجذاب البعوض إلى المرضى، فيقلّ انتشار الأمراض الفتّاكة. ويجب التيقُّن أيضًا من أنّ الدّواء، إذا أُعطيت منه الجرعات اللازمة لاستعادة رائحة الجلد السليم، لا يُسبّب أعراضًا جانبيّة خطيرة. 

تَعرض هذه الدّراسة نظام العلاقات المتبادلة المعقدة بين الفيروسات والمضيفين والبكتيريا والبعوض. لا تَعرف الفيروسات ما هي البعوضة، ولا تعرف حاجتها لها من أجل الانتشار والتكاثر، إلّا أنّ لديها آليات من شأنها تغيير رائحة مُضيفيها، وَجذْب البعوض إليهم وتشجيعه على لسعهم، ومواصلة نشر المرض إلى الأشخاص الآخرين. قد يُمَهّد هذا الاكتشاف الطريق لتطوير مستحضرات وقائيّة فعّالة ضدّ البعوض ويقلّل، على المدى البعيد، من انتشار الأمراض الفتّاكة. 

 

0 تعليقات