الصّفات الّتي تسمح للبعوض بنشر الأمراض القاتلة بواسطة لُعابِها، قد تكون مفتاحًا لتطوير اللّقاحات الفعّالة لتلك الأمراض تحديدًا

يشهدُ الصّيفُ الإزعاجَ الكثير بسبب لسعات البعوض. بالإضافةِ إلى الحكّة المزعجة، يمكنُ أن تُصيبنا اللّسعاتُ بأمراضٍ مُميتة لا علاج فعّال لها حتّى الآن، وهو ما يجعل البعوض أكثر الحشراتِ فتكًا بالإنسان. تبيّن في دراسةٍ جديدةٍ، تَتمحور حول الصّفاتِ الخاصّةِ لِلُعاب البعوض، أنّ هذا اللّعاب قد يُساعدُ في تطوير لقاحٍ، قد ينقذ حياة مئاتِ الآلاف من النّاس سنويًّا.

عندما تمتصّ أنثى البعوض الدّم تقومُ بإفرازِ لعابٍ في مكان اللّسعة، يحوي موادّ تمنع الدّم من التخثّر. إذا كان الشخص الذي لَسعته مريضًا بمرضٍ فيروسيّ أو طفيليّ، فمن المحتمل أنّها ستمتصّ -بالإضافة إلى الدم- مسبّبات المرضِ، التي سَتتكاثرُ لاحقًا في جسمها لتصلَ إلى غدد اللّعاب الموجودة عندها. في الفرصة القادمة، عندما تلسع شخصًا سليمًا ومعافىً، ستنقل البعوضة مع اللّعاب مسبّباتِ المرض، ما يؤدّي إلى إصابة ذلك الشّخص بالعدوى.

يُعتبر انتقال الأمراض بواسطة البعوضَ ظاهرةً معروفةً ومنتشرة. تسبّب معظم الفيروسات التي تُعدي الإنسانَ بهذا الشكل، والتي تدعى أربوفيروس (arboviruses)، إلى أعراضٍ مثل ارتفاع درجة الحرارة وأوجاع في الرأس، في غضونِ 3-15 يومًا من الإصابة، تختفي من تلقاء نفسها في غضون ثلاثة إلى أربعة أيّام. مع ذلك، في بعض الحالات قد يتطوّر مرضٌ خطيرٌ ومهدّد للحياة؛ فالأمراض التي تُنقل عن طريق البعوض تقتل كلّ عامٍ نحو 725 ألف إنسان في العالم، في المناطق الاستوائيّة خاصّة. 

יתוש הטיגריס האסייתי Aedes albopictus | מקור: InsectWorld, Shutterstock
غزا منطقتنا في بداية سنوات الألفين، حامل فيروس حمّى الضّنك وحمّى غرب النيل. بعوضة الّنمر الأسيويّ Aedes albopictus | مصدر: InsectWorld, Shutterstock

 

أمراضٌ قاتلة

تنقلُ أنثى بعوضة الزاعجة (Aedes) الأمراض مثل حمّى الضّنك، وفيروس زيكا والحمّى الصّفراء. هناك أنواعٌ عِدّة من بعوضة الزّاعجة، أبرزُها بعوضة الزّاعجة المنقّطة بالأبيض (Aedes albopictus)، المسمّاة أيضًا بعوضة النّمر الآسيويّة، التي اجتاحت البلادَ في بداية القرن الحادي والعشرين. كانت بعوضة الزّاعجة المصريّة (Aedes albopictus) منتشرة في بلادنا في نهاية سنوات الأربعين من القرن العشرين، وهي إحدى أنواع البعوض الوحيدة التي تَنشُطُ وتلسع في وَضحِ النّهار، بل إنّ النّوم في سريرٍ مغطّى بناموسيّة لا يحمي منها. 

حسب معطيات منظمّة الصّحّة العالميّة، طرأ ارتفاع ملحوظٌ على عدد المصابين بحمّى الضّنك في السنوات العشرين الماضية، المنتشرة في 129 مدينة في أنحاء العالم، خاصّةً في آسيا، وأجزاء كبيرة من أمريكا وجزر الكاريبي. وِفقًا لإحدى التقديرات، يصابُ أكثر من 390 مليون شخص سنويًا بهذا المرض. من المتوقّع ارتفاع هذا العدد بسبب تغيّر المناخ العالميّ، إذ يساعدها على توسيع مناطق معيشَتِها، إلى مناطق كانت في الماضي تُعتبر باردةً بالنسبة لها. غالبيّة المرضى لا يعانون من أيّ أعراضٍ جانبيّةٍ للمرض، أو أعراضٍ خفيفةٍ شبيهة بمرض الإنفلونزا. مع ذلك، فإنّ نحو واحد من كلّ عشرين مصابًا سيصاب بمرضٍ خطير، على شكلِ نزيفٍ حادّ ومُهدّدٍ للحياة.

ارتفعَ الوعيُ الجماهيريّ العالميّ لمرض حمّى الزيكا في سنة 2015م، مسبّبًا حالةِ ذعرٍ شديد وإثارة المخاوف، بشأن وجود الألعاب الأولمبيّة في ريو سنة 2016م. شكّل تفشّي هذا المرض خطرًا بشكل أساسيّ على النساء الحوامل، ما أدّى إلى ولادة آلاف الرّضّع الذين يعانون من ضررٍ في النّموّ وتلفٍ دماغيّ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفيروس ينتشر في مناطق واسعة من أمريكا الجنوبيّةِ والوسطى، ومناطق واسعة في آسيا وإفريقية. 

وأخيرًا، انتشرت الحمّى الصفراء في جنوب أمريكا وإفريقية، وكانت أعراضها مشابهةً لأعراض الأنفلونزا الخفيفة والعابرة، لكن نحو 15% من المصابين سيتفاقم وضعهم ويتطوّر إلى مرضٍ خطير كمرض اليرقان، ومتلازمة الاختلال العضويّ المتعدّد والموت.

لا تتوفّر حتّى الآن علاجاتٌ فعّالة أو لقاحات ضدّ فيروس حمّى الضّنك، وزيكا وغالبيّة أنواع الفيروسات التي تنتقل عن طريق لسعات البعوض. تمّ التصديق مؤخّرًا على لقاح فيروس الضّنك، وإعطائهِ للأطفال والشباب الذين يعيشون في مناطق الخطر. يتوفّرُ لقاحٌ آمن وفعّال ضدّ فيروس الحمّى الصّفراء، ولكن حدثت في السّنوات الأخيرة حالاتٌ عِدّة من تفشّي المرض في العالم، بسبب نقص جرعات اللّقاح في المناطق المصابة.

 נגיף קדחת צהובה | מקור: Niaid, National Institutes Of Health, Sceince Photo Lobrary
في لعاب بعوضة الزّاعجة المصريّة مادّة تساعد الفيروسات على الاستقرار في جسم الملدوغ. فيروس الحمّى الصّفراء | مصدر:Niaid, National Institutes Of Health, Sceince Photo Lobrary 
 

لقاحٌ من لُعاب البعوض

أفادت دراسةٌ جديدة في المجلّة العلميّة PNAS، وجودَ جزيئيَات في لُعابِ بعوضة الزّاعجة المصريّة قد تكونَ بمثابة موضعِ هدف الّلقاح الذي يمنع المرض من التّطوّر. فقد وُجد أنّه عندما تلسع البعوضة المصابة فأرًا، فإنّها تحقن اللّعاب في منطقة اللّسعة، ويحوي هذا اللعاب جزيئًا باسم سيالوكينين (sialokinin)، تستخدمه الفيروسات لتثبيت نفسها في الجسم. 

هذا الجزيء فريدٌ من نوعه بالنّسبة للحشرات، لكنّه يشبه جزيئًا آخر موجودًا بشكل طبيعيّ في أجسام الفقاريّات كالثديّيات، ويساعدها لزيادة نفاذيّة جدران الأوعية الدمويّة وتحفيز ردّة الفعل الالتهابيّة.

إنّ عنق الزّجاجة في عمليّة العدوى وتثبيت الفيروسات في الجسم، هو مرحلة الانتقال من منطقة اللسعة إلى الأنسجة المجاورة. يسهّل السيالوكينين دخول الفيروسات إلى الدّورة الدّمويّة وبهذا الشّكل تنتشر بسرعةٍ في الجسم. بالإضافة إلى ذلك، تصل المزيد من خلايا الدّم إلى منطقة اللسعة، الّتي من الممكن للفيروسات اختراقها والتّكاثر في داخلها عندما تكون نفاذيّة الأوعية الدّمويّة كبيرةً إلى حدٍ ما. 

عَرقلة جزيء السيالوكينين قد تؤخّر تطوّر المرض الخطير، كونه جزيئًا هامًّا لانتشار الفيروس في الجسم. وعلى ما يبدو، فإنّ تطويرَ الأدوية التي من شأنها أن تخفّفَ من نشاطه، أو لقاحاتٍ تستهدفه، قادرةٌ على وقف تكاثر وانتشار الفيروس في الجسم. 

بالإضافة إلى الجانب التطبيقيّ للنّتائج، تكشف الدّراسة أيضًا سبب وجود أنواعٍ من البعوضِ غير القادرة على نشر معظم الفيروسات. أظهرَ الباحثون أنّ لُعاب بعوضة الأنوفيليش (الأجميّة)، على سبيل المثال، لا يحوي السيالوكينين ولا يسبّب توسّعًا في الأوعية الدّمويّة. وهذا بالطبع لا يمنع بعوضة الأنوفيليش من نشر مرض الملاريا، لأنّ المسبّب لها طفيليّ وليس فيروسًا. 

إنّ تفشّي الأمراض التي تنتقل عن طريق البعوض، إلى جانب غياب الأدويّة المضادّة لها، والصّعوبة في التنبّؤ الدّقيق متى وأين سيحدث التفشّي القادم، يجعلُ اليومَ تطويرَ اللّقاحِ أحد التحدّيات الهامّة التي تواجه عالم الطّبّ. إنّ تطوير لقاحٍ فعّال من شأنه أن ينقذ العديد من الأرواح، ويساعدُ البشريّة في مواجهة أوبئةٍ قاتلة.

 

0 تعليقات