من الصعب المبالغة في أهميّة طريقة الـ PCR، والّتي قام بتطويرها عالم الكيمياء الحيويّة كاري موليس منذ ما يقارب الأربعين عامًا. لا تزال آثارها موجودة في كلّ مكان حولنا، في الأدوية والفحوصات والتطعيمات وحتّى في الإدانات الجنائيّة

شكّل فهم مبنى الحمض النوويّ في سنة 1953 ثورة علميّة هائلة، حيث حقّقت البشريّة ولأوّل مرّة طريقة مباشرة في الوصول إلى شيفرة الحياة: كتاب التعليمات لجميع عمليّات البناء والتفكيك والعمل المستمرّ لخلايا وأنسجة الكائن الحيّ. ولكن ظهرت هناك مشكلة- فالتقنيّات الّتي تمّ تطويرها لقراءة هذا الكتاب كانت بطيئة ومرهقة للغاية، بحيث كان أيّ بحث جديّ في علم الوراثة، يتطلّب استخراج كميّات ضخمة من الموادّ الوراثيّة من الكائن أو من الأنسجة الّتي بحثها العلماء، وكان يجب إجراء عمليّات تقطيع وإخراج  الأخطاء والتحليل، والّتي كانت تتطلّب في أغلب الأحيان شهورًا طويلة، بل وحتّى سنوات من العمل الشاقّ.

تطلّب الأمر ثورةً جديدةً، من شأنها الدفع بدراسة الموادّ الوراثيّة إلى منحًى  جديد. وعندما وصلت هذه الثورة، قبل أربعين عامًا، أحدثت تغييرًا جذريًّا ليس فقط في دراسة علم الوراثة، وإنّما في البيولوجيا الجزيئيّة بأكملها. بفضلها أصبح لدينا اليوم اختبارات كورونا سريعة، وقدرة على إدانة أو تبرئة المتّهمين بجرائم خطيرة، بناءً على فحوصات جينيّة من مسرح الجريمة، وأصبح لدينا أدوية متوافقة بشكل شخصيّ للمرضى بالسرطان وبأمراض أخرى. بفضلها تمّ إنجاز مشروع تسلسل الجينوم البشريّ وكائنات أخرى غير البشر، وبفضلها أيضًا تمّ فكّ رموز بقايا ما قبل التاريخ والّتي علّمتنا عن وجود قريبنا، إنسان الدينيسوفان.

إنّ الفضل الكبير في إنجاز كلّ هذه المعجزات يعود إلى تقنيّة الـ PCR، والّتي طوّرها عالم الكيمياء الحيويّة الأمريكيّ كاري موليس (Mullis) سنة 1983، وحصل بفضلها على جائزة نوبل في الكيمياء بعد عشر سنوات من تجربته الأولى الناجحة. إنّ قوة هذه الطريقة- واسمها الكامل "تفاعل البوليميراز المتسلسل" (Polymerase Chain Reaction)- تكمن في أنّها تسمح بمضاعفة ونسخ كميّة ضخمة من مقاطع الحمض النوويّ (الـ DNA) خلال ساعات أو أيّام، بدءًا من كميّة أوّليّة صغيرة جدًّا من المادّة الوراثيّة، وذلك باستخدام وسائل بسيطة وغير مكلفة.


ثورة غيّرت كلّ مناحي الحياة. موليس في محاضرة قام بها في سنة 2009 | تصوير: Erik Charlton, Wikipedia

علم الوراثة للمبتدئين

في سنة 1953، كشف العالمان جيمس واتسون (Watson) وفرانسيس كريك (Crick) للمرّة الأولى المبنى اللولبيّ المزدوج لجزيء الـDNA ، والّذي يتمّ فيه تشفير جميع المعلومات اللازمة– تقريبًا- لوجود الكائنات البيولوجيّة– بدءًا من البكتيريا والطحالب أحاديّة الخليّة وشجر الباوباب، وانتهاءً بالذباب والفيلة والبشر. هذا الجزيء هو عبارة عن شريطين مكوّنين من أربعة أنواع من وحدات البناء الجزيئيّة، تدعى أحماضًا نوويّة أو نيوكليوتيدات. ترتبط دائمًا كلّ واحدة من نيوكليوتيدات الشريط الأوّل مع النيوكليوتيدة الشريكة في الشريط المقابل: أدينين مع ثايمين، سايتوسين مع غوانين، وهكذا يكون كلّ شريط مكمّلًا لشريكه.

داخل تسلسل الـ DNA توجد مقاطع تُسمّى الجينات– يتمّ فيها تخزين التعليمات الخاصّة بتكوين بروتين معيّن– وهو جزيء يلعب دورًا محدّدًا في بناء الخليّة الحيّة أو في العمليّات الّتي تجري فيها، وبهذه الطريقة تحدّد وظيفته، وبالتالي خصائص الكائن. ولهذا الغرض، توجد آليّات في نواة الخليّة تقوم بإنشاء نسخ ذات سلسلة واحدة من مقاطع هذه الجينات، لمادّة تشبه إلى حدّ كبير الـ DNA، وتُسمّى RNA. بينما يكون الـ DNA محفوظًا في نواة الخليّة جيّدًا، فإنّ هذه النسخ الناتجة- جزيئات الحمض النوويّ الريبوزيّ المرسال (mRNA) تغادر النواة، وتلتصق بعضّيّة تُسمّى الريبوسوم- مصنع إنتاج البروتين في الخليّة- ويقوم تسلسل الحمض النوويّ في الجزيء بتوجيهها لإنتاج البروتين الّذي يجب إنتاجه.


التسلسل الجينيّ يوفّر التعليمات اللازمة لإنتاج البروتين الّذي يتمّ تكوينه في الريبوسوم. رسم: Akor86, Shutterstock

المراحل الثلاث للـ PCR

يبدأ استخدام فحص الـ PCR بعيّنة من الـ DNA، والّتي يمكن استخلاصها من كلّ نسيج حيّ تقريبًا- من خلايا الدم البيضاء على سبيل المثال أو من خلايا الشعر أو خلايا الجلد وغيرها. وكي يكون بالإمكان استخدامه على جزيئات RNA بالشريط الفرديّ- مثلًا عندما نريد التعرّف على فيروسات RNA مثل فيروس كورونا - فيجب نسخ شريط من الـ DNA مُكمّلًا لها.

المرحلة الأولى في فحص الـ PCR هي مرحلة التهيئة (Denaturation)- تحويل الصفات الطبيعيّة (تغيُّر في الصفات الطبيعيّة لشكل البروتين): عمليّة الفصل بين شريطَي جزيء الـ DNA. الروابط الكيميائيّة بين الشريطين هي روابط هيدروجينيّة، وهي ليست قويّة، لذا يكفي تسخين العيّنة إلى درجة حرارة 96 درجة مئويّة من أجل فصل الشريطين خلال بضع ثوانٍ.

هدف المرحلة الثانية، والّتي تُسمّى الالتحام، هو تحديد مقاطع الـ DNA الّتي سيتمّ نسخها. لعمل ذلك، يتمّ تبريد العيّنة إلى 50-65 درجة، وهي درجة الحرارة الّتي تسمح بإعادة تشكيل الروابط الهيدروجينيّة. جزيئات صغيرة تُسمّى برايمرات (بادئات، أو بادئة بصيغة المفرد) ترتبط بكلّ واحد من الشريطين، في المكان الّذي يظهر فيه تسلسل حمض نوويّ معيّن، وهكذا تتحدّد حدود المقطع الّذي نريد نسخه وتضاعفه. تتواجد البرايمرات (البادئات) لدى جميع الكائنات الحيّة في العالم، وهي تلعب دورًا أساسيًّا في عمليّة تضاعف الـ DNA في إطار عمليّة انقسام الخلايا. يمكن تشبيهها بالبرعم الّذي يتطوّر منه جزيء DNA قويم ذو شريط مزدوج فوق شريط فرديّ.

المرحلة الثالثة، الاستطالة (Elongation)، تحدث عند درجة حرارة 72 درجة مئويّة. وهنا يأتي دور الإنزيم DNA بوليميراز، والّذي يعيد بناء الأشرطة التكميليّة لمقاطع الـ DNA ذات الشريط الفرديّ، الّتي تمّ إنشاؤها في المرحلة السابقة. هذا الإنزيم موجود في جسم الإنسان، ولكن نظرًا لأنّه حسّاس لدرجات الحرارة المرتفعة، فيتمّ عادة استخدام بوليميراز أكثر مقاومةً للحرارة، مصدره بكتيريا Thermus aquaticus. يتعرّف البوليميراز على البرايمر، ثمّ، ومثلما نغلق سحّابًا ما، يقوم بوضع الأحماض النوويّة واحدًا تلوَ الآخر مكمّلًا التسلسل الموجود في مقطع الـ DNA. وهكذا، حجر بعد حجر، يتمّ إعادة إنشاء لولب مزدوج قصير، في عمليّة تستمرّ من بضع ثوان وحتّى بضع دقائق، تبعًا لطول المقطع. البرايمر هو طرف الخيط الّذي يحدّد للبوليميراز من أين يبدأ عمله.


بعد دورات تضاعف عديدة، نحصل على كميّة هائلة من تسلسل الـ DNA المطلوب. جهاز PCR حديث | تصوير: Terelyuk, Shutterstock

في جهاز الـ PCR، تتكرّر العمليّة ذات المراحل الثلاث- التهيئة والالتحام والاستطالة- مرارًا وتكرارًا، مع تغيّرات دوريّة في درجة الحرارة، ما يسمح بتضاعف سريع لعدد هائل من مقاطع الـ DNA المطلوبة. وهذا هو أساس قوّة تقنيّة الـ PCR: مضاعفة جزيء واحد أضعافًا مضاعفة، بحيث يتمّ الحصول في نهاية العمليّة على كميّات هائلة من هذا الجزيء. تتيح لنا هذه التقنيّة "العثور على إبرة في كومة قش"- مقطع الـ DNA المطلوب- وإنشاء نسخ لا تحصى منها. ثلاثون دورة تضخيم تعطينا 230 نسخة متطابقة من الجزيء، أي حوالي مليار نسخة. تشمل هذه الكميّة من النسخ كمّيّة هائلة من المعلومات الوراثيّة والّتي يمكن للباحثين وفنيّي المختبرات معالجتها.


تفكيك وتجميع. DNA ذو مبنى لولبيّ مزدوج (أعلاه)، تهيئة الشريطين وإنتاج شريط مكمّل على كلّ منهما بمساعدة بادئة (الأخضر)، والحصول على نسختَين من المبنى اللولبيّ المزدوج الأصليّ (أدناه) | رسم: Ody_Stocker, Shutterstock

تنوير فجائيّ

تعتمد الطريقة كما ذكرنا على آليّات بيولوجيّة معروفة وموجودة في الخلايا الّتي يتكوّن منها جسم الإنسان. ومع ذلك، فقد استغرق الأمر ثلاثين عامًا وعقلًا منيرًا لباحث لم يتبع القطيع، من أجل تجميع كلّ هذه المركّبات معًا بالطريقة الصحيحة، والّتي من شأنها أن تفتح طرقًا جديدة لدراسة الـ DNA.

كاري موليس، والّذي رحل عن عالمنا قبل أربع سنوات، في 7 آب 2019، أتمّ في سنة 1971 درجة الدكتوراة في الكيمياء الحيويّة من جامعة كاليفورنيا في بيركلي- على عكس كلّ التوقّعات، فقد اختار أن يتخلّى عن الانشغال العلميّ وأن يقوم بتجربة كتابة الروايات. ولكنّ مسيرته الأدبيّة سرعان ما توقّفت، بعدما استسلم للضغوط الّتي مارسها عليه صديقه وزميله توماس وايت (White)، وذهب ليكمل مرحلة ما بعد الدكتوراة في أمراض القلب لدى الأطفال في جامعة كانزاس. لاحقًا درس أيضًا الكيمياء الدوائيّة (الطبيّة)، وفي سنة 1979 توجّه إليه وايت مرّة أخرى، والّذي كان في هذه الأثناء قد ترقّى إلى منصب نائب المدير العام في شركة التكنولوجيا الحيويّة Cetus، وعيّنه باحثًا في الشركة.

وصل موليس إلى هذا المنصب بمعرفة محدودة إلى حدّ ما بالبيولوجيا الجزيئيّة، لكنّه قام بسدّ الفجوة سريعًا، وبدأ بعمل أبحاث بشكل عمليّ على البرايمرات (البادئات). وفي الشركة حيث كان يعمل، سعوا إلى إيجاد تطبيقات مفيدة لها في عمليّات تركيب الـ DNA، من أجل مرضى فقر الدم المنجلي وغيرهم.

في أوائل سنة 1983، أثناء تنقّله الطبيعيّ بالسيّارة، تذكّر فكرة كانت قد راودته من قبل، لكنّه لم يكن قد فعل أيّ شيء لتطويرها آنذاك. فكّر، طالما أنّ البرايمرات (البادئات) مهمّة جدًّا في بناء شرائط الـ DNA الجديدة، فلِمَ لا يمكن الاستعانة بها أيضًا لعمل نسخ متكرّرة من الـ DNA، من أجل الحصول على كميّة كبيرة منه؟ وبطبيعة الحال، ففي الانتقال من مرحلة الفكرة إلى مرحلة التنفيذ، كانت هناك حاجة إلى عمل تغييرات وتعديلات، وصولًا إلى نهاية تلك السنة، في 16 كانون أوّل (ديسمبر)، عندما كان قد أتمّ موليس أوّل تجربة ناجحة بتقنيّة الـ PCR للحصول على كميّة كبيرة من مقاطع الـ DNA.

فيديو يشرح عمل تقنيّة الـ PCR (باللغة الإنجليزيّة):

النجاح وتباين الآراء

في البداية واجه موليس صعوبة في إقناع الآخرين بأهميّة التقنيّة الّتي طوّرها. وفي مؤتمرٍ عُقد بعد النجاح الأوليّ لتجربته بأشهر قليلة، لم يحظ الملصق الّذي قدّمه حول التجربة بأيّ اهتمام. ولكن لحسن حظّه، فقد كان أحد أولئك القلائل الّذين أبدوا اهتمامًا كبيرًا بالتقنيّة هو العالِم الحائز على جائزة نوبل في الطبّ، جوشوا ليدربيرغ (Lederberg). وبتأثيره، اقتنع وايت بتخصيص جميع الموارد اللازمة من أجل بحث موليس، كي يتمكّن من مواصلة تطوير واختبار التقنيّة، وسمح له باستثمار كلّ وقته فيها.

تقنيّة الـ PCR الآن في الطريق الملكيّة. حيث تمّت توسعتها خطوة إثر خطوة، ثمّ تطوّرت وتسجّلت كبراءة اختراع. وفي غضون سنوات قليلة، أصبحت أجهزة الـ PCR من المعدّات الضروريّة في أيّ مختبر بيولوجيّ له مكانته، وذاع اسم موليس وشهرته على أنّه باحث رائد ومبتكر. وبعد عشر سنوات لا أكثر من طرحه للفكرة لأوّل مرّة، وفي عام 1993، حصل على جائزة نوبل في الكيمياء، بالاشتراك مع عالم الكيمياء الحيويّة الكنديّ مايكل سميث (Smith).

إنّ طبيعة موليس غير التقليديّة قادته ليس فقط إلى النجاحات العلميّة، بل أيضًا إلى مناطق كانت فيها الأرض أقلّ ثباتًا. يُقال إنّه خلال فترة دراسته، كان يقوم بتصنيع عقار الهلوسة LSD في المختبر، وكان يستهلكه بكثرة. لاحقًا، أخبر موليس مكتشف عقار الـ LSD، ألبرت هوفمان، أنّ العقار خدمه أيضًا أثناء تطوير الـ PCR. وبعد فوزه بجائزة نوبل، كثيرًا ما خالف الإجماع العلميّ، وتصدّر اسمه عناوين الأخبار مرارًا وتكرارًا فيما يتعلّق بإنكار مرض الإيدز والربط بينه وبين فيروس نقص المناعة البشريّة (HIV) ، ولاحقًا أيضًا فيما يخصّ إنكار أزمة المناخ.

خلال سنوات حياته الـ 75، تزوّج موليس أربع مرّات وأنجب ثلاثة أطفال. توفّي في 7 آب 2019 في منزله بسبب مضاعفات الالتهاب الرئويّ، وذلك قبل بضعة أشهر من انتشار وباء الكورونا والكشف للناس من خارج المجتمع العلميّ عن فوائد الطريقة الّتي طوّرها، حيث ساعدت مليارات اختبارات الـ PCR في تشخيص المرضى بسرعة في جميع أنحاء العالم. 

كما أدّت الأهميّة العلميّة للتكنولوجيا إلى ظهور أغنية إعلانيّة. أغنية الـ PCR (باللغة الإنجليزيّة):

 

0 تعليقات