لقراءة المقال

البيوتكنولوجيا في المطبخ

يرتبط مجال التكنولوجيا الحيويّة، من وجهة نظر الكثيرين، بعلماء جدّيين يرتدون الروب الأبيض ويفعلون أشياء غريبة في مختبرات متطوّرة، إلّا أنَّ عمليّات التكنولوجيا الحيويّة يمكن أن تجري في المطبخ أيضًا، بدون روب وبدون معدّات باهظة الثمن.

تهدف البيوتكنولوجيا إلى استخدام العمليات البيولوجية في المجالات التطبيقيّة. من الأمثلة على العمليّات البيوتكنولوجيّة تطوير أصناف جديدة من النباتات الاستعانةً بالهندسة الوراثيّة أو إنبات أنسجة حيّة وأعضاء في المختبر أو إنتاج الوقود من النباتات والكائنات الحيّة الدقيقة. انتفاخ العجين ليتحوّل إلى خبز وإنتاج الجِعة وكبْس الخيار هي أمثلة أخرى لعمليّات بيوتكنولوجيّة أكثر سهولة. سنتناول في هذه المقالة العمليّات البيوتكنولوجيّة التي تحدث في المطبخ.

عمليّات التنفّس والتخمّر 

أساس هذه العمليات هو تنفس وتخمّر البكتيريا والخميرة. تحتاج الكائنات وحيدة الخلية، كالبكتيريا والخميرة، كباقي الكائنات الحيّة الغذاء لضمان بقائها. يتحلّل السكّر الذي تتغذّى عليه هذه الكائنات في عمليّة تحلّل السكّر (الجليكوليزا) وتنتج مادّة البيروفات (pyruvate) في نهايتها. يسلك البيروفات إحدى الطريقين: التنفّس أو التخمّر. يستمرّ البيروفات الذي يسلك طريق التنفّس في التحلّل حتّى نفاده من خلال عمليّات تحتاج للأكسجين. يتيح هذا المسلك المجال لإنتاج كمّيّة كبيرة من الطاقة في عضيِّ الميتوكوندريا - مَعمَل الطاقة في الخليّة. ثاني أكسيد الكربون، إحدى المواد الناتجة في هذه العمليّة، له دور مهمّ في المطبخ ستكشفه لاحقًا.  

يسمّى المسلك الثاني بالتخمّر، وهو يجري بغياب الأكسجين (لا هوائيّ). يمرّ البيروفات الذي يسلك هذا الطريق بعمليّات يتحلّل خلالها إلى غوْلٍ وثاني أكسيد الكربون (في الخميرة) أو حمض اللاكتيك وثاني أكسيد الكربون (في البكتيريا).

عمليات التنفس والتخمُّر | التخطيط من: ويكيبيديا
عمليات التنفس والتخمُّر | التخطيط من: ويكيبيديا

انتفاخ الخُبز

نرغب في أن يكون العجين الذي نُحَضِّره للخبز مُهوّءًا ونحتاج لعمليّةٍ "تُنتج الفقاعات" لهذا الغرض. نزوّد الخميرة والسكّر والماء للعجين ليحدث ذلك. تستهلك الخميرة السكّر وتحلّله إلى بيروفات كما وُصِفَ أعلاه، وتستمرّ العملية التي تستهلك الأكسجين وتنطلق كمّيّة كبيرة من ثاني أكسيد الكربون. نشاهد هذه النتيجة من خلال بثرة العجين.

غالبًا ما تفضل الخميرة التخمّر الذي يستهلك جهدًا أقلّ من الجهد الذي يُبَّلُ في عمليّة التنفّس التي تستهلك الأكسجين. ينطلق الغَوْل في هذه العمليّة، ولا داعي للقلق، يتبخّر الغول خلال عمليّة الخَبْز. يصلبُّ العجين حول الفقاعات عند إدخاله إلى الفرن في هذه المرحلة وينتج خبز ذو ملمسٍ معبّأ بفقاعات الهواء كما هو مطلوب.

صناعة الجِعة والنبيذ

يمكن استخدام الخميرة التي تُنتج الغَوْل في صناعة الجعة والنبيذ. نُحضر النبيذ والجعة من عصير العنب أو شراب الشعير على التوالي. شراب الشعير وعصير العنب هي مصادر للسكّر الذي تستهلكه الخميرة لإنتاج الغَوْل.

المسار في هذه العمليّة هو المسار اللاهوائيّ الذي يتيح المجال للحصول على الغَوْل وثاني أكسيد الكربون. تُحلّل الخميرة المزيد من السكّر وينتج ويتراكم المزيد من الغول وثاني أكسيد الكربون مع مرور الزمن ويزداد تركيزها إلى أن تجهز الجعة أو النبيذ. يتمّ توقيف العمليّة، في صناعة النبيذ، في منتصف الطريق، إذا أرادوا إنتاج "النبيذ الجافّ جزئيًّا"، أو يتاح للخميرة استهلاك غالبيّة السكّر إذا أرادوا الحصول على "النبيذ الجافّ". وذلك هو سبب الاختلاف في المذاق الحمضيّ لنوعيْ النبيذ. 

توجد في الجِعة الفوارة والنبيذ الفوار فقاعات رقيقة من ثاني أكسيد الكربون ولا يحتوي عليها النبيذ العاديّ. يعود ذلك إلى إزالة ثاني أكسيد الكربون من النبيذ لاعتبارات تتعلّق بالطَّعم. من المثير للاهتمام أنّ فقاعات ثاني أكسيد الكربون في الجعة والنبيذ الفوار هي أصغر كثيرًا منها في المشروبات الغازيّة، الصودا مثلًا. توجد في الجعة والنبيذ جسيمات تلتصق  بها الفقاعات، ويخلو مشروب الصودا الصافي من الجسيمات فتلتصق فقاعات ثاني أكسيد الكربون ببعضها البعض ويزداد حجمها. 

بودينج الجبن

تناولنا تخمّر الخميرة حتّى الآن. دعونا ننتقل إلى البكتيريا. تمرّ البكتيريا بعمليّة التخمّر هي الأخرى ولكنها تُنتج حمض اللاكتيك - المادة التي تجعلنا نحسّ بحموضة في الفم بعد تناول طعامٍ حلو- بدلًا من الغَوْل. يتغيّر بروتين الكازين (بروتين الحليب) عند إضافة الحمض إلى الحليب، وتتكوّن منه كتلٌ من البروتين والدهون وهي المواد التي تتكوّن منها الجبنة، في العمليّة المُسمّاة بـ التجبين.  

يمكن توضيح عامل التجبين بواسطة تجربة نضيف فيها الحليب إلى قنينة كولا. نشاهد، بعد مرور بضع ساعات، ترسيب كتل من الجبنة بتأثير حمض الفوسفوريك الموجود في مشروب الكولا. 

يجدر التنويه إلى أنّ حمض الليمون والخلّ أو أي حمض آخر يؤدّي إلى نفس الظاهرة عند إضافتها إلى الحليب وهي تنجم عن تفاعل بروتينات الحليب مع الحمض.

تشارك بكتيريا مناسِبة في عمليّة إنتاج الأجبان. تطلق البكتيريا حمض اللاكتيك وتؤدّي إلى حدوث عمليّة التجبين. يُصفّى الماء بعد ذلك ويبقى البروتين والدهون التي تتكوّن منها الجبنة. تكون الجبنة أكثر صلابة إذا أخرجنا منها كمّيّة أكبر من الماء بواسطة التصفية أو عن طريق إضافة الملح. 

كبيس المخللات

ننتقل إلى الخيار وغيره من المخلّلات. تقوم البكتيريا في هذه الحالة أيضًا بالعمليّة المطلوبة. نضع الخيار في إناء فيه ماء وملح تمنع نموّ البكتيريا من الأصناف غير المرغوبة. يموت ما تبقّى من البكتيريا عندما تزداد كمّيّة الحمض، وتصل إلى حدٍّ معيّن لا تستطيع تحمّله ونحصل على الخيار المخلل.

إنتاج الخل

يَنتج الغول في عمليّة التخمّر، كما رأينا أعلاه، عند تحضير الجعة أو النبيذ. يحمضُّ النبيذ عند تركه في الخارج في إناء مفتوح، إذ تقوم البكتيريا بتحليل الغول إلى حمض الخلّ وهي المادة التي تُكسب الخلّ مذاقه الحامض. لا تحدث هذه العمليّة إلّا بوجود الهواء، الأمر الذي يقتضي منع تلامس النبيذ أو الجعة مع الهواء خلال عمليّة الإنتاج.

أتقدّم بالشكر للدكتورة ميخال ستولارسكي على مساهمتها في إعداد المقال.