هل الإرهاق في العمل هو نوع من الاكتئاب؟ كيف يضرّ الإرهاق بالتّفكير وبالعلاقات الاجتماعيّة، وكيف يمكن التّعامل معه؟
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
هل فقدتم اللّهفة للعمل؟ هل أنتم منهكون لدرجة أنّكم غير قادرين على مزاولة العمل، أو أنّكم منهمكون في العمل لدرجة أنّكم لا تستطيعون العودة إلى البيت؟ لعلّكم تعانون إذًا من الاحتراق النّفسيّ المرتبط بمزاولة العمل بشكل خاصّ.
ما هو الاحتراق النّفسيّ؟
ظهر مصطلح "الاحتراق النّفسيّ" لأوّل مرّة في منتصف سبعينيّات القرن العشرين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وراجَ بين علماء النّفس والأطبّاء النّفسيّين واختصاصيّي العلوم الاجتماعيّة. لاحظ هؤلاء مجموعةً من الأعراض الّتي ظهرت على مُعالَجيهم، شملت الإرهاق والاستياء وقلّة الحافز واللّامبالاة المهنيّة - على الرّغم من أنّهم كانوا في الماضي مخلصين في عملهم ومهنتهم، وامتازوا باستعدادهِم وجاهزيّتهِم لإنجاز العمل.
كشفت إحصائيّة أجريت سنة 2018 أنّ 28 بالمائة من العمّال والعاملات من جيل الـ Y (جيل الألفيّة، مواليد سنوات الثّمانين والتّسعين من القرن العشرين)، و 21 بالمائة من العمّال الأكثر بلوغًا في الولايات المتّحدة، عانَوْا من الاحتراق النّفسيّ. مقابل ذلك، فقد أظهرت الدّراسات الّتي فحصت معدّلات الإرهاق لدى الأطبّاء والطّبيبات وطلّاب وطالبات الجامعات، أنّ 50 بالمائة من المشاركين في هذه الدّراسات يعانون من الاحتراق النّفسيّ. من الواضح أنّ الاحتراق النّفسيّ لدى الأطباء وغيرهم من الطّاقم العلاجيّ يُخلِّف آثارًا سلبيّةً على المُعالَجين، وقد يؤدّي إلى نقص في الأيدي العاملة.
علينا أن نذكّر بالمقابل، أنّ استراتيجيّات التّقليل من الضّغوطات، مثل العُطَل والنّشاط الرّياضيّ الجسمانيّ والتّأمّل، من شأنها التّقليل من الإرهاق لدى العمّال والعاملات، وحتّى منع نشوء الاحتراق النّفسيّ.
قد تعمل طرق تقليل الضّغوطات على تقليص الإرهاق. في الصّورة: فتاة خلال عمليّة التّأمل | BalanceFormCreative, Shutterstock
الإرهاق والعُزلة والشعور بانعدام المعنى
ليس لنا أن نُقلّل من أهمّيّة ظاهرة الاحتراق النّفسيّ: لقد تبيّن أنّ الأشخاص الّذين بَلّغوا عن شعورهم بالاحتراق النّفسيّ، هم أكثر عرضةً للحاجة لتلقّي العلاج في المستشفيات نتيجةً لأمراض القلب، وأكثر عرضةً للإصابة بالمشاكل النّفسيّة، مثل الاكتئاب والخوف والقلق واضطرابات النّوم. لوحِظَ انخفاض في معدّل الإنتاج والنّجاعة في المنظّمات، الّتي يعمل فيها كثيرون ممّن يعانون من الاحتراق النّفسيّ، وكذلك انخفاض في الرّضا وفي مدى التزام العاملين والعاملات تجاه مكان العمل. أدّت هذه الظّواهر مجتمعة، في نهاية المطاف، إلى تزايد ظاهرة تَرك العمال أماكن عملهم.
قد يكون الاحتراق النّفسيّ "مُعدِيًا". أجريت تجربة على أعضاء الهيئة التّدريسيّة في هولندا، طُلِب فيها من المعلّمين قراءة صحيفة كجزء من تجربة موضوعها نمط الحياة الصّحّيّ، ثمّ أجابوا عن استمارة لتقدير مدى احتراقهم النّفسيّ. حوت الصّحيفة الّتي قَرأها المشاركون في التّجربة مقابلة وهميّة، مع معلم يسخر فيها من دوره كمعلّم، ويشكو من الإرهاق والتّآكل، أمّا صحيفة المجموعة الضّابطة (المقارَنة) فقد حوت مقالة وهميّة مع معلّم عبّر فيها عن شعور مشابه، تجاه موضوع لا علاقة له بالتّعليم. تبيّن، من استمارة فحص مدى الاحتراق النّفسيّ في العمل، أنّ المشاركين في التّجربة، الّذين اطّلعوا على المقابلة الأولى، أنّهم عانَوا من الاحتراق النّفسيّ أكثر ممّن كانوا في المجموعة الضّابطة.
اختبار "مسلاخ" للاحتراق النّفسيّ ومقاييسه
كريستينا مسلاخ (Maslach) من جامعة كاليفورنيا، هي باحثة رياديّة في مجال الاحتراق النّفسيّ. أنشأت مسلاخ سنة 1981، بمشاركة زملائها، أوّل اختبار لِقياس الاحتراق النّفسيّ، وحدّدت ثلاثة مُكوّنات رئيسيّة تتجلّى لدى العمال والعاملات الّذين يعانون من الاحتراق النّفسيّ. المُكوِّن الأوّل هو الإعياء - يشعر هؤلاء العمال بالتّعب وقلّة الطّاقة أو قلّة الحافز. أمّا المكوّن الثّاني فهو تبدّد الشّخصيّة - الانفصال أو البعد أو الاغتراب عن الذّات والآخرين. يبتعد العامل أو العاملة الّذين يعانون من الاحتراق النّفسيّ عن زملائهم، عن المسؤولين عنهم، عن الزّبائن، عن طلّابهم أو عن المعالَجين الواقعين تحت مسؤوليّتهم. قد تتجلّى هذه العُزلة العاطفيّة بالسُّخرية، بقلّة التّعاطف مع الآخرين وقلّة الاكتراث. المكوّن الثّالث هو انخفاض في الإنجازات وفي الشّعور بالكفاءة في العمل. يشعر هؤلاء أنّ عملهم لا معنى له ولا طائل منه، ويعانون من الشّعور بالخيبة والفشل وفقدان القدرة الذّاتيّة وفقدان السّيطرة.
حثّت مسلاخ سنة 2019 منظّمة الصّحّة العالميّة (WHO) على الاعتراف بالاحتراق النّفسيّ ظاهرةً تتعلّق بالعمل، الّتي من شأنها أن تُشكّل عامل خطرٍ صحيّ. على الرّغم من ذلك، لا يُعتبر الاحتراق النّفسيّ إصابة نفسيّة، وهو ليس مشمولًا في الدّليل لِتشخيص الاضطرابات النفسية - DSM-5 وإحصائها. بذلك، أصبح هناك أشخاص يعانون من الاحتراق النّفسيّ، إلّا أنّهم لم يحظوا باعتراف رسميّ بحالتهم، وليست هناك قواعد وأسس متّفق عليها لتشخيص المشكلة وعلاجها.
على الرّغم من اعتراف منظّمة الصّحّة العالميّة بالاحتراق النّفسيّ، عاملًا يشكّل خطرًا صحّيًّا، إلّا أنّه ليس هناك اعتراف به كإصابة نفسيّة. في الصّورة ممرضة مرهقة أثناء ورديّة عملها في المستشفى. | Robert Kneschke, Shutterstock
الانطواء والشّعور بانخفاض القدرات الذّهنيّة
أضافت مجموعة أخرى من الباحثين، من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا، لثلاثة العناصر الّتي شخّصتها مسلاخ للاحتراق النّفسيّ، مُكوِّنَيْن آخرين هامّين: الانطواء وانخفاض القدرات الذّهنيّة، أي القدرة على التّفكير. طُلِبَ، ضمن الدّراسة الّتي أجراها هؤلاء الباحثون، من أشخاص يعانون من الاحتراق النّفسيّ الإجابة عن استمارة أخرى، سُئِلوا فيها فيما إذا كانوا يشعرون بانخفاض في أدائهم الذّهنيّ. أظهرت النّتائج علاقة بين الاحتراق النّفسيّ وشعور الّذين أُجريَ الفحص عليهم، بأنّهم يعانون من انخفاض في الإصغاء والتّركيز والذّاكرة. على الرّغم من أنّ الباحثين لم يُفصِحوا فعليًّا فيما إذا كان هناك انخفاض في تلك القدرات، فإنّ الشّعور الذّاتيّ للعمال أنفسهم بأنّ قدراتهم قد تضرَّرت، كان كافيًا لأن يؤدّي إلى الشّعور بالعجز، بفائض بالمهام الملقاة عليهم، والافتقار للنجاح وانخفاضٍ بالأداء الفعليّ.
قد ينجم عنصر الانطواء الّذي شخّصه الباحثون عن مُكوّنات الاحتراق النّفسيّ المعروفة أكثر، والّتي حدّدتها مسلاخ، وذلك في حال كان تبدّد الشّخصيّة وقلّة الاكتراث، هي الّتي تؤدّي إلى انطواء العامل أو العاملة المحترقين نفسيًّا وابتعادهم عن زملائهم. وقد يكون عنصر الانطواء بمثابة جسرٍ يصل بين التّآكل والإرهاق في العمل، والاكتئاب الذي يصيب نواحي أخرى من حياة العامل. بذلك، فإنّ ما بدأ تحدّيًا مؤقّتًا في مكان العمل، قد يُلحِق ضررًا بالغًا في جودة حياة الشخص، ويؤدي إلى الاكتئاب المستمرّ.
يُعتبر التّشخيص الصّحيح للمشكلة وتقدير حجمها، واحدًا من التّحدّيات في مجال الاحتراق النّفسيّ. ادّعت مجموعة من الباحثين الأمريكيّين، على رأسهم سيندي ميور زاباتا (Muir Zapata)، من جامعة نوتردام في إنديانا، أنّ الاستمارات القائمة بهذا الشّأن طويلة جدًّا ومُرهقة، وتُشكِّلُ عبئًا على المُعالِجين وعلى المُعالَجين، ممّا يؤدي إلى أن تكون عمليّة التّشخيص طويلة وتفتقر للدِّقة. عرض الباحثون مؤخّرًا بديلًا سهلًا - "اختبار عود الثّقاب". تشمل استمارة التّشخيص الّتي اقترحها هؤلاء الباحثين سؤالًا واحدًا فقط: يُطلَب من العمّال النّظر إلى صورة تظهر فيها ستّة حتّى ثمانية من عيدان الثّقاب المحروقة والمُسوَدّة، كلًّا منها بقدْر مختلف، ثمّ الافصاح عن عود الثّقاب الّذي يعكس مدى احتراقهم النّفسيّ في العمل. يدّعي الباحثون أنّ هذا الاختبار يكشف عن مستوى الاحتراق النّفسيّ، بدقّة تُضاهي دقّة الاستمارات الأخرى المتوفّرة بل وتفوّقها.
نجحت استمارة بسيطة في تشخيص الاحتراق النّفسيّ. في الصّورة، عيدان الثّقاب المحروقة، ضمن هذا الاختبار. | Africa Studio, Shutterstock
الآليّة الفسيولوجيّة للاحتراق النّفسيّ
قد تريدون القول في هذه المرحلة أنّ الجميع يعاني من عبء العمل، وأنّ التّعب النّاجم عن ذلك ليس بظاهرة تقتضي تعريفًا خاصًّا بها. وفعلًا، كما ذُكر أعلاه، فهي لا تظهر كظاهرة قائمة بحدِّ ذاتها في دليل تشخيص الاضطرابات النّفسيّة، الـ DSM-5. على الرّغم من ذلك، فإنّ الاحتراق النّفسيّ ليس مجرّد تعب وإعياء ينجمان عن العبء. أوجه الشّبه بين أعراض الاحتراق النّفسيّ وأعراض الاكتئاب كثيرة، وتشمل الإعياء، قلّة الشّعور بالنّجاح في العمل والعزلة الاجتماعيّة. يُصرّ الاختصاصيّون في هذا المجال على الاعتراف بالاحتراق النّفسيّ بأنّه حالة نفسيّة منفردة، وليس حالة بسيطة من الاكتئاب، ويؤكّدون أنّ الاحتراق النّفسيّ لا يشمل أعراض الاكتئاب الأخرى الشّائعة، مثل الحزن، الشّعور بالذّنب، انعدام الأمل وانعدام التّقييم الذّاتيّ.
بحث أرييه شيروم من قسم الإدارة في جامعة تل أبيب، والّذي أسهم كثيرًا في دراسة الاحتراق النّفسيّ في البلاد وفي أنحاء العالم، هذه الادّعاءات. أكّد شيروم أنّ الاكتئاب هو حالة نفسيّة "شاملة" تحيط حياة الإنسان في كلّ المجالات. بالمقابل، يرتبط الاحتراق النّفسيّ بالعمل بشكل خاصّ، مع أنّه قد يجرُّ معه مشاكل أخرى خارج ساعات العمل. هذا الفصل بين الظّاهرتين، الاكتئاب والاحتراق النّفسيّ في العمل، هامٌّ للغاية، ذلك لأنّ سبل العلاج المناسبة والمكرّسة لحالات الاكتئاب لن تُجدي نفعًا، بالضّرورة، للّذين يعانون من الاحتراق النّفسيّ في العمل.
يشمل الاكتئاب جميع نواحي الحياة، بينما يرتبط الاحتراق النّفسيّ بالعمل خاصّة. التّوازن بين الحياة والعمل على الأرجوحة | Marie Maerz, Shutterstock
الضّغط والتّوتّر!
إذا كان الاحتراق النّفسيّ مختلفًا عن الاكتئاب، يمكن التّساؤل عمّا إذا كان الاحتراق النّفسيّ مطابقًا تمامًا، لِردّ فعل الجسم الطّبيعيّ على حالة الإجهاد الجسديّ. لقد بُحثت آليّة الإجهاد الجسمانيّ على مرّ سنين كثيرة، ولها مزايا دماغيّة وهرمونيّة وفسيولوجيّة خاصّة. يمكن الادّعاء بأنّ الاحتراق النّفسيّ هو نتيجة مباشرة لتفعيل هذه الآليّة في سياق العمل، وأنّ النّتائج لا تختلف عن تفعيل الآلية ذاتها في أي سياق آخر. إلا أنّ الباحثَيْن ݞوردون باركر (Parker) وݞڤريئيلا تاڤيلا (Gabriela Tavella)، يدعيان أنّه على الرّغم من أنّ الاحتراق النّفسيّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالآليّة العامّة للإجهاد النّفسيّ، من الجدير التّطرّق إليه بشكل منفرد.
من الجدير ذكره أنّ ردّ فعل الإجهاد الفسيولوجيّ (stress response) ليس ظاهرة سلبيّة بالضّرورة. قد يكون "العمل تحت الضّغط" مثيرًا بل وممتعًا لفترة قصيرة من الزّمن. وقد يُسهم الضّغط في الشّعور بالتّركيز وتحسين الأداء، كما يقول الكثيرون من الرّياضيين الّذين شاركوا في المسابقات الهامّة. يُنشَّط الجهاز العصبيّ اللاإراديّ الوُدّيّ في حالات التّوتّر الحادّة (الفوريّة)، ممّا يتسبّب في إفراز الأدرينالين، وتنجم عن ذلك، مجموعة متنوّعة من الظّواهر الفسيولوجيّة، مثل زيادة اليقظة، ومعدّل دقّات القلب وضغط الدّمّ. ويتمّ، بالإضافة إلى ذلك، تنشيط مناطق الدّماغ الّتي تُسبّب إطلاق هرمون التّوتّر، الكورتيزول، من الغدة الكظرية (الغدة فوق الكلوية). يسمّى مجمل ردود الفعل هذا "القتال أو الهروب" أو "الكرّ أو الفرّ"، وهو يتيح ردّ فعل سريع على الخطر المداهم. لقد تكوّنت هذه الآليّة في مرحلة مبكّرة من مراحل التّطوّر، ولها دور هامّ في بقاء الحيوانات على قيد الحياة. تنشط ردود فعل سلبيّة في الجسم توقِف إفراز هرمونات التّوتّر، ويعود الجسم إلى حالته الطبيعيّة، عندما يختفي سبب التّوتّر أو تجد المشكلة حلَّا. لكن، ماذا يحدث في حال تعرّضنا لحالة متواصلة ومستمرّة من الضّغط والتّوتّر؟
تُشكل آليّة تنشيط الجهاز العصبيّ الودّيّ، وردّ فعل الكرّ أو الفرّ المرحلة الأولى من ردّ الفعل، على الضّغط والتّوتر الّذي يستمرّ لفترة زمنيّة طويلة. يُطوّر الجسم في المرحلة الثّانية، في حال استمرّ إفراز هرمونات التّوتّر والضّغط ، مناعة للهرمونات، أي أنّه "يتجاهل وجودها". يحاول الجسم في هذه المرحلة العودة إلى وضعه الطّبيعيّ، بالرّغم من المستوى العالي من الكورتيزول في الدّم. يصل الجسم إلى المرحلة الثّالثة من ردّ فعله على حالة التّوتّر والضّغط - الإعياء، في حال استمرّت حالة التّوتّر والضّغط وإفراز الكورتيزول المتزايد، إذ لا ينجح الجسم في تجاهل فائض الكورتيزول. تُعرّف هذه المرحلة بمتلازمة التّعب أو الإرهاق المزمن أو الضّغط العصبيّ، stress، وهي مرتبطة بالعديد من المشاكل الصّحّيّة، منها ضغط الدّمّ العالي، وأمراض القلب والاكتئاب والقلق.
قد يؤدّي التّوتّر المزمن إلى تغيّرات بعيدة المدى في الدّماغ، خاصّة في الحصين و اللّوزة الدّماغيّة وقشرة الفصّ الجبهيّ. وجود فائض من هورمونات الضّغط والتّوتّر، الكورتيزول والأدرينالين، يضرُّ بعمليّات نموّ الخلايا العصبيّة في الحصين، وهي المنطقة الهامّة للتّعلّم والذّاكرة. ينجم عن ذلك انخفاض في القدرات الذّهنيّة مثل التّعلّم، والذّاكرة المكانيّة واللّفظيّة، وانخفاض في القدرة على إدراك المحفّزات من البيئة المحيطة، تحليلها وتفسيرها؛ يُبَلّغ الأشخاص الّذين يعانون من ذلك، عن شعورهم بغموض الدّماغ (ضباب الدّماغ، brain fog). وجدت تغيّرات دماغيّة وفسيولوجيّة شبيهة للغاية، لدى الأشخاص الّذين يعانون من الاحتراق النّفسيّ. مع ذلك، فقد بيّنت دراسة بحثت في التّوتّر المزمن أنّ التّغيّرات الذّهنيّة، مثل الضّرر الّذي يلحق بسداد الرّأي عند اتّخاذ القرارات، هي تغيّرات قابلة للتّراجع.
قسّم باركر وتاڤيلا الأشخاص الّذين يعانون من الاحتراق النّفسيّ إلى مجموعتيْن: تشمل المجموعة الأولى الأشخاص الموجودين في خضمّ عمليّة الاحتراق النّفسيّ، في مرحلة المناعة ضدّ هرمون التّوتّر، الكورتيزول، ويحاولون تجاهل أحاسيسهم ومزاولة عملهم. وتضمّ المجموعة الثّانية "المحروقون نفسيًّا"، الّذين بلغوا المرحلة الثّالثة والأخيرة من العمليّة، وأصبحوا غير قادرين على تجاهل الضّغط والتّوتّر والإعياء الّتي لا تبرحهم. بكلماتٍ أخرى، الاحتراق النّفسيّ هي حالة ناجمة عن عمليّة طويلة من الإرهاق النّفسيّ والذّهنيّ، وليست ردّ فعل فوريًّا لضغوط أو توتّر محدود المكان والزّمان.
ليس من المؤكّد، على الرّغم من ذلك، أنّه يمكننا أن نعرِف حقًّا من خلال هذه الدراسة، تأثير الاحتراق النّفسيّ- في العمل على القدرة على اتّخاذ القرارات. فحصت الدّراسة اتّخاذ القرارات لدى المرشّحين لدراسة الطّبّ، بعد فترة وجيزة من امتحانات القبول، وكذلك بعد ذلك بستّة أسابيع. كان اتّخاذ القرارات لدى المرشّحين، بعد مرور ستّة أسابيع، بعد تلاشي الضّغط والتّوتّر النّاجمة عن الامتحانات، أفضل منها بعد فترة وجيزة من الامتحانات. إلّا أنّ الضّغط النّاجم عن امتحانات القبول لدراسة الطّبّ، مهما كان قَدره وطول مدّته، لا يضاهى، على ما يبدو، الضّغط والتّوتّر النّاجميْن عن الاحتراق النّفسيّ بعد سنين من العبء المتراكم في مكان العمل.
تُفرَز هرمونات الأدرينالين والكورتيزول كردّ فعلٍ على الضّغط والتّوتّر وتُفعّلُ ردّ فعل "القتال أو الهروب" (الكرّ أو الفرّ). الجهاز العصبيّ اللاإرادي الوُدّيّ | TarikVision, Shutterstock
من هم الأشخاص الأكثر عرضةً للاحتراق النّفسيّ، وما الّذي يمكن فعله؟
فسّرَ ݞوردن باركر، من خلال مقابلة أجرتها معه مجلة "تايمز"، كيف ولماذا الأشخاص المائلين للكماليّة هم أكثر عرضةً لدرجات عالية من التّعرّض للاحتراق النّفسيّ. الكماليّون قادرون على أن يكونوا عمّالًا ممتازين، وذلك بفضل إخلاصهم وتفانيهم وتوخّيهم الدّقّة في العمل. إلّا أنّه من المحتمل، بالمقابل، أن يضع هؤلاء سقفًا عاليًا من الأهداف عسيرة التّحقيق أمام أعينهم، ثمّ تُؤنبهم ضمائرهم ويغرقون بالنّقد الذّاتيّ، عندما لا تُحقّق هذه الأهداف بالكامل.
كيف يمكن علاج الاحتراق النّفسيّ؟ بادئ ذي بدء، يوصي الباحثون تشخيص مصدر الاحتراق، فيما إذا كان مرتبطًا بمكان العمل، أو البيت، أو أوقات الفراغ أو أي دمجٍ بينها. يمكن، مثلًا، أن يؤدّي عبء المهام، أو عدم التّقدير والاعتراف، أو بُطء التّقدّم في ظروف العمل والأجرة، وكثرة ساعات العمل الإضافيّة إلى الاحتراق النّفسيّ في مكان العمل. كما يمكن أن تؤدّي المسؤوليّة المنفردة عن المهام المنزليّة، أو العبء الثّقيل النّاجم عن رعاية أبناء العائلة، بما فيهم الأولاد والأقرباء البالغين إلى الاحتراق النّفسيّ. يوصَى، بعد تشخيص مصدر الاحتراق النّفسيّ، بفحص إمكانيّة توفير السّبل للتّخفيف من العبء. من شأن محادثة حُرّة تُجرى مع المسؤول في مكان العمل، أو مع الزملاء، أو مع أبناء العائلة، أن تسهم في توفير السّبل لتوزيع المهام أو إتمامها بشكل آخر.
من المؤسف أنّه ليس من الممكن دائمًا إيجاد حلّ عمليّ وفوريّ، للتّسهيل من عبء العمل في مكان العمل أو أشغال البيت. يمكن، في مثل هذه الحالات، استخدام طرق تخفيف التّوتّر مثل النّشاط الرّياضيّ الجسمانيّ، والتّأمل، والتّمرين على التّركيز الذّهنيّ الكامل. وُجدَ في دراسات كثيرة أنّ هذه الوسائل فعالةً، وَبمقدورها التّخفيف من أعراض الاحتراق النّفسيّ. يمكن أن يساعد هذا النّوع من النشاطات في الاسترخاء والابتعاد عن الأفكار المزعجة المتعلّقة بمصدر الإرهاق، كما تبيّنَ أنّها ذات فعاليّة عالية في خفض مستويات هرمون التّوتر في الجسم.
يتطلّب علاج الاحتراق النّفسيّ، بخلاف علاج حالات الاكتئاب، التّدخّل على مستوى الشّخص المُعالَج، وعلى المستويات النّظاميّة العُليا أيضًا. قد ينجم الاحتراق النّفسيّ، من جهة، عن هيكل المنظّمة العمّاليّة،
والمهام الكثيرة الّتي تُلقى على العمّال، و الإدارة غير السّليمة وعلاقات العمل السّيئة. توجد، من جهة أخرى، عوامل في الشّخصيّة وفي المنظومة الّتي من شأنها أن تقي من الاحتراق النّفسيّ. يمكن أن تسهم العوامل التّالية في التّخفيف من حدّة الاحتراق النّفسيّ: بيئة عمل مفتوحة يسودها التّواصل الدّائم بين العمال، وعمليّات متكرّرة من استرجاع الأحداث، والظّروف ما بين المديرين والموظّفين، والتّواصل الدّائم فيما يتعلّق بمتطلّبات الوظيفة، والتّوقّعات والصّعوبات الاجتماعيّة داخل مكان العمل - كلّ ذلك يمكن أن يخفّف من الإرهاق والاحتراق النّفسيّ.
إذا لم تختفي حالة الشّعور بالإرهاق والاحتراق النّفسيّ، يفضل التّوجّه للاستشارة النّفسيّة.