قد ترتبط حياتنا الاجتماعيّة وحالتنا النفسيّة بالتنوّع البكتيريّ في الأمعاء، كما ويمكن أن يتسبّب التهاب الأمعاء في الإصابة بمرض الزهايمر: الأمعاء والدماغ- ما هي العلاقة المفاجئة بينهما؟

الدماغ هو العضو المركزيّ المسؤول عن أفكارنا ومشاعرنا، وكذلك عن تبادل الإشارات بين الأعضاء الّتي تسمح لنا بالمشي، الغناء والرقص. ولكن إلى جانب هذه الأدوار الّتي نقوم بها جميعًا، يشارك الدماغ أيضًا في تشغيل الأنظمة الأخرى، الّتي قد لا نعرف أنّه مسؤول عنها. على سبيل المثال، تؤثّر الإشارات الصادرة عن الدماغ في  معدّل التنفّس، ضغط الدم، إنتاج البول واستجابة الجسم لعوامل المرض. بالإضافة إلى ذلك، يتلقّى الجهاز الهضميّ إشارات من الدماغ تؤثّر في طبيعة عمله وكميّة الدم المخصّصة لعمليّات الهضم. لكن في السنوات الاخيرة، علّمتنا سلسلة من الاكتشافات الرائعة أنّ هذه العلاقة ثنائيّة الاتّجاه؛ يمكن للجهاز الهضميّ أيضًا أن يؤثّر في الدماغ، مشاعرنا وحالتنا النفسيّة.

يُسمَّى الاتّصال المعقّد بين الجهاز الهضميّ والدماغ "المحور الدماغيّ-المعويّ"، ويشترك فيه الجهاز العصبيّ والهرمونيّ وحتّى نشاط البكتيريا الّتي تعيش في الأمعاء. في هذا المقال، سوف نعرض بعض الدراسات الّتي تتناول العلاقة المعقّدة والتأثير المتبادل بين الدماغ والأمعاء، ومجموعات البكتيريا المشاركة في هذه العلاقة.

قرقرة المعدة

يعتبر الجهاز العصبيّ مسؤولًا عن ربط الدماغ ببقيّة أعضاء الجسم. يتكوّن هذا النظام من شبكة عصبيّة  تنقل الإشارات على شكل تيّار كهربائيّ سريع بين الخلايا العصبيّة. يُعدّ الجهاز الهضميّ مهمًّا جدًّا لعملنا اليوميّ، لذلك ليس من المستغرب أن يكون للجهاز العصبيّ دور بعمله أيضًا.

يتكوّن الجهاز العصبيّ المعويّ من مجموعة خلايا عصبيّة تغطّي أعضاء الجهاز الهضميّ، من المريء إلى فتحة الشرج. يُعتبر هذا الجهاز العصبيّ مستقلًّا بحيث يمكنه العمل دون استقبال إشارات متكرّرة من الدماغ، ويعود ذلك إلى كونه جهازًا كبيرًا يحتوي على حوالي 500 مليون خليّة عصبيّة. كانت هذه الخصائص مسؤولة عن تسميته "الدماغ الثاني".

عندما يرسل الدماغ إشارات إلى الجهاز العصبيّ المعويّ، فإنّه يفعل ذلك من خلال عصب خاصّ يُسمّى "العصب المبهم" (Vagus nerve) الّذي يخرج من جزء داخليّ من الدماغ يُسمّى "جذع الدماغ" (Brainstem). يرتبط جذع الدماغ بالوظائف الأساسيّة مثل التنفّس، الحفاظ على ضغط الدم والعمليّات المتعلّقة بالأكل كالمضغ، البلع والشهيّة. يُعتبر العصب المبهم من أطول الأعصاب في جسم الإنسان، بحيث يخرج من جذع الدماغ ويمرّ عبر الصدر و الجوف البطنيّ، ويقوم بتزويد العديد من الأعضاء الأخرى كالقلب والرئتين بالإشارات الحسّيّة والحركيّة. كما ويتيح العصب المبهم التواصل السريع بين الدماغ والأمعاء، وبفضله يمكن للدماغ أن يأمر بتغييرات في عمل عضلات الأمعاء، إفراز حمض المعدة وتقلّص عضلات المثانة.

لكنّ هذا التواصل ليس أحادي الاتّجاه؛ لا يستقبل العصب المبهم الإشارات من الدماغ فحسب، بل يتلقّى أيضًا الإشارات من الأعضاء المختلفة حول حالتها، ثمّ يقوم بنقلها إلى الدماغ. على سبيل المثال، فإنّه يقوم بتحديد الموادّ الّتي تفرزها طبقة الخلايا المبطنة للأمعاء، ما يمكّنه من إرسال الإشارات حول كميّة الطعام في الجهاز الهضميّ، ووفقًا لذلك يسمح للدماغ بتنظيم الشعور بالجوع. بالإضافة إلى ذلك، تؤدّي عمليّة الهضم إلى إفراز هرمونات مختلفة، والّتي بحسبها يقوم العصب المبهم بالإشارة للدماغ لتقليل الشعور بالجوع. وفي المقابل، عندما لا يكون هناك طعام في الجهاز الهضميّ، يتمّ إفراز هرمونات أخرى، فيقوم العصب المبهم بالإشارة للدماغ لزيادة الشعور بالجوع.


عندما يرسل الدماغ إشارات للجهاز العصبيّ المعويّ، فإنّه يفعل ذلك من خلال "العصب المبهم" | رسم توضيحيّ: Axel_Kock Shutterstock

الجيش المنتشر على معدتنا

أحد العوامل المهمّة ذات التأثير الكبير في نشاط الجهاز الهضميّ هو الميكروبيوم (Microbiome) : كائنات حيّة دقيقة مثل الفطريّات، البكتيريا والفيروسات الّتي تعيش معنا في تكافل (Symbiosis). ترتبط البكتيريا عادةً في تفكيرنا بكونها عاملًا غريبًا وضارًّا يغزو أجسادنا ويجب التخلّص منه بأسرع ما يمكن، لكن ليس هذا هو الحال دائمًا. في الواقع، تعتبر أجسامنا موطنًا لمليارات البكتيريا المهمّة لصحّتنا السليمة. تُعدّ هذه العلاقة التكافليّة مفيدة للطرفين: تزدهر البكتيريا في البيئة المناسبة والغنيّة في الغذاء الّذي يوفّره الجسم المضيف، بينما تقوم البكتيريا بتحليل وإفراز موادّ مفيدة للجسم. بالإضافة إلى ذلك، تشكّل البكتيريا الصديقة معظم نسبة البكتيريا الّتي تعيش في جسمنا، بحيث تتنافس مع مجموعات البكتيريا المسبّبة للأمراض ولا تتيح لها التواجد هناك.

إذا نظرنا تحديدًا إلى البكتيريا المعويّة، نجد أنّها تساعدنا على استخراج العناصر الغذائيّة و هضم الألياف الغذائيّة في الطعام. لذلك، ليس من المستغرب أن يكون للبكتيريا تأثير في احتمالات الإصابة بالسمنة. فحصت دراسة العلاقة بين السمنة وبكتيريا الأمعاء، بحيث أخذ الباحثون عيّنات من البكتيريا المعويّة لتوأم متماثل، أحدهما كان نحيفًا والآخر يعاني من زيادة الوزن. عندما زُرعت البكتيريا في أمعاء الفئران بعد وقت قصير، اكتسبت الفئران الّتي تلقّت بكتيريا من الأخ السمين وزنًا، بينما حافظت الفئران الّتي تلقّت البكتيريا المعويّة للأخ النحيف على وزنها الطبيعيّ. لذلك، من الواضح أنّ للبكتيريا تأثيرًا كبيرًا على استهلاك وتحليل الطعام في جسمنا.


المكيروبيوم هو أحد العوامل المهمّة الّتي تؤثّر في نشاط الجهاز الهضميّ | رسم توضيحيّ: SEBASTIAN KAULITZKI / SCIENCE PHOTO LIBRARY

بكتيريا الأمعاء وحالتنا النفسيّة: القلق، العلاقات الاجتماعيّة وربّما الفصام

لا يقتصر عمل البكتيريا المعويّة على تحليل الطعام وهضمه فحسب. يتّضح مع تقدّم الأبحاث أنّها تلعب دورًا كبيرًا في تأثير القناة الهضميّة في الدماغ. أظهرت دراسة أُجريت في سنوات التسعينيات أنّ بعض البكتيريا في الجهاز الهضميّ للفئران تؤثّر في سلوك الحيوان وتكون مسؤولة عن أعراض التوتّر والقلق. أظهر الباحثون في هذه الدراسة لأوّل مرّة أنّ تأثير البكتيريا المعويّة في الدماغ وسلوك الحيوان لا يتعلّق بنشاط  جهاز المناعة.

في وقت لاحق، أظهرت دراسة أخرى أنّ البكتيريا المعويّة تقوم بتغيير استجابة جسم الحيوان للإجهاد، بشكل جزئيّ من خلال التأثير في منطقة في الدماغ تُسمّى الوطاء (Hypothalamus) والغدّة النخاميّة (Pituitary gland) والغدّة الكظريّة (Adrenal gland)؛ هذه الغُدد الثلاث مسؤولة عن استجابة هرمونيّة تُسمّى "نظريّة الكرّ والفرّ" (Fight-or-flight response)، حيث يتمّ إفراز هرمونات مثل الكورتيزول والأدرينالين في الدم، بهدف تهيئة الجسم للتعامل مع وضع خطير. مؤخّرًا، نُشرت دراسة حول تأثير بكتيريا الأمعاء في الاستجابة للإجهاد، حيث أخذ الباحثون بكتيريا الأمعاء من البشر الّذين مرّوا بتجربة نفسيّة صعبة وعانوا من القلق، ثمّ قاموا بزرعها في أمعاء الفئران، والّتي عقب ذلك بدأت في إظهار سلوك القلق. يشير هذا إلى أنّ التغيير في تكوين البكتيريا المعويّة يمكن أن يؤثّر بشكل مباشر في سلوك الحيوانات. شملت هذه الدراسة أيضًا فحص تركيب البكتيريا المعويّة للأشخاص الّذين يعانون من الضغط النفسيّ المستمرّ، ووجدوا أنّها مختلفة وأقلّ تنوّعًا بالمقارنة مع أولئك الّذين لا يعانون من ضغط نفسيّ. إضافة إلى ذلك، تنتج البكتيريا المعويّة نواقل عصبيّة مثل السيروتونين والدوبامين، والّتي قد تؤثّر في مزاجنا أيضًا.

من المهمّ الأخذ بعين الاعتبار أنّ نتائج هذه الدراسة اعتمدت على الفئران، والّتي تُعتبر حيوانات نموذجيّة لأنظمة معيّنة، لذلك يمكن الاعتماد عليها بشكل محدود بما يخصّ جسم الإنسان. قد تشير النتائج إلى تأثير مماثل لدى البشر، ومع ذلك، فإنّ هذا لا يزال يتطلّب المزيد من البحث الدقيق.


يقوم الجهاز العصبيّ بربط الدماغ ببقيّة أعضاء الجسم | صورة: Macrovector Shuttertock

هل ترتبط البكتيريا المعويّة أيضًا  بالراحة النفسيّة والهدوء؟ في الواقع، هناك عدّة دراسات بحثت هذا الجانب أيضًا وأشارت إلى العلاقة بينها. من بين أمور أخرى، قام الباحثون بفحص تكوين البكتيريا المعويّة للرهبان البوذيّين الّذين يمارسون التأمّل العميق، وحدّدوا أنواع البكتيريا المرتبطة بمستويات منخفضة من التوتّر والاكتئاب. بشكل مثير للاهتمام، لم يتمّ العثور على هذه البكتيريا في أمعاء السكّان الّذين يعيشون بالقرب من الرهبان، لكنّهم لا يمارسون التأمّل.

أشارت دراسة أخرى إلى وجود علاقة بين تنوّع البكتيريا في القناة الهضميّة والقدرة على الحفاظ على علاقات اجتماعيّة واسعة. بالمقابل، فإنّ تنوّع البكتيريا المعويّة محدود لدى الأشخاص الّذين يعانون من التوتّر والقلق، أو الّذين يواجهون تحدّيات في المهارات الاجتماعيّة مثل الأشخاص الّذين يعانون من اضطراب طيف التوحّد. من المهمّ فهم صعوبة التفرقة بين الخصائص المتنوّعة للمشاركين في هذه الدراسات، بدءًا من الحالة النفسيّة، وحتّى الطعام الّذي يستهلكونه. على سبيل المثال، يرتبط التوحّد بصعوبة الحفاظ على نظام غذائيّ متوازن ومتنوّع، وليس من السهل التمييز بين العوامل المرتبطة- الاختلاف العصبيّ، التغذية، والبكتيريا المعويّة- وتحديد أيّهما هو العامل المؤثّر أو المتأثّر. من خلال البحث الإحصائيّ، تمكّن الباحثون في هذه الدراسة من استنتاج أنّ هناك بالفعل علاقة بين درجة التواصل الاجتماعيّ وتنوّع البكتيريا المعويّة، والّتي لا يمكن تفسيرها بناءً على النظام الغذائيّ لوحده.

قد تؤثّر الكائنات الدقيقة المعويّة أيضًا في وظائف الدماغ بشكل غير مباشر. على سبيل المثال، إذا تسبّبت هذه الكائنات الدقيقة في التهاب طويل الأمد، قد يؤدّي ذلك إلى زيادة نشاط جهاز المناعة. أشارت الدراسات إلى وجود علاقة بين مجموعات بكتيريا معويّة معيّنة وأمراض الدماغ التنكسيّة (Degenerative diseases) مثل مرض الزهايمر والتصلّب المتعدّد (Multiple Sclerosis)، ويبدو أنّ جزءًا من هذا التأثير مرتبط بالاستجابة الالتهابيّة للبكتيريا. يمكن أن يؤدّي الالتهاب المزمن إلى إتلاف الحاجز الدمويّ الدماغيّ (Blood-brain barrier)، والّذي يمنع في وضعه الطبيعيّ تغلغل الموادّ الضارّة من مجرى الدم إلى الدماغ. يتميّز بعض الأشخاص الّذين يعانون من أمراض الدماغ التنكسيّة بوجود حاجز دمويّ دماغيّ أكثر نفاذًا، ما يسمح بمرور الموادّ من مجرى الدم إلى الدماغ بشكل أكبر من الطبيعيّ. بالإضافة إلى ذلك، هناك أدلّة ظرفيّة على أنّ الاستجابة الالتهابيّة في الأمعاء مرتبطة بالاضطرابات النفسيّة مثل الفصام. تُعتبر الآليّة البيولوجيّة الكامنة وراء الاضطرابات النفسيّة معقّدة للغاية، وهناك حاجة إلى المزيد من الدراسات لفهم العلاقات المتبادلة بين البكتيريا المعويّة، الجهاز المناعيّ والدماغ في هذا السياق.


قد تؤثّر الكائنات الدقيقة الموجودة في الأمعاء أيضًا في وظائف الدماغ بطريقة غير مباشرة | رسم توضيحيّ : Pikovit Shutterstock

اختيار البكتيريا المناسبة

نقوم بجمع البكتيريا في أجسامنا طوال حياتنا، خاصّة أثناء النموّ والبلوغ. يُعتبر حليب الأم والطعام الّذي نتناوله في صغرنا من المصادر المهمّة للبكتيريا المفيدة لنا. يتأثّر نموّ البكتيريا بالأطعمة المختلفة، ويبدو أنّ الأطعمة الّتي نستهلكها لها تأثير في البكتيريا المعويّة لدينا، وبالتالي في  حالتنا النفسيّة. يرتبط الاستهلاك العالي للسكّر بأعراض القلق، ويبدو أنّ الشاي يقلّل إلى حدٍّ ما من احتمالات الإصابة بالاكتئاب.

بالإضافة إلى البلوغ والشيخوخة، فإنّ النشاط البدنيّ هو أحد العوامل الّتي تؤثّر في البكتيريا المعويّة. لا تزال هناك حاجة إلى المزيد من الدراسات في هذا المجال، ولكن هناك بالفعل دليل على أنّ النشاط البدنيّ في المراحل المبكّرة من الحياة له تأثير إيجابيّ في البكتيريا المعويّة. قد يؤدّي تعرّضنا للبكتيريا المسبّبة للأمراض إلى حدوث تغيير في تركيب البكتيريا المعويّة، لذلك قد يساعدنا استخدام المضادّات الحيويّة في التعامل مع البكتيريا الضارّة. 

الجسم الديموقراطيّ

اعتدنا التفكير بأنّ الدماغ هو العضو الّذي يتحكّم بأنظمة الجسم ويقوم بمزامنة عملها؛ لكن من المهمّ أن نتذكّر أنّ عمل أجسامنا يعتمد على العلاقات المتبادلة، وأنّ الأنظمة المختلفة تؤثر في بعضها. كذلك الدماغ والجهاز العصبيّ، فإنّهما ليسا شاذَّين، حيث يوجد تأثير متبادل بين الجهاز الهضميّ والعصبيّ، وعلى وجه الخصوص الدماغ.

تُعتبر البكتيريا المعويّة عاملًا رئيسًا في العلاقات المتبادلة في جسمنا، ومع تعمّق فهمنا لتأثيرها في  الدماغ. ومع تطوّر الأبحاث، نقترب أكثر فأكثر من استخدام البكتيريا المعويّة لأغراض علاجيّة. فمن الممكن في المستقبل غير البعيد أن نقوم بمعالجة الأمراض والاضطرابات بوسائل بسيطة تتمثّل في زرع البكتيريا المعويّة. حتّى ذلك الحين، يجب أن نستمرّ في استكشاف هذه التفاعلات الرائعة، ومحاولة تحسينها من خلال الحفاظ على نمط حياة صحيّ.

 

0 تعليقات