تُشارك بعض الحيوانات الآخرين من مجموعتها في الطّعام. ما السّرّ في ذلك؟ كيف تقرّر هذه الحيوانات لمن تُعطي مِن غذائها؟ وهل تأملُ أن تنالَ شيئًا بالمقابل؟

اِحتارت "ليئة أورجانا"، العقعقة الزّرقاء المحبوسة في قفص في أحد المختبرات في النّمسا، هل تأكل جميع اليرقات اللّذيذة الّتي في الإناء أمامها وتكفيها لسدّ جوعها وتزيد، أم تتقاسمها مع "هان سولو" و"أميد ئيلا نافري" و"جابا دي هات"، زملائها وزميلاتها العقاعق المحبوسة وراء الشّبكة الفاصلة بينهما في القفص، على مرأى ومسمع منها؟

تعيش العقاعق الزّرقاء (Cyanopica cyanus)، وهي طيور من عائلة الغرابيّات، في أحضان الطّبيعة شرق آسيا. يُعرف هذا النّوع، مثل الكثير من هذه العائلة، بحكمة أفراده، إذ بيّنت الدّراسات أنّها تستطيع حلّ المشاكل المعقّدة. يعيش العقعق في مجموعات تشمل عددًا من الطّيور البالغة الّتي ترتبط بعلاقات قربى بين بعضها، بينما لا يرتبط البعض الآخر بمثل هذه العلاقة، وتتكفّل جميع أفرادها بتربية الصّغار وتتقاسم الطّعام فيما بينها. لم يكن قصد الباحثين الّذين وضعوا العصفورة الجنرال "أورجانا" في حيرةٍ من أمرها أن يعرفوا هل تتقاسم الطّيور الطّعام فيما بينها - إذ أنَّ الإجابة على ذلك معروفة. أراد الباحثون معرفة الحالة الّتي تُقدّمُ فيها العقاعقُ اليرقاتِ إلى زملائها في الجانب الآخر من الشِّباك: هل يحدث ذلك عندما لا يتوفّر الغذاء لدى العقاعق الأخرى أم أنّها تعطيها من غذائها حتى لو كان لديها ما يكفيها من اليرقات فتأكل وتشبع ولا تحتاج لفضلٍ من الآخرين؟ هل يتجلّى كرمها عندما تناديها العقاعق الأخرى وتطلب منها الغذاء لتسدّ جوعها أم أنّها تتنازل عن غذاءٍ ممّا لديها حتّى لِمَن لم يطلب ذلك؟ 

أراد الباحثون، في نهاية المطاف، معرفة الغاية من وراء تقاسم الطّعام بين العقاعق والتّحقّق ممّا إذا كانت العقاعق تدرك احتياجات زملائها أو أنّها تفعل ذلك بدافع غريزيّ يُملي عليها تقاسم الطّعام دون علاقة بالسّبب أو الفائدة المرجوّة. تُمَهّد نتيجة هذا البحث الطّريق نحو الإجابة عن سؤال على نطاق أوسع ألا وهو: هل الدّافع من وراء تقاسم الحيوانات الطّعام والمساعدة المتبادلة هو الحافز نفسه الّذي يجعلنا نحن، بني البشر، نساعد الآخرين؟

עקעק תכול אוכל זחלי חיפושית קמח טעימים | קרדיט: Utrecht University
تُعطي أنثى العقعق الأزرق الغذاء إلى زملائها إذا كانت هناك حاجة لذلك. العقعق الأزرق يتغذّى على يرقات خنفساء الطّحين اللّذيذة| منسوب إلى: Utrecht University

لغزٌ في التّطوّر 

يمكن اعتبار ظاهرة تقاسم الغذاء، عوضًا عن الوالد الذي يطعم أبناءه، لغزًا يستدعي الإجابة من نظريّة التّطوّر، على الرّغم من انتشارها بين الكثير من الحيوانات. الانتقاء الطّبيعيّ عبارة عن سباق أو تنافس: يحظى من يُفلح في إنجاب العدد الأكبر من الأبناء ورعايتهم حتّى يبلغوا ويتكاثروا بنقل مورّثاته (جيناته) للأجيال القادمة. تنتقل المورثات الّتي تساهم في فوزحاملها في السّباق - بأن تجعله يسمع بشكل أفضل ويهضم الغذاء بنجاعة ويلقى إعجاب الجنس الآخر أو بأيّة طريقة أخرى - إلى الذُّرِّيّة الآخذة في التّكاثر ويجعلها تترعرع وتزدهر. أمّا المورّثات الّتي تضرُّ بهذه الغاية - تؤدّي إلى الأمراض أو إلى العقم مثلًا - فلا تنتقل للأجيال القادمة، أو أنّها تنتقل إلى أعدادٍ قليلة من الأبناء. 

تُعدُّ المورّثة التي تجعل حاملها يتقاسم غذاءه مع كائن آخر لا يمتّ له بصلة قرابة مورّثةً ضارّةً من النّاحية التّطوّريّة. يعود ذلك إلى أنّ الحيوان الّذي يحمل هذه المورّثة يجد نفسه مرارًا وتكرارًا في وضعٍ يملك فيه كمّيّة غذاء أقلّ ممّا كان يملكها فيما لو لم يتقاسمها مع الآخرين. يؤدّي تنازل الحيوان عن الغذاء، في الطّبيعة الّتي لا تدري الحيوانات فيها أين ومتى تجد وجبتها القادمة، إلى تقليل احتمال بقائها على قيد الحياة وتكاثرها.

 

آكلة الدّماء الاجتماعيّة

قد يبدو لنا أنّ تركيزغالبيّة الدّراسات، الّتي تبحث في تقاسم الغذاء بين الحيوانات وفي مساعدة بعضها بعضًا، على الخفافيش مصّاصة الدّماء بشكل خاصّ، مثيرًا للدّهشة. تعيش أنواع كثيرة من هذه الخفافيش في أمريكا الجنوبيّة، من الأرجنتين وأوروغواي في الجنوب حتّى المكسيك في الشّمال. يشير اسمها إلى ما تتغذّى عليه فعلًا، إذ تتغذّى أنواع منها على دماء الثّدييّات، وتتغذّى أنواع أخرى على دماء الطّيور الكبيرة. تخرج الخفافيش ليلًا وتبحث عن "متبرّعين مناسبين بالدّم"، وتقترب من الفريسة الّتي قد تجدها، بقرةً نائمةً مثلًا، وتجرحها وتمتصّ دمها، وكثيرًا ما لا تستيقظ الفريسة من نومها.

עטלפי ערפד חולקים דם | צילום: Gerry Carter
تُعطي الخفافيش الطّعام لزميلها الخفّاش الّذي لم يجد غذاءً في اللّيل، إذا نال ثقتها. | تصوير: Gerry Carter

يجب أن تتناول الخفافيش مصّاصة الدّماء الطّعام مرّات عديدة خلال فترة قصيرة وذلك بخلاف سائر الحيوانات آكلة اللّحوم الّتي بإمكانها الصّوم لعدّة أيّام بعد تناولها وجبة دسمة. قد يموت الخفّاش إذا لم يجد، لمدّة ليلتين متتابعتين، ضحيّةً يمتصّ دمها. طوّرت الخفافيش آليّة لمساعدة بعضها بعضًا: يساعد الخفّاش صديقه الّذي لم يجد فريسةً يمتصّ دمها فيعطيه قليلًا من الدّم الّذي كان قد شربه هو مسبقًا. يُرْجِعُ الخفّاش الدّم من جوفه مباشرةً إلى فم صديقه المحتاج لأنّ الخفافيش لا تحتفظ بالدّم داخل زجاجات خاصّة. تبدو هذه عمليّة مُقرِفة ولكنّ النّيّة والمقصد منها عمل الخير. 

أشارت الدّراسات إلى أنّ ظاهرة التّبرّع بالدّم لدى الخفافيش ليست وليدة الصّدفة. تعطي الخفافيش، في بعض الحالات، دمًا من الّذي تمتصه لأقربائها، وهذا أمر متوقّع، إذ أنّ تبادل المعونة بين الأقارب هو ظاهرة شائعة جدًّا ولها ما يبرّرها من حيث الفائدة المجنيّة منها في سبيل التّطوّر. تتجلّى هذه الفائدة في المساهمة في الحفاظ على مورّثات الكائن الحيّ الّذي يتقاسمها مع أقاربه ونقلها إلى الأجيال القادمة. وتتقاسم الخفافيش، في حالات كثيرة أخرى، الدّم الّذي تمتصّه مع خفافيش لا تربطها بها صلة قرابة وراثيّة. وجد الباحثون أنّ الخفافيش الّتي حصلت على الدّم تتذكّر الخفّاش الّذي أعطاها الدّم وتفضّل ردّ الجميل له بالذّات. قد يجد الخفّاش، الّذي لا يعطي لغيره دمًا من الّذي امتصّه، نفسه في ضائقة عندما يحتاج إلى الدّم فلا يجد من يقاسمه حصّته، لأنّ الخفافيش تتذكّر رفضه تقاسُمَ حصّته مع أحد في اللّيالي الّتي مضت. 

يقول جيرالد ويلكنسون، أحد الباحثين، لناشونال جيوجرافيك: "تتكرّر ظاهرة تقاسم الطّعام عند الخفافيش. "تُلخّص" الخفافيش تفاعلاتها الاجتماعيّة على امتداد فترة زمنيّة". يسمّي الباحثون ذلك "الإيثار المتبادل"، بمعنى ساعدْني أساعدْك. تضمن الخفافيش الّتي تتبرّع دمًا من الّذي تمتصّه أن تجد مَن يقدّم لها العون وقت الحاجة مقابل أن تخسر شيئًا من الكمّيّة الّتي تأكلها في تلك اللّيلة. 

يمكن تفسير سلوك الخفافيش بالاستعانة بنظريّة اللّعبة: تتمثّل الاستراتيجيّة الأكثر فعاليّة لدى الأفراد الّذين يتفاعلون فيما بينهم مرارًا وتكرارًا لمدّة زمنيّة طويلة بالتّعاون وتكبّد الخسائر بشكل مؤقّت مع العلم بحتميّة الاستفادة لاحقًا . يُطرح السّؤال التّالي: كيف نضمن الحصول على المساعدة في المستقبل ممّن نساعده الآن؟ تشير الدّراسات اللّاحقة إلى أنّ الخفافيش تؤسّس علاقات الصّداقة فيما بينها وتمارسها بشكل بطيء مع اتّخاذ الحيطة والحذر. تستدرج الخفافيش وتستميل بعضها بعضًا في البداية عن طريق تنظيف الفروة المتبادل (كلّ خفّاش ينظّف فروة غيره)، ويرتفع مستوى ما يبذله الخفّاش لصالح صديقه تدريجيًّا. لا تبدأ الخفافيش بتقاسم الدّم الّذي تمتصّه فيما بينها إلّا بعد اقتناعها التّامّ بمدى إخلاص الواحد منها لصديقه.

משפחה של בבוני זית | צילום: Elen Marlen, Shutterstock
تتقاسم ذكور قردة البابون طعامها مع الإناث لتضمن استجابتها للتّزاوج. عائلة من قردة بابون الزّيتون | تصوير: Elen Marlen, Shutterstock

الغذاء أساس العلاقات الاجتماعيّة

يمكن أن تتطوّر ظاهرة تقاسم الطّعام لدى أصناف الحيوانات التّي تتمتّع بالعلاقات طويلة المدى: يستعيد الفرد الّذي يتقاسم طعامه مع غيره الطّعام بعد فترة، كما هو الحال لدى الخفافيش مصّاصة الدّماء. تطوّرت، لدى حيوانات أخرى، منظومة أكثر تعقيدًا من العلاقات المتبادلة يتجلّى فيها الرّدّ على تقاسم الغذاء بالحصول على مقابل آخر مختلف، أو أن يُشكّل تقاسم الطعام طريقةً للحفاظ على العلاقات الاجتماعيّة وما يصاحبها من حسنات. نجد مثل هذه العلاقات لدى أقاربنا القردة، والقردة أشباه البشر. 

يُرجِع الخفّاش "المتبرّع" الدّم داخل فم صديقه، ولا يمكن تقاسم الطّعام لدى الخفافيش إلّا بهذه الطّريقة. اِعتادت القردة، والقردة أشباه البشر، تقاسم طعامها قبل أن تأكله، ولا يقترن ذلك بالضّرورة بعمل أو نشاط خاصّ: يتيح القرد الّذي يحصل على الغذاء المجال لصديقه بأن يأخذ نصيبًا منه دون أيّ اعتراض. يتمّ التّشارك بين بالغَيْن في الطّعام، لدى أنواع كثيرة من الكائنات، بهذه الطريقة المسمّاة "التّوزيع السّلبيّ للغذاء". 

كيف يمكن تفسير هذه الظّاهرة: لماذا يسمح القرد الّذي يمتلك الطّعام لقرد آخر أن يأخذ من طعامه ولا يقدّمه له بنفسه؟ أحد التّفسيرات المقترحة هو رضوخ القرد صاحب الطّعام لمضايقة زملائه الّذين يلحّون في طلب الطّعام عن طريق إصدار الأصوات، ويحاولون سلب طعامه مرارًا وتكرارًا. يفقد هذا القرد، بعد أن يكون قد أكل وشبع، حافز الدّفاع عن طعامه فيُفضّل التّنازل عن الفضلات وتجنّب المضايقات الّتي لم يعد يتحمّلها. 

لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. غالبًا ما لا تتقاسم ذكور قرد البابون الزّيتونيّ (Papio anubis) اللّحوم الّتي تصطادها مع أصحابها القردة في المجموعة حتّى وإن ضايقوها وألحّوا بطلبها، علمًا أنّ اللّحوم مورد مرغوب جدًّا لدى القردة. أشارت الدّراسات إلى أنّ هذه القردة قد تعطي الإناث من صيدها دون الذّكور. ليس من المعقول أن يعود ذلك إلى عدم قدرة القردة على منع الإناث، الأصغر حجمًا وأقلّ قوةً، أخذ الطعام منها، مع العلم بأنّ الذّكور تتمتّع بقدرة أكبر من الإناث على اقتناص الطعام. يبدو أنّ القردة الذّكور يبادرون إلى إعطاء الإناث الّتي تربطهم بهنّ علاقات وطيدة لحومًا من الّتي يحصلون عليها، ولا يعطون الآخرين من الذّكور منها. يعتقد الباحثون أنّ القرد يعطي الإناث، الّتي تتزاوج مع الذّكور، من اللّحم الذي يملكه في سبيل توطيد العلاقة معها وضمان قبولها التّزاوج معه عندما يرغب في ذلك. 

שימפנזים אוכלים גזר | צילום: Nick Biemans, Shutterstock
تقاسُم الطّعام مع الأصدقاء الأحمّاء. قرود الشمبانزي تأكل الجزر | تصوير: Nick Biemans, Shutterstock

الكَرَم عند القردة أشباه البشر 

لوحظت ظاهرة مشابهة لدى القردة من النّوع إنسان الغاب (أورانغوتان). لم يحصل تبادل مباشر بأن تعطي الذّكور الإناث من طعامها مقابل حصولها على فرصة التّزاوج، وإنّما هاجت إناث إنسان الغاب غضبًا عندما رفض قسم من الذّكور مشاركتها الطّعام وفضّلت معاشرة ذكور آخرين. يُخَمّن الباحثون أنّ ما يدفع الإناث لأن تأخذ الطّعام من الذّكور، بالإضافة إلى كسب الغذاء، هو أنّها تتمكّن بذلك من اختبار مدى عدوانيّة هذه الذّكور. تُفضّل الإناث إنشاء علاقات مع الذّكور الهادئين والكرماء والتّزاوج معهم لأنّ الذّكور العدوانيّين تجاه الإناث يُشكّلون خطرًا على أولادهنّ. 

تتقاسم قرود الشّمبانزي الطّعام أحيانًا، مثل قردة البابون، فإنّ الطّعام المفضّل عليها تقاسمه هو اللّحم، وغالبًا ما تكون الذّكور هي الّتي تصطاد. وقد تتقاسم قرود الشّمبانزي الفواكه كبيرة الحجم والعسل الّذي تسرقه من الأجران أحيانًا. اِتّضح، من خلال دراسة أجريت على قرود الشّمبانزي الّتي تعيش في الطّبيعة في ساحل العاج، أنّها تقاسمت الطّعام مع الأصدقاء المقرّبين الّذين تربطها بهم علاقات حميمة ولم يكن الدّافع إلى تقاسم الطّعام مدى مضايقة وإزعاج القردة الّتي تحصل على الطّعام ولا مكانتها ولا طولها أو قصرها مقارنةً بمكانة وطول صاحب الطّعام. 

وزّعَ ذكور الشّمبانزي من طعامهم على الإناث اللّواتي قد يتزاوجون معهنّ مستقبلًا أو على الذّكور المقرّبين منهم والّذين قد يساعدونهم في السّياسة الدّاخليّة داخل المجموعة. كثيرًا ما تقيم ذكور هذه الحيوانات التّحالفات والمعاهدات فيما بينها ويدعم بعضها بعضًا في مساعيها نحو رفع مكانتها في المجموعة. تقاسمت مجموعة القرود الّتي خرجت معًا للصّيد اللّحمَ فيما بينها بالرّغم من أنّ الصّيد كان قد استقرّ في نهاية المطاف عند واحد منها. تمخضّت الدّراسة التّي قادتها لارين سيموني عن الخلاصة التالية: "تعتمد قرود الشّمبانزي في قرارها تقاسم الطّعام على الأمل بردّ الجميل لاحقًا ممّن يحصل على الطّعام". 

توصّل الباحثون الّذين استعرضوا الدّراسات الّتي أجريت حول تقاسم القرود الغذاءَ والقرود أشباه البشر على أنواعها إلى النّتيجة نفسها. اِتّضح للباحثين أنّ الرّغبة في تقاسم الغذاء تتعلّق بالفائدة الّتي قد يجنيها القرد صاحب الغذاء بالمقابل: غالبًا ما يتمّ تقاسم الغذاء داخل المجموعات الّتي يستطيع الحاصلون عليه فيها منحَ "الجوائز" على اختلاف أنواعها، مثل التّزاوج أو إبرام الاتفاقيّات، للقرد الّذي منَّ عليهم بفضله. يُقدّم الذّكور، في المجموعات المختلطة من الذّكور والإناث الّتي تختار فيها الإناث شريكًا للتّزاوج معه، الطّعام للإناث بشكل خاصّ، بينما يقلّ ذلك في مجموعات القرود المُكوّنة من ذكر واحد وعدد من الإناث. يوجد، في هذا النّوع من مجموعات القرود، فائض من الإناث الّتي يمكن للذّكر الوحيد فيها أن يختار منها لنفسه أيًّا منها ومتى يشاء للتّزاوج، ولا ذكور ينافسونه، فلا يحتاج لينال ودّ ومحبّة الإناث عن طريق منحها قسمًا من طعامه. 

يتقاسم الذّكور الطّعام فيما بينهم في مجموعات القرود الّتي تُبرم فيها الذّكور الاتفاقيّات والمعاهدات فيما بينها، ويؤازِرُ أحدها الآخر عند الصّراع على الصّدارة، وتتقاسم الإناث الطّعام في المجموعات الّتي تُبرِم فيها الإناث الاتفاقيات والمعاهدات. لم يلاحَظ في أيٍّ من الحالات تبادل فوريّ للغذاء "بالفائدة المرجوّة" مثل الجنس أو المؤازرة في المعركة، وإنّما استُغلّ الطّعام لإنشاء العلاقات الاجتماعيّة وتوطيدها جنبًا إلى جنب مع المزيد من الأفعال الأخرى، مثل تنظيف القرد فروة صاحبه وبالعكس.

שימפנזים מחוף השנהב חולקים מזון | צילום: © Liran Samuni, Taï Chimpanzee Project
قرود الشمبانزي في ساحل العاج تتقاسم الطعام فيما بينها. يمكن أن تضع نفسها مكان شمبانزي آخر | تصوير: © Liran Samuni, Taï Chimpanzee Project

 

ما حاجتك؟

عودةً إلى العقعقة "ليئة" والمعركة مع العقاعق الأخرى، والأسئلة الّتي حاول الباحثون الإجابة عنها عندما وضعوها في الوضع المُحيّر: هل تتقاسم العقاعق الطّعام دائمًا أم في حالات خاصّة فقط؟ وهل تُدرك العقاعق احتياجات زملائها؟ قد يكون سلوك تقاسم الغذاء قد تطوَّر لدى بعض الحيوانات مع الزّمن، ويعتمد هذا السّلوك على قواعد بسيطة خاضعة لحكم التّجربة، مثل: أعطِ أفراد مجموعتك جزءًا من طعامك إذا كان لديك ما يكفي منه. قد تكون هذه القواعد أكثر تعقيدًا لدى بعض أنواع الحيوانات، مثلًا، أعطِ جزءًا من طعامك لمن يطلب منك ويلحّ في الطّلب، أو إلى الإناث إذا طلبت، أو الّذين تربطهم بك علاقة اجتماعيّة مسبقة. 

يمكن أن تؤدّي هذه القواعد إلى سلوك اجتماعيّ من شأنه أن يعود بالفائدة على من يسلكه، فالحيوان يحافظ بذلك على علاقات حسنة مع زملائه في المجموعة ليقدّموا له يد العون عند الحاجة. قد يحدث هذا دون أن يفهم الحيوان حاجة من يقف أمامه، ودون أن يفهم لماذا صديقه يطلب الغذاء، وكيف أنّ تقاسم الغذاء قد يوطّد العلاقات بينهما. يحتمل، طبعًا، أن يفهم الحيوان، مثل الإنسان، ما الّذي يريده صديقه الّذي يطلب قطعة اللّحم منه ويزِن حاجة صديقه مقابل خسارته هو. كيف يمكننا أن نفهم تفكير وإدراك الحيوانات الّتي تتقاسم الغذاء فيما بينها؟

يتطرّق السّؤال أعلاه إلى قدرة الحيوانات على معرفة ما يدور في خُلد كائن آخر. يدرك الإنسان أنّ الشّخص الّذي يقف أمامه عبارة عن كيان له آراء ومعرفة مستقلّة قد تخالف آراءه ومعرفته. يسمّى هذا الإدراك "بنظريّة الوعي" الّتي تُمَكّننا من تقمّص شخص آخر وتخمين تفكيره ومعلوماته. تشير دراسات أجريت مؤخّرًا إلى وجود مثل هذه القدرة لدى القردة أشباه البشر أيضًا: "نظريّة الوعي" موجودة إلى حدّ ما عند قرود الشّمبانزي وقرود إنسان الغاب (الأورانجوتان) أيضًا.

فحصت دراسات أخرى نوايا القرود أشباه البشر عند تقاسم الطّعام أو الأشياء الأخرى مع زملائها. تشير دراسة أجريت قبل عشر سنوات إلى أنّ قرود الشّمبانزي تتقاسم الطّعام مع زملائها عندما تنادي وتخبط بأرجلها وتجلب الانتباه إلى كونها جوعى وبحاجة إلى الطّعام. وتشير دراسات أخرى إلى أنّ مثل هذه الطّلبات لا تلقى آذانًا صاغية في جميع الحالات. وأشارت دراسات إلى أنّ قرود الشّمبانزي تفلح في تقدير الأشياء والأدوات الّتي يحتاجها زملاؤها وتعطيهم ما يطلبون - وما يثبت ذلك قدرة قرد الشّمبانزي على إحلال نفسه مكان القرد الّذي يطلب المعونة.

גורי נבחניות חולקים מזון | צילום: Henk Bentlage, Shutterstock
قد لا نعلم أبدًا ماذا تفكّر الحيوانات عندما تتقاسم الغذاء فيما بينها، والكثير منها يفعل ذلك | تصوير: Henk Bentlage, Shutterstock

الأفعال والنوايا

فحص الباحثون، للتّحقّق من إدراك العقعق طلبات وحاجات زملائه، مدى استعداد العقاعق إعطاء الطّعام لزملائها في ظروف مختلفة. وُضِعَ أمام العقعق قيد الفحص في القفص وعاءٌ مليء باليرقات الدّسمة اللّذيذة تفوق كمّيّتها ما يقدر أن يأكله. كانت طريق العقاعق الأخرى الموجودة جنبه في القفص سالكةً إلى اليرقات مرّةً، بينما تركت العقاعق بدون طعام في المرّة الثانية. 

تبيّن في البحث أنّ الإناث ميّزت بين الحالتين وأعطت زملاءها من طعامها عندما كانت بحاجةٍ إليه، أي عندما لم يتوفّر الغذاء لها. أمّا الذّكور فقد تقاسموا الطّعام في جميع الحالات. يقول يورغ ماسِن (Massen) الّذي أشرف على الدّراسة: "نعتقد أنّ الذّكور اهتمّت بالسّمعة والدّعاية: 'اُنظروا كم أنا كريم'، أمّا الإناث فأرادت مساعدة الآخرين الّذين لم يمتلكوا شيئًا". 

تستطيع الحيوانات على اختلاف أنواعها، بما فيها الطّيور الّتي تختلف عنّا كثيرًا في التّطوّر، التّمييز بين الظّروف المختلفة وإعطاء الطّعام لمن يحتاجه فقط. لكنّا لا نستطيع، على الرّغم من ذلك، الإقرار بشكل قاطع فيما إذا كانت الطّيور تتفاعل مع إلحاح زملائها فقط أم أنّها تدرك حاجاتهم. يصعب كثيرًا فحص نوايا الحيوانات ومدى فهم ما يدور في خلدها عند قيامها بعمل ما - يمكننا اختبار ما يفعله الحيوان واستنتاج ما هو التّفكير الّذي قاده إليه. 

نحن نعرف أنّ الحيوانات تتقاسم الطّعام فيما بينها وأنّها تفضّل تقاسمه مع زملائها ومع الحيوانات الّتي يمكن أن تكون قادرة على ردّ الجميل في المستقبل. ونعلم، أيضًا، أنّ الحيوانات لا تفعل ذلك بشكل أوتوماتيكيّ وأنّها قد تغيّر سلوكها حسب الظّروف. ماذا تفكّر الحيوانات عند قيامها بذلك؟ إلى أيّة درجة تقودها المحفّزات والدّوافع كما تقودنا نحن بني البشر؟ قد لا نعرف الإجابة عن هذه التّساؤلات أبدًا.

 
 

0 تعليقات