يفكّر الناس من جميع أنحاء العالم في نفس الشكل عندما يسمعون نفس الكلمة المخترعة. ماذا يخبرنا هذا عن العلاقة بين الصوت والشكل، وعن تطوّر اللغة المحكيّة؟
إذا أعطيتم الاسم بوبا للشّكل الأكثر استدارةً، وأطلقتم على الشكل ذات الحواف الحادّة الاسم كيكي - فأنتم في مجتمع جيّد. تجيب الغالبيّة العظمى من الذين أطلق عليهم هذا السؤال عن هذه الإجابة، وقد أظهر بحث جديد أنّ هذا صحيح في مجموعة متنوّعة من الثقافات عند المتحدّثين، بما لا يقلّ عن 25 لغة، وعند مستخدمي أنظمة التهجئة المختلفة. قد لا يبدو هذا مهمًا بشكل خاصّ - الأهمّ هو أيّ الأسماء المخترعة مناسبة في أعيننا للأشكال المجردة؟ - لكن حقيقة أنّ النّاس من أماكن مختلفة يربطون الصوت بالشكل بصورة مشابهة قد تكون مهمّة لفهم تطوّر اللغة المحكيّة، في الأيام الأولى للبشريّة.
أصوات اعتباطية
هناك كلمات تبدو مثل الشيء الذي تصفه: للصفير يوجد صوت تصفيريّ، للحفيف صوت يشبه تفقيع ورق الكتب، والصرصار يُصرصر، أيّ أنه يصدر صوت "الصرصرة". هذه الظاهرة تسمى المحاكاة الصوتيّة (onomatopoeia) (نغمة)، وعلى الرغم من أنّها ليست نادرة حقًا، فهي أيضًا ليست شائعة جدًّا. معظم الكلمات التي نستخدمها ليست محكيّة، وللوهلة الأولى -على الأقلّ- تبدو أصواتها عشوائيّة تمامًا: على سبيل المثال، حقيقة تسمية الطاولة بهذا الاسم هي نتيجة قرار اعتباطيّ بحت. أقوى دليل على ذلك هو أنّه في اللغات الأخرى تمّ اختيار أصوات مختلفة تمامًا لوصف الغرض ذاته: تيبيل (table) في اللغة الإنجليزية، سطول (стол) باللغة الروسيّة، أو تاليكا (तालिका) باللغة النيباليّة.
إنّ هذا الموقف، الذي يتعامل مع الكلمة على أنّها مجموعة اعتباطيّة من الأصوات، دون علاقة أعمق بينها وبين الغرض الذي تمّ اختياره ليدلّ عليها، كان هو الموقف المهيمن بين باحثي اللغة لعشرات السنين. بوبا وكيكي، أو بالأحرى، الدراسات التي استخدمت هذه الكلمات المبتكرة، تقوّض هذا الموقف . وإذ كان من الواضح بالنسبة للكثيرين منّا أنّ أصواتًا معيّنة تنتمي إلى أشكال معيّنة، فربّما لا تكون كلماتنا اعتباطيّة كما كنّا نظن.
بدأت هذه الدراسات في سنوات الستّين، عندما عرض عالم النفس فولفجانج كوهلر (Köhler) على الناس أشكالًا مشابهة لتلك التي تظهر هنا، وطلب منهم مطابقتها مع الأسماء بالوبا وتاكيتا. في عام 2001، نُشرت دراسة ظهرت فيها بالفعل الكلمات بوبا وكيكي، وفتحت موجة جديدة من الاهتمام في هذا المجال. كان أحد الأسئلة الجوهريّة هو مدى عالميّة هذه الظاهرة - هل هي على صلةٍ ببعض الارتباطات التي تثيرها هذه الأصوات عند المتحدثين باللغة الإنجليزية، على سبيل المثال؟ هل تظهر فقط عند المتحدّثين من عائلة اللغات الألمانيّة التي تنتمي إليها اللغة الإنجليزيّة؟ قد يكون للكتابة تأثير على ردود أفعال الناس: ربّما تبدو كلمة kiki حادّة، كما هي مكتوبة باللغة الإنجليزية، وبالتالي ينسبها متحدّثو اللغة الإنجليزية إلى شكل ذي زوايا حادّة؟
قد يكون الاتّصال الصوتيّ الأوّل قد تطور من أصوات ذات معنى داخلي. كلمة "سلام" بعدّة لُغات | المصدر: Aysezgicmeli، Shutterstock
لغات مختلفة، نتيجة مماثلة
للإجابة عن جميع هذه الأسئلة، طلب باحثون مختلفون من أشخاص ذوي ثقافات مختلفة، يتحدّثون بلغات مختلفة، مطابقة اسمي بوبا وكيكي مع كلا الشكلين. الدراسة الجديدة هي الأكبر على الإطلاق - فهي تضم أكثر من 900 شخص يتحدّثون 25 لغة تنتمي إلى تسع عائلات، ويستخدمون عشرة أنظمة للكتابة، هي الأبجديّة، المتنوّعة، من اليونانيّة إلى الفارسيّة، ومن الزولو إلى الماندرين الصينيّة.
أظهرت النتائج أنّه في معظم اللغات، اختارت الغالبية العظمى من الأشخاص اسم بوبا للشكل الدائريّ، وكيكي للحادّة. لا يبدو أنّها ميزة تقتصر على لغة أو شكل معيّن تكتب به الكلمة بأبجديّة أو بأخرى، بل هناك شيء حادّ في صوت كيكي بحدّ ذاته.
مع ذلك، كانت هناك استثناءات - لم يُظهر المتحدّثون باللغة الرومانيّة، التركيّة والماندرين الصينيّة هذه الظاهرة، وقاموا بملاءمة بوبا مع الشكل الحادّ بنفس المقدار مع الشكل المستدير. في مقابلة مع مجلة Science، أشارت ألكساندرا تشويك (Ćwiek)، التي قادت الدراسة، إلى أنّ هذه النتائج قد تكون متأثّرة بمعنى هذه الأصوات أو الأصوات المماثلة، للّغات الثلاثة. في اللغة الرومانيّة، يطلق الأطفال الصغار على الضربات أو الجروح الطفيفة التي يتعرّضون إليها بالاسم "بوبا"، ومن المحتمل أنّ العلاقة الصوتية بالألم يمنحها لونًا "أكثر حدّة". في التركية، جيجي، الذي يبدو مشابهًا لكيكي، يعني "لطيف"، وربما يرتبط بالأشياء الناعمة، وليس بالضرورة بالأشياء الحادّة.
طلب الباحثون من أشخاص من ثقافات مختلفة، يتحدّثون لغات مختلفة، ملاءمة اسمي بوبا وكيكي مع الشكلين. برج بابل | رسم توضيحي: بيتر بروخل الأكبر، ويكيبيديا
الكلمات الأولى
كيف يرتبط كلّ هذا بتطوّر اللّغة؟ يُخمّن الباحثون بأنّ الاتّصال الصوتيّ الأوّل ربّما قد تطوّر من أصوات لها بعض المعنى الداخليّ، أصوات تتّصل تلقائيًّا في أذهاننا لشكل، شعور أو فكرة - كما يتّصل كلّ من بوبا وكيكي في الحدّة أو الاستدارة. قال ماركوس بيرلمان (Perlman)، أحد الباحثين الذين وقّعوا على المقال، في بيان صحفي: "تمكَّن أسلافنا من استخدام الصلة بين أصوات الكلام والميزات المرئيّة؛ لإنشاء بعض الكلمات المنطوقة الأولى". "اليوم، بعد عدّة آلاف من السنين، قد لا تكون الاستدارة التي نشعر بها في الكلمات الإنجليزيّة مثل بالون (baloon) مجرّد مصادفة".
وأضاف زميله، بودو وينتر (Winter): "إذا تمّ النظر إلى الكلمات الجديدة على أنّها مشابهة للشكل أو المفهوم الذي تشير إليه، فهناك فرصة أكبر لأن يفهمها المتحدّثون باللغة ويتبنّوها". وفقًا لتخمين الباحثين، لم تبدأ العديد من الكلمات كأصوات تمّ اختيارها اعتباطيًّا، بل تمثّل بشكل حدسيّ المفهوم الذي يصفونه. حتّى اليوم، يمكن العثور على هذه العلاقة عند بعضها. ولكن لفهم العلاقة المراوغة بين الصوت والشكل حقًّا، سيحتاج الباحثون على الأرجح إلى فحص المزيد من الأصوات والأشكال في المستقبل، أكثر من بوبا وكيكي.