لقد تخَطَّى يُتْمَهُ وفقرَه وسوءَ صِحَّتِهِ في الطَّريق نحوَ اكتشاف طريقةٍ لتنظيم العناصر الكيميائيَّة. مرور مائة وخمسين سنة على ابتكار الجدول الدَّورِيّ ومائة وخمس وثمانين سنة على مولد مُطوّرِها، دمتري مندليف
منذ آلاف السِّنين، عَرفَت الإنسانيَّة بعضَ العناصر المُهِمَّة، مثل النّحاس، الحديد، الفضَّة والذَّهب. بقيت قائمة العناصر المعروفة بدون تغيير يُذكر منذ زمن السُّلالات القديمة في مصر حتَّى عصر النَّهضَة الكيميائيّّة في أواسط القرن الثَّامِن عشر، حين تمَّ، تِباعًا، اكتشاف عناصر جديدة، من بينها الأكسجين، النيتروجين والكلور. عندما قام الكيميائيّ الفرنسيّ أنطوان لافوازييه بتنظيم قائمة العناصِر المُحَدَّثَة سنة 1789م كانت القائمة قد احتوت على ثلاثٍ وثلاثين مادّةً- أكثر من ضِعْفَي عدد العناصر التي كانت معروفة قبل ذلك الوقت بخمسٍ وعشرين سنة. خلال عدَّة عقود تضاعف عدد عناصِر القائِمة مرَّةً ثانيَةً، وفي منتصف القرن التَّاسِع عشر احتوت على. حوالي ستين عنصرًا مختلفًا. على الرّغم من الوتيرة المُذهلة للاكتشافات، وربَّما بسببها، سادت في تلك السَّنوات فَوْضَى عارمةٌ في علوم الكيمياء. لم يُدرِك الكيميائيُّون آنذاك معنى المصطلح "عنصر". قائمة لافوازييه، على سبيل المثال، شملت، بالإضافة للعناصر الحقيقيَّة، الضوء والحرارة (التي كانت تعتبر آنذاك مادة تسمى "كلوريك"). لقد رفض مُعظَم العلماء فكرة أنّ المادَّة مُكوّنة من ذرَّات، معتمدين على القاعدة البسيطة التي رسّخها لافوازييه، وهي أنَّ العنصر مادّة لا يمكن تفكيكها إلى موادَّ أخرى بواسطة عمليَّة كيميائيَّة. المعلومات التي تراكمت عن العناصر، بالرّغم من البَلْبَلَة وعدم الوضُوح، ، كانت كثيرةً جِدًّا، الأمر الذي أوْجَدَ الحاجَةَ إلى من يقوم بتنظيمها ويَجِد المنطق الذي يُمَكِّنُ من فهم العلاقات والرَّوابط بين العناصر المختلفة، وربما يُمَكِّن من فهم ماهيَّة الموادِّ نفسِها.
حاول الكثير من العلماء إيجاد طريقة لتنظيم قائمة العناصر بشكل يعكس صفاتها المختلفة. لقد طَوَّرَ بعض العلماء تنظيمات مختلفة تتوافق، إلى حَدٍّ مُعَيَّن، مع الأُسُس التي يعتمد عليها التَّصنيف المعروف لنا، لكن، مع تبدُّد الضَّباب عن هذا الإنجاز العلميّ، برزَ من بين الجميع باحثٌ واحدٌ ومُمَيَّز، يرتبط اسمه اليوم بشكل حصريّ تقريبًا بجدول المُربَّعات المعروف لدى كُل من أنهى مرحلة الدِّراسة الإعداديَّة- الجدول الدَّورِيّ للعناصر.
تُحفَة علميَّة تعكس الكثير من العناصر المختلفة. الجدول الدَّورِيّ للعناصر| المصدر: Shutterstock
زجاج محروق
وُلد ديميتري إيفانوفيتش مندليف (Mendeleev- بالرُّوسيَّة Менделе́ев) في الثَّامِن من فبراير سنة 1834، في قرية صغيرة بالقرب من مدينة توبولسك في سيبيريا. كان الابن الأصغر بين الأبناء الأربعة عشر لمدير مدرسة مَحَلِّيَّة، لكن عندما كان طِفلًا، فَقَدَ والدُه بَصَرَهُ ولم يَتَمَكَّن من مواصلة عمله. أخذت الأم، ماريا، على عاتقها مهمَّة إعالة العائلة، وأعادَت فتح مصنعٍ للزّجاج تابعٍ لعائلتها. مات الأبُ عندما كان عمر ديميتري ثلاثة عشر عامًا ، وبعد بضعة أشهر من وفاة الأب احترق مصنع الزّجاج . ماريا ديمترييفنا ، التي أصبح مُعظَمُ أبنائِها البالغين مُستَقِلِّين بأنفسهم، قرَّرَت تعليقَ آمالِها على مواهب ابنها الأصغر ومنحه أفضل تعليم مُمكن.
خرجت الأم وابنها على ظهور الخيل في رحلة لآلاف الكيلومترات باتجاه الغرب، عبر جبال الأورال، إلى موسكو، ولكن جامعة موسكو المرموقة رفضت قبول مندليف للدّراسة، مُعَلِّلَةً ذلك بكونه ليس من سُكَّان المدينة. تابع الاثنان لبضع مئات من الكيلومترات الإضافيَّة إلى سان بطرسبورغ، عاصمة روسيا في تلك الأيَّام. هناك، أيضًا، لم يُقبل مندليف في الجامعة، لكونه قروِيًّا من سيبيريا ولا يملك شيئًا من أسباب العيش. في نهاية المطاف، نجحت الأم في تسجيل ابنها في معهد للمُعلِّمين ، حيث درس الأبُ من قبل. بعد أسابيع قليلة توفيَّت الأم وبقي ديمتري الشاب وحيدًا، يعمل على تحقيق أمنية أمه ورغبتها في أن ينجح في دراسته.
طالبٌ مُتَمَيِّزٌ وباحِثٌ واعِدٌ بالرّغم من الضَّائِقة المادِّيَّة. مندليف في سنوات العشرين من عمره | المصدر: Science Photo Library
الكتب والواجبات
كان مندليف تلميذًا مُتَمَيِّزًا حقًّا، وقد عمل أثناء دراسته لمهنة التَّعليم في البحث الكيميائيّ وبدأ ينشر المقالات. في نهاية دراسته أُصيبَ بمرض السلّ، وعلى أثر ذلك سافر ليعمل في شبه جزيرة القرم، على أمل أن يساعده المناخ الأكثر اعتدالًا في استعادة صحته. قام هناك بالتَّدريس في مدرسة ثانويَّة لِمُدَّة عامين ثم عاد إلى سان بطرسبورغ، على الرغم من عدم توفُّروظيفة ثابتة له هناك . لقد كان غارقًا في الدّيون الماليَّة وعمِلَ في كلِّ عمل صادَفَهُ : علَّمَ في المدارس، أرشَدَ الطُّلاب في المختبرات، أعطَى دروسًا خصوصيَّة وكَتَبَ الأخبار عن الأبحاث الكيميائيَّة لمجلَّة وزارة التّربية والتَّعليم الرُّوسيَّة. بعد مرور عامَيْن حصلَ على منحة أتاحَت له السَّفر لاستكمال الدّراسة في باريس، وفي هايدلبرغ في ألمانيا. عمل هناك لدى الكيميائيّ المشهورروبرت بنزن (Bunsen) وتَخَصَّصَ، من ضمن أمور أخرى ، في التَّحليل الطَّيفيّ (السبكتروسكوبيا)- وهو مجال بحث حديث نسبيًّا في ذلك الوقت. تقف في أساس علم التَّحليل الطَّيفي حقيقة كون العناصر تتفاعل بشكل مختلف مع الضوء الساقط عليها: كلُّ عنصر يمتصّ أطوال أمواج مُعَيَّنَة ويُرسل أطوال أمواج أخرى تختلف عن العناصر الأخرى. الفحص المنهجيّ لعُنصُر مُعَيَّن، بأطوال أمواج مختلفة، يُمَكِّنُ من تشخيص توقيعه الضوئي، وبشكل مُشابِه، يُمكن تشخيص العناصر التي تتكون منها مادة مُعَيَّنَة عند إرسال الضوء عليها وفحص طابع امتصاصها و/ أو بعثرتها للأمواج الضّوئِيَّة.
عندما عاد مندليف إلى سان بطرسبورغ سنة 1861، تمَّ تعيينه مُحاضِرًا للكيمياء في معهد المُعلِّمين. لقد أقلقه مستوى تعليم الكيمياء في روسيا مُقابِل ما رآه في ألمانيا، وكذلك عدم توفُّر كُتُب تعليميَّة جيِّدَة باللُّغَة الرُّوسيَّة. في سن الـ 27 قام بتأليف كتاب شامل لتعليم الكيمياء. حازَ ا الكتاب على جائِزَة مُهِمَّة (جائزة ديميدوف) ومنح مندليف اعترافًا مِن قِبَل المجتمع العلميّ في بلاده. لقد مكَّنَتْهُ الجائزةُ الماليَّة، أيضًا، من سداد جميع ديونه تقريبًا. لقد ساعدته شُهرَتُهُ في تعيينه مُحاضِرًا في جامعة سان بطرسبورغ حتى قبل إنهائه دراسة الدّكتوراه. بعد مرور عام، في سنة 1865، حصل على شهادة الدكتوراه مُقَابِل بحثه حول التَّفاعُلات بين المواد الكحوليَّة والماء.
بدأ مندليف يعمل على كتابٍ تدريسيٍّ مُهِمّ آخر: "أسُس الكيمياء"، الذي صدر سنة 1869م، وفي نفس الوقت بدأ في مُعالجة المسألة العلميَّة التي سترافقه في السَّنوات التَّالية وتُكسِبُه شُهرةً عالميَّة: الترتيب المنهجيّ للعناصر الكيميائيَّة.
الانتقال من صيغة إلى أخرى - من صيغة مندليف المُبكّرة إلى الجدول الدَّورِيّ الحديث | التَّخطيط من: Science Photo Library
الدَّوريَّة اللَّامنطقيَّة
خلال القرن التَّاسِع عشر، لاحظَ عددٌ من الباحثين أنَّ الأوزان الذَّرِّيَّة للعناصر المختلفة هي، عمليًّا، مضاعفات الوزن الذَّرِّي للهيدروجين. بعبارة أخرى، إذا اعتبرنا كتلة الهيدروجين وحدةً ، فإن كُتَل ذرَّات العناصر الأخرى هي مضاعفات صحيحة لهذه الوحدة. الوزن الذّرِّيّ للنيتروجين يعادل 14 ضعفًا من الوزن الذري للهيدروجين، والذهب يُعادِل 197 ضِعفًا ، لكن لا يوجد عنصر وزنه 14.5 ضعفًا من ذرة الهيدروجين، مثلًا. لم يُوجَد عنصر كهذا بحسب أدوات القياس التي توَفَّرَت آنذاك، على الأقل.
الكيميائي الألماني يوهان دوبراينر (Döbereiner) لاحظَ ظاهرة أخرى: تتجمع عناصِرُ عديدةٌ ضِمن ثُلاثيَّات ذات سلوك كيميائيّ متشابه. تميل عناصر الليثيوم والصُّوديوم والبوتاسيوم، مثلًا، إلى التَّفاعُل مع الأكسجين بنِسَبٍ متماثلة. عندما قام دوبراينر بتنظيم ثلاثيَّات كهذه بحسب أوزانها الذَّرِّيَّة لاحَظَ أنَّ وزنَ العنصر الأوسَط هو معدل الوَزنَيْن الذَّرِّيَّيْن للعُنصُرَيْن الآخَرَيْن تقريبًا.
أثناء مكوثه في هايدلبرغ، التقى مندليف بالكيميائيّ الإيطاليّ ستانيسلاو كانيزارو (Cannizzaro) الذي قام سنة 1860 بنشر قائمة الأوزان الذّرِّيَّة للعناصر بالنِّسبة لوزن الهيدروجين . في أعقاب هذا النشر، لاحظَ علماءُ آخرون الدَّوريَّةَ في الأوزان الذَّرِّيَّة للعناصر واكتشفوا وجود علاقة بين هذه الدَّورِيَّة وعدد من الخصائِص الأخرى للعناصر، مثل الوزن النوعي (كثافة المادَّة)، درجة الغليان وميل العناصر لتكوين مُركّبات مع موادَّ أخرى.
كان من بين العلماء الذين اكتشفوا هذه العلاقة بشكل مستقل عالمُ الآثار الفرنسيّ الكساندر دي - شانكورتواه (Chancourtois) والكيميائيّ الإنجليزيّ جون نيولاندز (Newlands). لاقى عمل شانكورتواه تجاهلًا تامًّا لأنه، كما يبدو، لم ينجح في شرح أفكاره بشكل واضِح. نيولاندز، في المُقابِل، قام بعرض تصنيف مُثير للاهتمام للعناصِر، عبارة عن ثماني مجموعات، ولكن الفكرة اعتُبرت "مُثيرةً للجدل" مِن قِبَل الجمعيَّة المُهِمَّة آنذاك، "الجمعيَّة الملكيَّة"، ورفضت نشر أبحاثه. ويليام أودلينغ (Odling) توصَّل هو أيضًا إلى جدول مُماثِل، لكنَّ تطويرَه لم يحظَ بالنشر، لأنه كان يشغل منصِبًا كبيرًا في الجمعيَّة الملكيَّة، الأمر الذي أثار الشكوك في كونه يستغل منصبه لإفشال نشر أفكار نيولاندز. الكيميائيّ الألمانيّ جوستابوس هينريخس (Hinrichs) اتّجَه إلى نهج آخر وحاول، بدون جدوى،تطوير ترتيب للعناصِر الدَّوريَّة، على أساس جبريّ (رياضيّ). الترتيب الذي أعدّه عالِمٌ ألمانيٌّ آخرُ، لوثر ماير (Meyer)، كان أكثرَ نجاحًا، لكنّه، كما اعترف هو نفسُهُ، لم يَجرُؤ على نشر عمله هذا خوفًا من أن يُقابلَ بالسخرية.
إيحاء من الأحلام. صيغة الجدول من العام 1871 وفيه أماكن فارغة وعدد من التنبؤات | المصدر: Science photo Library
من الحلم إلى الواقع
كان مندليف، بخلاف العديد مِمَّن سبقوه، كيميائيًّا ذا تجربة كبيرة جِدًّا في أعمال المختبر. لم يقرأ عن العناصر في الكتب التَّعليميَّة، فقط، بل عرَفَ مُعظَمَها عن كثب، الأمر الذي أكسبه معرفة قويَّةً عن خصائصِها. قام مندليف بتحضير بطاقات سَجَّلَ على كُلِّ واحِدَةٍ منها تفاصيل أحد العناصِر الثَّلاثة والسِّتِّين التي كانت معروفة آنذاك، الأمر الذي سَهّلَ عليه الملاءَمة بين الوزن الذّرِّي وصفات العنصر.
كان مندليف يلعب بأوراقه لعبة تشبه لعبة "السوليتير" ويُحَاوِلُ ترتيبَها بشكلٍ منطقيّ. في أحد الأيَّام الَّتي تَلَت الذِّكرى الخامسة والثَّلاثين ليوم مولده، أغفَى على الطَّاوِلَة أثناء اللَّعِب. . "رأيت في الحلم جدولًا، كلُّ عنصر فيه كانَ موجودًا في المكان المُناسِب له. عندما استيقظت، سجَّلتُ كُلَّ شيءٍ على الفور"، كتبَ مندليف في وقتٍ لاحِق.
من أجل تحقيق الحلم، أدرك مندليف أنه يتعيَّن عليه إجراء بعض التغييرات الَّتي رفضَها علماءُ آخرون بشكل صريح. لقد استبدل، مثلًا، موقِعَي اليود والتيلوريوم: بالرَّغم من كَون التيلوريوم أثقل قليلًا، قرّرَ أن يضع اليود مكانه، تحت البروم مُباشرةً، الذي يشبه اليود في العديدمن الخصائِص .
اضطر مندليف إلى ترك مواقع فارغة في الجدول، لكي يُكمل التَّرتيب على أساس تشابه الخصائِص بين العناصر- لم تُعرَف في ذلك الوقت عناصر لها خصائِص تتلاءَم مع الخصائِص المُتَوَقَّعَة للعناصِر التي يفترض أن توجَد في هذه المواقع. لقد صرَّح مندليف بجرأة، وربَّما بوقاحة، أنَّه سيتم اكتشاف العناصِر المُلائِمة في وقتٍ لاحِق، كما تنبأ بخصائِصِها الطَّبيعيَّة والكيميائيَّة.
لقد تنبأ مندليف، مثلًا، بوجود ذَرَّة لها صفات كيميائيَّة مُماثلة لخصائِص عنصر السيليكون، لكنها أثقل منه، والموقع المناسب للعنصر المُكوّن من هذه الذّرَّة هو تحت عنصر السيليكون في الجدول الدَّورِيّ. . . أطلق مندليف على هذا العنصر الاسم "إيكا - سيليكون"، على أساس الكلمة السنسكريتيَّة الَّتي تعني "ما بعد". الوزن الذَّرِّي للـ "ايكا - سيليكون"، كما تنبَّأ مندليف، هو 72 (أي أثقل من الهيدروجين بـِ إثنين وسبعين ضِعفًا) والوزن النوعي 5.5 جرام للسنتيمتر المكعب تقريبًا. كان تقديره أن يكون هذا عنصرًا فلِزِّيًّا خفيفًا، درجة انصهاره منخفضة نسبِيًّا، يُمكنه الارتباط مع ذَرَّتَي أكسجين ، أو مع أربَع ذَرَّات هيدروجين أو أربع ذرَّات كلور. بشكلٍ مُشابه، تنبأ مندليف بوجود عناصر أخرى: إيكا - ألومنيوم وإيكا - بورون.
طغَى الجدول الدَّورِيّ على مساهماته في مجالات علميَّة أخرى. مندليف | المصدر: Science Photo Library
النُّبُوءَةُ تَتَحَقَّقُ
نشر مندليف جدوَلَهُ الدَّورِيّ سنة 1869، وفي سنة 1871 نشَرَ جدوَلًا أكثر دِقَّةً عرض فيه تنبؤاته حول العناصر النَّاقِصَة. كما هي الحال بالنّسبة لكُلّ ابتكار علميّ، قابلَ الكثيرُ من الباحثين جدول مندليف- وخصوصًا تنبؤاته - بالتشكيك، بعد أن فشل العديد من العلماء في مواجهة هذا التَّحَدِّي.
في غضون سنوات قليلة، تغيّر الرأي العام . في سنة 1875 قام الكيميائيّ الفرنسي لِكوك دِي بوابودران (De Boisbaudran) بدراسة المعادن الغنيَّة بالخارصين وَوَجَدَ ضِمنها عنصرًا غير معروف. . لقد افترَضَ لِكوك أنه اكتشف عنصرًا جديدًا وبدأَ بتحديد خصائِصِه، إلى أن بَدَت الخصائِص مألوفةً لأحد زملائه. عن طريق عمليَّة بحث قصيرة تم العُثورعلى المقالة التي نشرها مندليف قبل أربع سنوات من ذلك الوقت، وتبيَّن أن العنصر الجديد ما هو إلَّا الـ "إيكا_ ألومنيوم".. لقد منحه الباحث الفرنسي اسمًا جديدًا، غاليوم، تكريمًا لاسم بلاده القديم، غاليا. بعد أربع سنوات تكرَّرَت القصَّة نفسُها تقريبًا- هذه المرَّة كان الكيميائيّ السويديّ لارس نيلسون (Nilson) قد اكتشف الـ "إيكا-بورون" وَسَمَّاهُ "سكانديوم"- نِسبَةً إلى إسكندينافيا. في سنة 1886جاء دورُ الكيميائيّ الألمانيّ كليمنس فينكلر (Winkler) الذي اكتشف عُنصُرًا يُلائِمُ تمامًا الـ "إيكا- سيليكون" وَسَمَّاهُ، هو أيضًا، باسم بلاده- "جرمانيوم".
سرعان ما اتضح للجميع أن جدول مندليف الدَّورِيّ هو الطَّريقة الأفضل لترتيب العناصر. العناصِر الَّتي لم تَكُن معروفَةً عند إعدادِ الجَدوَل، تمَّ إدخالها، هي أيضًا، فيه. وعند اكتشاف مجموعة كاملة من العناصر- الغازات الخاملة- وُجدت لها كُلّها مواضِعُ في سطرٍ عمودِيٍّ جديدٍ، في الجانب الأيمن من الجدوَل الدَّورِيّ. مع مرور السِّنين وتقدُّم العلم واستحضار العناصر الاصطناعية، تم إدخال هذه العناصِر، أيضًا، في الجدوَل، وفقًا لخصائِصِها.
ترتيب البروتونات، النيوترونات والإلكترونات هو المسؤول عن ترتيب الجدول الدَّوريّ | رسم: Science Photo Library
النِّظَام الدَّاخِليّ
مع تقَدُّم الكيمياء والفيزياء، وفهم كيفيَّة مًبْنَى الذَّرَّة، اتَّضَحَ سبب كًوْن ترتيب مندليف ناجِحًا لهذه الدرجة، واتَّضَحَت العلاقة بين هذا التَّرتيب والتَّنَوُّع في خصائِص الذّرَّات. نحنُ نعرف اليوم أن نواة الذَّرَّة تتكوَّن من البروتونات ذات الشّحنة الكهربائيَّة الموجبة والنيوترونات، الَّتي تشبه البروتونات، تقريبًا، ولكنَّها عديمة الشّحنة الكهربائيَّة . الإلكترونات التي تحيط بالنَّواة تحملُ شحنة كهربائيَّة سالبة، تعادل الشّحنة
الكهربائيَّة للبروتونات، لكنَّ كُتلَتَها صغيرَةٌ جِدًّا، وتعتبَرُ ضئيلةً جِدًّا، بالمقارنة مع كتلة النَّواة.
عدد البروتونات في نواة الذَّرَّة هو ما يُمَيِّز بين عُنصُرٍ وآخر. يوجد في نواة عنصر الهيدروجين بروتون واحد، لذلك، فإنَّ كتلته الذَّرِّيَّة تساوي 1 (وحدة كتلة ذَرِّيَّة واحدة). في نواة ذَرَّة النيتروجين توجد سبعة بروتونات- لذلك، فإنَّ رقمه الذَّرِّيّ يساوي 7، وكذلك سبعة نيوترونات، لذلك، فإنَّ وزنَهُ الذَّرِّيّ هو 14- ما يعادل وزن 14 ذَرَّة هيدروجين. في نواة ذَرَّة الذَّهَب يوجد 79 بروتونًا (وهذا هو عَدَدُهُ الذَّرِّيّ) و 118 نيوترونًا، لذلك، فإنَّ وزنَهُ الذَّرِّيّ هو 197.
تنتظم الإلكترونات حول النَّواة في مَبنًى طَبَقِيٍّ يشبه، إلى حَدٍّ مُعَيَّن، قشورَ البصل. القشرة الدَّاخليَّة يُمكِنُ أن تحتوي على إلكترونَيْن فقط ع، لذلك، فإنَّ السَّطر الأَوَّل في الجدول الدَّورِيّ يحوي عُنصُرَيْن فقط- الهيدروجين، وله إلكترون واحد فقط، والهيليوم، وله إلكترونان إثنان. أما القشرة الثَّانِيَة فإنَّها تَتَّسِعُ لثمانية إلكترونات. للعنصر الأوَّل في السَّطر الأفقيّ الثَّاني في الجدول، الليثيوم، قشرة داخِليَّة ممتلئة بإلكترونَيْن، ويوجد إلكترون واحد في القشرة الثَّانِيَة. في البيريليوم، الَّذي يلي الليثيوم، يُوجَدُ إلكترونان في القشرة الثَّانيَة، وهكذا حتى عنصر النيون، العنصر رقم 10، الذي تمتلئ قشرتاه الأولى والثَّانيَة بالإلكترونات.
في الأسطر الأفُقيَّة التَّاليَة توجَدُ العناصر الأثقل، التي يُوجَدُ لها أكثر من قشرَتَيْن.
الحالة الأكثر استقرارًا للذَّرَّة هي عندما تكون القشرة الخارِجِيَّة ممتلئة بالإلكترونات. العنصر الَّذي قشرته الخارِجِيَّة غير ممتلئة يُمكِنُ أن يصل إلى هذه الحالة بواسطة التَّنازُل عن إلكترونات أو الحصول عليها، أو الارتباط بِذَرَّة أخرى يتقاسم معها الإلكترونات. عدد الإلكترونات الناقصة في القشرة الخارِجِيَّة يُحَدِّدُ الرَّوابِط الَّتي يُمكِنُ أن تُكوّنها الذّرَّة والكثير مِن خَصائِصِها الكيميائِيَّة. لقد قام مندليف بترتيب جَدوَلِهِ الدَّورِيّ بحَيثُ أنَّ العناصر الَّتي لها نفس عدد الإلكترونات في القشرة الخارِجيَّة تكون موجودَةً في نفس السَّطر العموديّ، بالرَّغم من أنَّه لم يكن يعرف شيئًا عن مبنى الذَّرَّة. هذه الصفة هي، بالطَّبع، مصدر ثلاثِيَّات دوبراينر - الليثيوم، الصوديوم والبوتاسيوم، وكُلُّها ذات إلكترون واحد في القشرة الخارِجِيَّة، لذلك، فإنَّها تتفاعل بنفس الشكل.
عندما نتمَعَّن في الجدول الحديث سوف نرى أن الوزن الذّرِّيّ لغالبيَّة العناصر لا يشكّل مضاعفات صحيحة تمامًا لوزن الهيدروجين، بل يُشَكِّل عدَدًا قريبًا منه. ينبع ذلك من وجود النظائر (الإيزوتوبات) - وهي عبارة عن أشكال إضافيَّة لنفس العنصر، تختلف بعضُها عن البعض في عدد النيوترونات فقط، لذلك، فإنَّها تختلف في الوزن الذّرِّيّ . في حالة الكربون مثلاً، فإنَّ حوالي 99 بالمائة من ذَرَّاتِهِ في الطَّبيعة هي ذَرَّات "عاديَّة"، تحتوي على سِتَّة بروتونات وسِتَّة نيوترونات، وتُوجَدُ نظائرُهُ الأخرى بنسبة ضئيله، لذلك، فإن معدل وزنه الذّرِّيّ هو 12.01. في المُقابِل، فإنَّ حوالي 72 بالمائة من مجمل ذرَّات الروبيديوم في الطَّبيعة تشكل ذَرَّات النَّظير العاديّ للروبيديوم، الَّذي وزنه الذَّرِّيّ 85 ، وحوالي 28 بالمائة من البيريليوم في الطَّبيعة هي النَّظير الأثقل، الَّذي وزنه الذَّرِّيّ 87 ، لذلك، فإنَّ مُعَدَّل الوزن الذَّرِّيّ للروبيديوم يكون قريبًا من 85.5.
يُفَسِّرُ مبنى الذَّرَّة، وكذلك الرَّوابِط بين الذَّرَّات، الخَصَائِص الأخرى الكثيرة للمواد، مثل الحالة التَّراكُمِيَّة، التَّوصيل الكهربائيّ، التَّوصيل الحرارِيّ وغيرها من الخصَائِص.
مجدٌ عالميٌّ. طابع بريد سوفييتي يعود إلى سنة 1969 ، في ذكرى مرور مائة عام على الجدول الدَّورِيّ | المصدر: ويكيبيديا، استخدام حُرّ
عالِمٌ مُتَعَدِّدُ المَجالات
النَّجَاح الكبير للجَدوَل الدَّورِيّ جَعَل مندليف أحد العلماء الأكثر شهرة في عصره، لكنّه، من ناحية أخرى، ، طَغَى على مساهماته العديدة الأخرى في العلوم. من بين أمور أخرى، عمل مندليف على نطاق واسع في البتروكيمياء - البحث في مجال النَّفط ومنتجاته. لقد شارك في إنشاء معامل التَّكرير الأولى في روسيا، وأجرى أبحاثًا حول أنواع الوقود، الأسمدة والمُتفجّرات، وقام بتطويرها. كذلك، قام بدراسة الصِّفات الطَّبيعيَّة للمواد وحالاتها الرُّكاميَّة ، ودَرَسَ، من بين أمور أخرى، العلاقة بين درجة الحرارة وحجم المواد المختلفة، وصفات المحاليل. لقد كان جزءٌ من اتجاهات أبحاثه خاطِئًا - على سبيل المثال، اعتقَدَ أنَّ الأثير يُمكن أن يكون عُنصُرًا إضافيًّا، أخفّ من الهيدروجين، وله خصائِص الغاز.
إلى جانب عمله العلميّ، تعامل مندليف مع العديد من القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. لقد قدَّم المشورة للحكومة الرُّوسِيَّة في القضايا الزِّراعيَّة والمعاهدات التِّجاريَّة، وعمِلَ على حماية السُّوق الرُّوسيَّة من خلال الجمارك والضَّرائِب على الوارِدات. كما انّه كان مِن أوائِل الدَّاعِمين للتَّعليم الأكاديمي للنِّساء، وحثّ على افتتاح محاضرات ودَورات دراسيَّة لهُنَّ. .
هناك قصَّة جميلة تُبَيِّن مكانة مندليف الرَّفيعة في روسيا. عندما طَلَّقَ زوجته، أراد أن يتزوج امرأة أخرى على الفور(كانت في التَّاسعة عشرة من عُمرِها، وكان عمره ثلاثة وأربعين عامًا) ) بدون أن ينتظِرَ عدّة سنوات، كما تتطلَّب قوانين الكنيسة، لذلك، أعطَى رشوةً للكاهِن الَّذي زَوَّجَهُ على الفَوْر. عندما عُرِف الأمر أُقِيلَ الرَّاهِب ولم يُتَّخَذ أيّ إجراء ضدّ مندليف. كانت إجابة القيصر للمُوَظَّف الذي قدَّم الشَّكوى: "حقًّا يوجد لمندليف امرأتان، لكن لدَيّ لا يوجد سوى مندليف واحد". سواء كانت القصَّة حقيقية أم لا، فقد أُجبِر مندليف في العام 1891، بالرَّغم مِن ذلك، على الاستقالة من الجامعة، بسبب دعمه السِّياسيّ للجماعات الطُّلَّابيَّة المُتَطَرِّفَة.
لم يبقَ مندليف عاطلاً عن العمل وتمَّ، بعد ذلك بوقت قصير، تعيينه رئيسًا لمكتب المقاييس والأوزان - معهد المعايير. هناك أسطورة أخرى تربطه بمسألة تحديد معيار تركيز الكحول في الفودكا، 40 بالمائة، لكن بقدر ما هو معروف، لا يوجد لها أيّ أساس. . قامَ مندليف، أيضًا، بإنشاء الرَّابِطَة الرُّوسيَّة للكيمياء وشَجَّع على استخدام النِّظام المتريّ في الدولة.
حصَلَ مندليف على العديد من الجوائِز العِلميَّة، ومِن بينها ميدالية كوبلي والجائزة المرموقة على اسم همفري ديفي. في السَّنَتَين 1905 و- 1906 كانَ مُرَشَّحًا لجائزة نوبل، وقد خسرها بفارق صوتٍ واحدٍ. لم يُرَشَّح للجائزة مرَّة أخرى. في 2 فبراير 1907 تُوُفِّيَ بسبب الإنفلونزا، قبل أيّام قليلة من الذّكرى الثَّالثة والسَّبعين ليوم مولِده. في نهاية الأمر حظِيَ بتكريمٍ أكبر من الجائزة- لقد سُمِّيَ العنصر رقم 101 باسمه، مندليفيوم، وهكذا تمَّ تخليدُ اسمه في الجدول الدَّورِيّ الَّذي طوّرَه هو نفسُهُ.
مقطع فيديو TED-Ed عن عبقريَّة الجدول الدّورِيّ:
الترجمة للعربيّة: أ. خالد مصالحة
التدقيق والتحرير اللغوي: أ. خالد صفدي
الإشراف والتدقيق العلمي: رقيّة صبّاح أبودعابس