يعتمد العلمُ إلى حدٍّ كبير على الإجماع. بكلماتٍ أُخرى، عند تجميع معلومات كافية لإثبات نظريةٍ ما، تصبح النظرية مُصدّقٌ عليها وصحيحة. لكن في بعض الأحيان، يتحوَّل هذا الإجماع من نعمة إلى نقمة.

يعتمد العلمُ إلى حدٍّ كبير على الإجماع. بكلماتٍ أُخرى، عند تجميع معلومات كافية لإثبات نظريةٍ ما، تصبح النظرية مُصدّقٌ عليها وصحيحة. لكن في بعض الأحيان، يتحوَّل هذا الإجماع من نعمة إلى نقمة.

يضمّ المشروع العلميّ اليوم عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين يعملون معًا لتحقيق هدفٍ مشترك، ألا وهو توسيع حدود المعرفة البشريّة. ويمكن تشبيه العُلماء بعمّال البناء الذين يتعاونون في بناء برج طويل، حيث يضيف كلّ منهم بدوره لوحًا أو لبنةً أخرى إلى المَبنى. مع تراكم المعرفة في مجال معيّن، يصبح البرج أكثر اكتمالًا واستقرارًا، ويمكن الاعتماد عليه لاستكشاف مجالات اكتشافات جديدة. عندما تتراكم أدلة كافية تشير إلى صّحتها، تُعتبر النظرية حقيقة علميّة، وتحتاج زعزعتها إلى أدلة قوية. وقد وضَّح العالِم إسحاق نيوتن هذه الفكرة بشكل جيّد، في رسالة بعثها إلى زميله ومنافسه روبرت هوك (Hooke): "إذا أبعدت نظري أكثر عن الآخرين، فذلك لأنني وقفت على أكتاف العمالقة فقط".

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ الإجماع العلميّ أداةٌ أساسيّة تُمكّن العلم من التقدّم والتطوّر، دون أن يُطلب من ممارسيها إعادة اختراع  العجلة مرارًا وتكرارًا. مع ذلك، ففي بعض الأحيان، من الممكن أن تتحوّل النّعمة إلى حجر عثرة في سبيل التقدّم العلميّ السّليم، حيث يُهدّد أحد أحجار هذا البرج بالانهيار، بعد بناء العديد من الطوابق فوقه، فينشأ خوف من انهيار البرج بأكمله إذا قمنا بإزالة ذلك الحجر. 

هذا ما يحدث، على سبيل المثال، عندما يتّضح أنّ دراسات أساسيّة استند إليها الكثيرون، غير صحيحة أو غير كاملة. بالتالي، تحوم علامة استفهام كبيرة على منظومة المعرفة المبنيّ عليها. في حالات أخرى، يُناقض اكتشافٌ جديد المعرفةَ المتراكمة في المجال على مدار سنوات عديدة، لذلك يتم تلقّيه بشكٍّ كبير ويرفضه علماء مهمّون بشكلٍ قاطع. كما أن هناك حالات يكون فيها خطأٌ واحد من عالِم مُؤثّر، كافيًا لحرف الإجماع العلميّ لسنوات عديدة.

הסכמה בלחיצת ידיים | iQoncept, Shutterstock

الإجماع الواسع النطاق يحول النظرية إلى إجماع، لكن ما يعتبر صحيحًا اليوم يمكن أن يصبح خطأ غدًا. موافقة بسلام الأيدي|iQoncept, Shutterstock.
 

خطأ ميليكان المشحون

هذا ما حدث بالضبط في قضيّة تجربة قطرة الزيت، التي أجراها الفيزيائيّ روبرت أندروز ميليكان (Millikan)، حيث قاس شحنة الإلكترون لأوّل مرّة في سنة 1909م. أثناء التجربة، استخدم ميليكان حقلًا كهربائيًّا لالتقاط قطرات الزيت المشحونة كهربائيًّا، ووجد قيمة الحقل الذي أدّى إلى تحليق قطرات الزيت في الهواء. من خلال ذلك، أظهر أنّ الشحنة الكهربائيّة تتغيّر بوحدات صغيرة منفصلة، وليس بشكل متواصل، وأنّ حجم كلّ وحدة صغيرة من هذا القبيل هو الشحنة الكهربائيّة التي يحملها الإلكترون الواحد.

لا تزال تجربة قطرة الزيت تعتبر تجربة إبداعيّة، ذكيّة وجميلة بشكل خاصّ، وقد فاز ميليكان باستحقاق كبير بجائزة نوبل في الفيزياء سنة 1923م. بعد القياس الأوّل الذي أجراه ميليكان، وجد العلماء طرقًا أخرى لقياس شحنة الإلكترون. لكن، وللمُفاجأة، بينما أظهرت القياسات التي أجريت بعد تجربة ميليكان بقليل قيمًا قريبة جدًا من القياس الأصليّ، فإنّ تلك التي أُجرِيت بعد عشرين عامًا قامت بقياس قيم مختلفة تمامًا. رغم أنّ الفجوة بين شحنة ميليكان والشحنة المعروفة حاليًّا، من حيث القيمة المطلقة، صغيرة وتبلغ 0.6 بالمائة فقط، لكن نظرًا لصُغرمدى الخطأ في القياس، فإنّ لشحنة ميليكان قيمة مختلفة تمامًا، لم يكن ينبغي الحصول عليها في القياسات السّليمة والموضوعيّة.

كيف يمكن لقياسات مختلفة بنفس المقدار المادّيّ أن تُسفرعن قيم مختلفة جدًّا؟ اتَّضح لاحقًا أنّ هُناك خطأً حسابيًّا في تجربة ميليكان. نتيجةً لذلك، فإنّ الشحنة التي نسَبَها للإلكترون كانت غير دقيقة. في المقابل، ونظرًا لأنّ تجربته كانت جيّدة ومقنعة، تم قبول القيمة التي وجدها على الفور على أنّها صحيحة. كما خشي الفيزيائيّون الذين أجروا التجارب من بعدِه نشر النتائج التي تتعارض مع نتائج بحثه، والتي اعتبرت موثوقة ودقيقة. فبدلًا من تصحيح الخطأ، ارتفعت القياسات التي أُجرِيت لشحنة الإلكترون على مرّ السنين بخطوات صغيرة، دون الابتعاد كثيرًا عن القياس الأصليّ الخاطئ. استغرق الأمر عقودًا عدّة حتى استقرّت القياسات عند القيمة المقبولة حاليًّا.

أخطأ ميليكان بحسن نيّة طبعًا، ولم يفعل شيئًا يُحرّف الدراسات المستقبليّة، لدعم نتائجه. لكنّ الإجماعَ العلميّ، الذي تشكّل حول أسلوبه في طريقة البحث ونتائجه، أحبطَ بشكل سلبيّ وغير مقصود أيَّ اعتراض على القيمة التي حدّدها لشحنة الإلكترون.

מדגים את הצד הרע של קונצנזוס. ניסוי טיפת השמן של מיליקן, 1909 | מקור: ויקיפדיה, נחלת הכלל
تجربة ذكية ورائدة، والتي تبين أنها أعطت قيمًا غير صحيحة بسبب خطأ في الحساب. توضح الجانب السيئ من الإجماع. تجربة Milliken's Oil Drop  1909 | المصدر: ويكيبيديا.
 

حاجز يُصعب عُبوره

في حالة شحنة الإلكترون، عانى العلماء في الغالب من الإفراط في الحذر، ما أدّى إلى امتناعهم عن نشر النتائج التي تتعارض مع الإجماع العلميّ. وضع مؤذٍ بنفس القدر هو ما قد يحدث للعلماء الذين يكتشفون ظاهرة جديدة وغير مألوفة، لكنّهم يجدون أنفسهم في مواجهة مُعارضة شرسة، والتي قد تصل إلى حدّ العداوة الشخصيّة مع العلماء الآخرين الذين يتمترسون بشدّة وراء الإجماع. في مثل هذه الحالات، يضع مجتمع العلماء المشتركين في مجال البحث ذي الصلة، أو على الأقلّ كبار العلماء فيه، جُلّ طاقاتهم في رفض الأفكار الجديدة التي تتعارض مع "ما يعرفه الجميع"، من منطلق المحافظة أو التعصُّب لأفكارهم. 

اشتهرت بشكل خاص قصّة الكيميائيّ الإسرائيليّ دان شيختمان، الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء سنة 2011م لاكتشافه "شبه البلّورات"، بعد سنوات عديدة من الصراع مع زملائه في هذا المجال. لسنوات عديدة، كان معروفًا أنّه يمكن للمواد الصلبة أن تظهر في شكل بلّوريّ، وكان من الواضح للجميع أنّ هذه البلّورات هي عبارة عن مواد ذات ترتيب دوريّ وموحّد، كمُربّعات لوح الشطرنج، ولكن في ثلاثة أبعاد، ويحافظ البلّور على شكله من جميع الزّوايا. لكن في نيسان 1982م، وخلال تجربة أجراها في مختبره، اكتشف شيختمان شيئًا غريبًا: لقد تبلورت المادّة بترتيب غير دوريّ، بحيث بدا اختلاف في ترتيب شكله عند النّظر من أماكن مختلفة. أطلق عليها اسم "شبه البلّورات".

أدرك شيختمان أنّه اكتشف ظاهرة جديدة في العلم، لكنّ محاولاته لنشر النتائج التي توصّل إليها في المجلّات العلميّة قوبلت بمعارضة شديدة، لدرجة العداء. وقف على رأس خصومه الكيميائيّ الشهير لينوس بولينغ (Pauling)، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء والسلام. حتّى أنّه قال في ذروة الصراع "لا توجد شبه بلّورات، هناك فقط أشباه علماء". كما دعا شيختمان للذهاب "لقراءة كتاب عن البلّورات"، وحثّ المُشرف الأكاديميّ لشيختمان على استبعاده من مجموعته البحثيّة. استغرق الأمر سنواتٍ عدّة حتّى أثار الموضوع اهتمامًا كافيًا من العلماء، لمحاولة مراقبة شبه البلّورات بأنفسهم. مع تراكم النتائج الجديدة، تم تشكيل إجماع جديد، ضمّ بداخله هذه المرة شبه بلّورات شيختمان.

 דן שכטמן (שמאל) במכון הלאומי לתקנים וטכנולוגיה בארצות הברית, 1985 | מקור: H. Mark Helfer, Science Photo Library
موضع سخرية وتعالي لسنوات عديدة من جانب المجتمع العلمي. دان شيختمان (يسار) في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في الولايات المتحدة، 1985 | المصدر: H. Mark Helfer، Science Photo Library.

يزخر تاريخ العلم بالعديد من الأمثلة على العلماء الرائدين، الذين اضطرّوا إلى التعامل مع الإجماع العلميّ في وقتهم، ولكن دون جدوى. على سبيل المثال، الطبيب المجرّي إغنات سيميلويس (Semmelweis)، الذي يُعتبر الآن أحد آباء علم الأوبئة. فقد أصبح هذا العالِم موضع سخرية وتهكّم في المستشفى الذي عمل فيه، في القرن التاسع عشر الميلاديّ قبل اكتشاف البكتيريا، حيث استخفّ زملاؤه الأطباء بادّعائه بأنّ تعقيم اليدين يمنع الأمراض. في حين لم يتمّ قبول نظريّة الهجرة القاريّة، التي ابتكرها العالم الألماني ألفريد لوثر فيجنر(WegenerWegener) في المجتمع الجيولوجيّ، إلّا بعد حوالي عشرين عامًا من وفاته.

יבשת גונדוואנה לפני כ-550 מיליון שנה | מקור: Osvaldocangaspadilla, Wikiwand
لم يتقبّل المجتمع العلمي نظرية الهجرة القاريّة التي تصورها ألفريد لوثر واغنر إلا بعد وفاته. قارة جندوانا منذ حوالي 550 مليون سنة المصدر: Osvaldocangaspadilla، Wikiwand.
 

الدفاع عن الإجماع العلميّ من داخله

يُعتبر الإجماع العلميّ أمرًا حاسمًا لقدرتنا على النهوض بالمعرفة البشريّة. فبدونه، لن يكون لدينا أساس مشترك للعمل عليه، وسيضطرّ الجميع إلى بناء برج المعرفة في مجال تخصصهم بمفردهم. علاوةً على ذلك، فإنّ الإجماع العلميّ يمكّن المجتمع العلميّ من تزويد الجمهور بإجابات موثوقة قائمة على الأدلة، في النزاعات العامة المتعلّقة بالقضايا العلميّة - كالنّقاش حول اللقاحات على سبيل المثال، أو المُطالبة بتخصيص موارد لوقف التغييرات المناخيّة.

مع ذلك، فإنّ الاعتماد المفرط عليه قد يقود العلم إلى اتّجاهات خاطئة أو قد يؤخّر تقدّمه. لا يُعرف ما هي الأفكار الصحيحة والمبتكرة التي رفضها المجتمع العلميّ بدافع المحافظة المُطلقة، وأي اكتشافات أُحبطت لأنّ أحدًا لم يجرؤ على مُشاركتها في الأساس. المستقبل وحده هو الذي سيكتشف ما إذا كنا اليوم نتبنّى مفاهيم خاطئة، بسبب الاعتماد على إجماع خاطئ. رغم أنّ الغالبيّة المُطلقة تقريبًا من الأفكار التي تتعارض مع الإجماع العلميّ غير صحيحة حقًّا، إلّا أنّه ينبغي النظر إلى هذه الأسئلة، على أنّها إشارات تحذير من الاعتماد الأعمى على "ما يعرفه الجميع".

ההתנגדות העזה שקריאתו להיגיינה וחיטוי עוררה אצל רופאים בני תקופתו הובילה להתמוטטות עצבים ואשפוז במוסד לחולי נפש | מקור: Jeno Doby, Wikiwand
المعارضة الشديدة لدعوته للنظافة والتّعقيم التي أثارها الأطباء في عصره أدت إلى انهياره عصبي ودخوله مصحة عقلية | المصدر: Jeno Doby، Wikiwand.

يُوفّر المنهج العلميّ لممارسيه مجموعةً من الأدوات تهدف، فيما تهدف إليه، إلى منع مثل هذه الأخطاء. إحدى أهمّ الأدوات لمواجهة القبول غير الناقد للنتائج، كما حدث في حالة الشحنة الكهربائيّة للإلكترون، هو التّكرار: إعادة بناء مُستقلّة للدراسات التي أجراها باحثون آخرون في مكان آخر. من التوقّع أن يُسفر البحث الجيّد عن نتائج مماثلة عند إعادة بنائه. يمرّ مجال علم النفس الاجتماعيّ، على سبيل المثال، بأزمة  في هذه الأيّام، بعد أن أصبح واضحًا أنّ العديد من الدراسات في هذا المجال - بما في ذلك النظريّات القديمة التي كان هناك إجماع حولها - ليست قابلة للتكرار بشكل جزئيّ أو كامل. نتيجةً لذلك، يتمّ الآن بذل جهد مُنظّم لإعادة فحص الطرق المُستخدمة في البحث الذي يتمّ إجراؤه في الميدان وإعادة إنتاجها.

وسيلة أخرى من شأنها أن تساعد، هي جعل جميع البيانات التي تستند إليها الأبحاث التي  تُنشر في المجلات العلميّة مُتاحة. بهذه الطريقة، من المُرجّح أن تستند المناقشة حول موثوقيّة الدراسة ودقة نتائجها إلى البيانات، وليس إلى آراء العلماء الشخصيّة. قبل كلّ شيء، يحتاج كلّ عالِم إلى درجة صحّيّة من الشكّ والتواضع، يضمن الالتزام بها عدم التعصّب في مواقف العلماء، أو في موقف الإجماع، إذا كانت المعطيات المرصودة تشير إلى أنّ الحقيقة العلميّة مختلفة عمّا كانوا يعتقدون.

0 تعليقات