آمن العلماء وعلى مدار أكثر من 1500 سنة بحقيقة كان بإمكان كلّ طفل أن يدحضها من خلال فحص بسيط. طريقتان تطوّرتا في القرن السّادس عشر الميلاديّ أدّتا إلى تغيير الوضع.

إليكم هذه الفكرة الّتي من المؤكّد لم تخطر على بالكم أبدًا: مَسح الثّوم على المغناطيس يعطّل جاذبيّته. 

على الرّغم من كَون هذه الفكرة غريبة في أيّامنا، فإنّها اعتُبرت حقيقة لا جدال فيها قبل بضع مئات السّنين. كان هذا هو الحال على الأقلّ منذ فترة ازدهار الإمبراطوريّة الرّومانيّة، حتّى بداية عصر العِلم الحديث. مُنِعَ البحّارون على مدار مئات السّنين من أكل الثوم أثناء عمليّة الإبحار، لِخشيتهم أن تقوم أبخرة الثّوم بتعطيل البوصلات المغناطيسيّة، وتؤثّر سلبًا في مسارها. 

إذا لم يكن هذا الأمر غريبًا لكم بما فيه كفاية، فاعلموا أنّه على مرّ السّنين عُثِرَ على حلّ مبتكر لهذه المشكلة الخياليّة: اعتقد النّاس أنّه يمكن إلغاء التأثير السلبيّ للثّوم، إذا سُكب دم الماعز على المغناطيس. من أين جاءت هذه الأفكار؟ ولماذا اعتُبرت صحيحة لفترة طويلة من الزّمن؟ مع كلّ ذلك، ما الذي يمكن معرفته من هذا الاختلاف، بين العِلم في العصر الحديث ودراسة الواقع في الأزمنة السّابقة؟ 

פליניוס וצילום מספרו "תולדות הטבע"
فيلنيوس وصورته مع كتابه "تاريخ الطّبيعة". | تصوير: LIBRARY OF CONGRESS, RARE BOOK AND SPECIAL COLLECTIONS DIVISION / SCIENCE PHOTO LIBRARY توضيح: SHEILA TERRY / SCIENCE PHOTO LIBRARY

تكرار الخطأ 

بالتّأكيد، يسأل العديد من القرّاء أنفسهم: "لحظة، لماذا لم يتحقّقوا من هذا الأمر؟ فإنّه بسيطٌ للغاية". عمليًّا، إذا تناولت الثّوم وحاولت استخدامه لتعطيل عمل المغناطيس، فمؤكّدًا ستكتشف على الرّغم من معنويّات علماء الطّبيعة القدامى والعصور الوسطى، أنّ ليس للثّوم أي تأثيرٍ في جاذبيّة المغناطيس. على المرجّح سيُغطّى المغناطيس بطبقة زيتيّة ورائحة ثومٍ مدوية. كيف من الممكن لمعلومة من السّهل التحقّق منها ودحضها أن تعتبر كحقيقة لسنوات طويلة؟

بدايةً، نحن بحاجة إلى إدراك أصل فكرة تأثير الثّوم. إنّ أكثر تفسير مقبول هو خطأ إملائيٌّ عائدٌ لأجيال عديدة في المخطوطات المنسوخة يدويًّا. ربما ينبغي البحث عن البداية في روما، في القرن الأوّل الميلاديّ لدى عالم الطّبيعة چايوس پلينيوس سـِكوندوس (پلينيوس الأكبر)، الّذي كتب واحدة من أكبر موسوعات الطّبيعة الأكثر شمولًا في العصور القديمة "تاريخ الطّبيعة". كتب پلينيوس في كتابه العشرين، "يجذب المغناطيس الحديد ويقوم (حجر) آخر بصدّه عنه". ربّما قصد پلينيوس بـ"حجر آخر" إلى المعادن التي نسبها العلماء في عصره إلى التّنافر المغناطيسيّ. 

يأتي الدّور الآن على الجزء المثير. كتب پلينيوس كُتبه باللّغة اليونانيّة، وبهذه اللّغة تهجئة الكلمتين "آخر" (alio) و "ثوم" (allio) متشابه تقريبًا. اعتادوا في تلك الفترة قبل اختراع الطّباعة على نسخ الكتب يدويًّا، لذلك كان هناك العديد من أخطاءٍ في النّسخ. يبدو أنّ هذا الخطأ تكرّر في نُسخٍ عديدة فتأصّل هذا الخطأ. وبالفعل، تباع اليوم النّسخ القديمة من "تاريخ الطّبيعة" المدوّن بها "حجرٌ آخر". 

لقد كان الطّريق من هنا، وإلى جعل تأثير الثّوم حقيقة لا جدال فيها قصيرًا. تعامل الفيلسوف والمؤرّخ الرومانيّ بلوتارخُس المولود بعد پلينيوس بجيل واحد، مع تأثير الثّوم كحقيقة مفرغة. دوّن في كتابه "أسئلة" (Quaestiones Convivales): "لن يجذب حجر المغناطيس الحديد إذا دُهِنَ بالثّوم. هذه أمور واضحة للجميع". 

من المدهش أن نكتشف أنّ بلوتارخُس كتب أنّه تمّ التّحقق من هذه الحقيقة. إذا كان كلامه صحيحًا، فهذا دليل على أنّ شخصًا ما قد فحص الأمر، وتوصّل إلى نتيجة لا أساس لها من الصّحة جراء تجربة شخصيّة. هل كذّب بلوتارخُس على قرّائِه، أم أنّه ظنّ بصدقٍ أنّ الثّوم يعطّل عمل المغناطيس؟ إنّ الإجابة غير واضحة على هذا التّساؤل، بسب مرور ألفيّ عام على عهد بلوتارخُس، إلّا أنّ كلامه يوضّح أنّه في بعض الأحيان لا يتعيّن عليك أن ترى لتصدّق، إنما أن تصدّق لترى. 

הפילוסוף וההיסטוריון הרומי פלוטרכוס
الفيلسوف والمؤرّخ الرّومانيّ بلوتارخُس، والذي ولد بعد پلينيوس بجيل واحد، تعامل مع تأثير الثّوم كأمر محتم. | رسم توضيحيّ: New York Public LIbrary Picture Collection Science photo library 

نموذج شامل

مع مرور السّنين، ترسّخ الإيمان بمدى تأثير الثّوم. كتب عالِم الفلك الشّهير بَطْلُمْيوس في إحدى مقطوعاته "الكتب الأربعة"، (Tetrabiblos)، "لن يجذب المغناطيس الحديد بعد دهن الثّوم عليه". يظهر تأثير الثّوم في معظم المصادر القديمة كمثال لتوضيح مبدأ التعاطف والكراهيّة، والذي ينصّ على وجود مواد لها قوى معاكسة للموجودة في مواد أخرى، بالتّالي تلغي هذه القوى إحداها الأخرى. فأصبح ثنائيّ المغناطيس والثّوم أحد الأمثلة المقبولة لتوضيح هذا المبدأ. 

استمرّ تأثير الثّوم في الظّهور في العديد من الكتابات على مرّ مئات السّنين. في أطروحة مجهولٌ كاتِبها من القرن السّابع عشر عن الكيمياء، إذ قيل على سبيل المثال: "يجب عدم تجاهل حقيقة أنّ سبب جذب الأحجار المغناطيسيّة للحديد يعود إلى التّعاطف الطبيعيّ، أو يعود إلى دهن الثّوم على المغناطيس بسبب الكراهيّة، ممّا يلغي عمليّة الجذب الطبيعيّة للمغناطيس". 

واستمرّ الأمر في القرن العاشر، إذ دُوّن في مجموعة شاملة من الكتابات حول موضوع الزّراعة، تحت عنوان "جيوبونيكا" (Geoponica)، أنّ الثّوم لا يلغي جاذبيّة المغناطيس فقط، بل يتسبّب في نفور الحديد أيضًا. وظهر هناك الإدّعاء أنّ غمر المغناطيس في وعاء من دم الماعز يلغي تأثير الثّوم- وهي إضافة ربمّا تولّدت من قبل تفسيرات پلينيوس الإبداعيّة.

ظهر تأثير الثّوم أيضًا في القرن الثّالث عشر عند كاتبي المقالات العلميّة في العالم الإسلاميّ، إذ تبنّوا العديد من الأفكار التي نشأت في الثّقافة اليونانيّة والرومانيّة القديمة. مع ذلك، هناك العديد من الإثباتات على أنّ علماءً من العصور الوسطى فحصوا تأثير الثّوم بأنفسهم، وتبيّن لهم أنّه كان على خطأ. إلّا أنّهم امتنعوا عن رفض وجود تأثير الثّوم، فادّعوا بحذرٍ أنّ التأثير يعمل فقط في بعض أنواع الثّوم والمغناطيس، وليس على تلك التي فحصوها. 

بدأت الرّسائل والمقالات في الظّهور فقط في نهاية القرن السّادس عشر ومع بداية الثّورة العلميّة، من قبل الباحثين الذين زعموا أن تأثير الثّوم لم يكن صحيحًا بناءً على تجارب دقيقة. أقرّ العلماء في القرن التّاسع عشر بشكل مؤكّد أنّ التأثير لم يكن حقيقيًّا، ودُفِنَت هذه الفكرة الغريبة كملاحظة في حواشي كتب تاريخ العلوم. 

במאה העשירית נכתב באוסף כתבים מקיף בנושא חקלאות, בשם "גיאופוניקה"
في القرن العاشر، كُتِب في مجموعة شاملة من الكتابات حول موضوع الزّراعة باسم "الجيوفونيكس"، أنّ الثّوم لا يلغي جاذبيّة المغناطيس فحسب، بل يؤدّي إلى تنافر الحديد. | تصوير: صفحة من مجموعة كتابات "الجيوفونيكس".

الثّورة العظيمة

ليس مفاجئًا أو غريبًا صمودُ فكرة علميّة خاطئة لسنوات عديدة حتّى يتمّ دحضها. فهناك العديد من النّظريّات التي استمرّ تصديقها دون دلائل كافية، مثل مدى قوّة شفاء إراقة الدّم بواسطة العلقات، أو وجود مادّة چيستون الّتي تنبعث عند الاشتعال. نحن ندرك أيضًا أنّه من بين النّظريّات العلميّة المقبولة اليوم، هناك من سيتمّ دحضها في المستقبل. ما يميّز تأثير الثّوم هو أنّه من السّهل فحصه. من الواضح، لم يكن هناك أيّ سبب لصموده لأكثر من 1500 سنة. 

لماذا استغرق من العلماء القدامى الكثير من الوقت للاعتراف بعدم وجود تأثير للثّوم؟ تكمن الإجابة في الثّورة العظيمة التي حدثت في العصر الحديث: الانتقال إلى طريقة البحث التجريبيّ. 

وفقًا للطّريقة العلميّة الحديثة، يجب اختبار الفرضيّات بشكلٍ تجريبيّ. أي أنّه علينا إجراء تجارب أو مشاهدات من شأنها تأكيد أو دحض فرضيّتنا. بالإضافة إلى ذلك، على الباحثين الآخرين أن يكونوا قادرين على استرجاع تجاربنا ومشاهَداتِنا للتّحقّق من صحّتها، وأن تبقى النّتائج متشابهة ومُتوافقة مع مرور الزّمن. بدأ النّهج التّجريبيّ ببناء الأسس للعمليّة العلميّة الحديثة في القرن السّادس عشر الميلاديّ، وفي نفس السّنوات بالضّبط بدأ الباحثون في دحض فكرة تأثير الثّوم. 

لكنّ هذا التّفسير غير كامل. فهناك من أجرى اختبارات وتجارب حتّى قبل الثّورة العلميّة، ولم يتّبع المنهج العلميّ الدّقيق والمتعارف عليه اليوم. كما ذكر سابقًا، حاول الباحثون في العصور الوسطى فحص تأثير الثّوم ولم يجدوا أيّ دليل على وجوده. 

التّفسير الآخر لصمود الاعتقاد بنظريّة تأثير الثّوم لسنوات عديدة، يكمن في تغيير إدراكيّ آخر ومهمّ، حدث بشكل متزامنٍ مع نمو الطّريقة العلميّة الحديثة. ساد لسنوات عديدة جوٌّ من الإعجاب بالحُكماء القدامى خاصّة من اليونان القديمة في قارّة أوروبا خلال العصور الوسطى. كانت نقطة البداية لمعظم العلماء أنّ كلّ شيء أقرّه فلاسفة العصور الوسطى، خاصّة أرسطو وأفلاطون كان صحيحًا. 

نتج عن هذا النّهج الذي اتُّبع على مدار مئات السّنين، منذ بزوغ الإمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة حتّى عصر النّهضة، أنّه لم يجرؤ أحدٌ تقريبًا على التّشكيك في قوانين الطّبيعة، مثلما وصفها الكُتّاب القدامى المُعتمدون. وهذا هو السّبب على سبيل المثال، في أنّ نموذج مركزيّة الأرض للنّظام الشمسيّ، الّذي نصّ على أنّ الشّمس وجميع الكواكب تدور حول الأرض، بقي النّموذج المقبول والثّابت منذ أيام أرسطو وبَطْلُمْيوس من بعده. وفي القرن السّادس عشر الميلاديّ فقط، وضع كوپرنيكوس الشّمس في مكانها الصّحيح، فيما يسمّى اليوم "نموذج مركزيّة الشّمس". 

המפה של ברתולומאו ולהו (1568) שמציבה את כדור הארץ במרכז מערכת השמש.
ساد جوٌّ من الإعجاب بحكماء الماضي في أوروبا في العصور الوسطى لسنوات عديدة. | في الصّورة: خريطة بارتولوميو ڤيلهو (1568) التي تضع الكرة الأرضيّة في مركز النّظام الشمسيّ. 

بيّن المؤرّخ العلميّ كريستوف ساند (Sander) في مقال سنة 2020م عن تأثير الثّوم: معظم المصادر في العصور الوسطى (اللاتينيّة والعربيّة) وأوائل العصر الحديث كرّرت بكل بساطة ذكر تأثير الثّوم عندما تطرّقوا إلى صفات المغناطيس أو الثّوم… إنّ هذا التّكرار غير مفاجئ، لأنّه يظهر في الكتب كعمليّة نسخ بسيطة للمصادر القديمة أو كنسخٍ بعضها عن مصادر أخرى. يشير هذا الأمرإلى حدٍّ ما أنّ المعرفة عن عالم الطّبيعة لم تنبع من الخبرة الشخصيّة، وإنّما من مصادر سلطويّة فقط" (صفحة 528). 

بناءً على ذلك، كما يبدو أنّ الاعتقاد المستمرّ بتأثير الثّوم كان نابعًا من مزيج من الأخطاء في عمليّة نسخ المخطوطات، والقبول بدون النّقد لِمصادر سلطويّة قديمة، وغياب طريقة تجريبيّة صارمة لفحص الأفكار العلميّة. من المهمّ الآن أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت هناك أفكارٌ أخرى نتقبّلها دون الطّعن بها، فقط بسبب الثّقة العمياء بأيّ مصدر سلطويّ؟

لحسن الحظّ، يمكن أن تساعدنا الطّريقة العلميّة في تحديد الأفكار الخاطئة، وإيجاد تفسيرات أكثر دقّة من خلال عمليّة صارمة من الشّك النقديّ، المبنيّ على تجارب، ومشاهدات ومنشورات علميّة التي تسمح للعلماء الآخرين من تكرار التّجارب بأنفسهم في ظلّ ظروف مختلفة. ينبغي ألّا نكتفي بذلك فقط، فقد نتجاهل أيضًا أفكارًا صحيحة ومهمّة بشكل عفويّ، فمن المهمّ دائمًا طرح الأسئلة والتّشكيك، وفحص كل معلومة تُقدّم لنا "كحقيقة علميّة مطلقة" بطريقة نقديّة معتمدة على الدلائل العلميّة

تمّت الترجمة بتصرّف.

 

0 تعليقات