الحضارة، الدّين، السّياسة، الاقتصاد، والعُلوم - لا تزال أصداء الثّورة التي قادها الصّائغ الألماني يوهان جوتنبرج في القرن الخامس عشر تتردّد حتى يومنا هذا، وليس فقط بين أكشاك أسبوع الكتاب.

يُعتبر أسبوع الكتاب طقسًا ثابتًا بالنّسبة للكثيرين منّا. في شهر حُزيران من كلّ عام، تقودُنا أقدامنا إلى الميدان، للسّير بين الأكشاك المليئة بالكُتب، لنَنْبهربالأغلفة، نستنشق رائحة الطّباعة، ونُقلّب الصّفحات. نأتي إلى هناك ليس فقط كمستهلكين، إنّما للبحث عن التّجربة، عن الشّعور بالعيد، آملين بالحُصول على توقيع كاتبتنا المُفَضّلة، سماع توصيات جديدة، والعُثور على كُتب لم نكن نعرفها سابقًا. أسبوع الكتاب هو احتفال لعُشّاق الكُتب والقراءة.

هذا غير مفهوم ضمنًا على الإطلاق،  فحتّى مُنتصف القرن الخامس عشر لم تكن في العالم كُتب بالمعنى الحديث للمُصطلح: مجموعة من الصّفحات المكتوبة والمُجلّدة بشكل تسلسليّ، حيث النُّسخ مطابقة لبعضها البعض. كان كلّ كتاب إنتاجًا مُستقلًّا تمّ صُنعه يدويًّا بواسطة خبراء استثمروا شهورًا طويلة في كلّ نسخة. كان عدد الأشخاص الّذين يُتقنون القراءة والكتابة في معظم المجتمعات، وتحديدًا في الثّقافة الأوروبيّة المسيحيّة، منخفضًا جدًّا. كانت الأمّيّة معيارًا اجتماعيًّا مُنتشرًا.

في هذا الواقع، لم يُفكّر أحد في افتتاح معرض بيع بالجملة لمُنتج باهظ الثّمن ونادر كالكتاب، والّذي لا يُستعمل على أيّة حال سوى من قبل طبقة مُحدّدة وصغيرة جدًّا من المُثقفّين الأثرياء الّذين يعرفون اللاتينيّة، اليونانيّة أو العبريّة. وُلد الاختراع الّذي أتاح هذا التّغييرالجذريّ - وتغييرات أخرى عديدة - في ورشة عمل لمُخترع ألمانيّ ماهر ولكنّه فاشل في عمله، الّذي لم يستطع الاستمتاع بثمار اختراعه، وتوفّي دون الكشف عن هويّته تقريبًا. كانت هذه آلة الطّباعة بالطّبع. 

שבוע הספר בירושלים, 2005 | ויקיפדיה, Beny Shlevich Volland
في شهر يونيو من كل عام، تقودنا أقدامنا إلى الميدان، للسير بين الأكشاك المحملة بالكتب. أسبوع الكتاب في القُدس، 2005 | بيني شليفيتش فولاند، ويكيبيديا

ما قبل الثّورة
خلال آلاف السّنين، منذ اختراع الكتابة المسماريّة في سومر القديمة، قبل أكثر من خمسة آلاف عام، بحث البشر عن طُرق لنسخ النّصوص المكتوبة ولكن دون جدوى - كانت الحواجز التّكنولوجيّة كبيرة جدًّا. في العصور الوسطى، أمضى رُهبان كاثوليكيّون أيّامهم في نسخ الكتابات القديمة من أجل الحفاظ عليها - وهي حِرفة صعبة و مُستنزِفة من النّسخ اليدويّ للوثائق والكُتب. كانت عمليّة النّسخ تستغرق وقتًا طويلًا، وكانت كلّ نسخة مختلفة عن سابقتها بسبب الأخطاء، التّفسير الشّخصيّ والرّقابة الدّينيّة.

العقبة الأولى الّتي توجّب تخطّيها هي المادّة الخام الأساسيّة - السّطح الّذي تمّت الكتابة عليه. في العُصور القديمة، كان ورق البردي يُستخدم بشكل أساسيّ للكتابة والقراءة - وهي أوراق مُسطّحة مصنوعة من نبات السُّعد. تمّ اختراع ورق البردي في مصر ونُقل الى جميع أنحاء الشّرق الأوسط وأوروبا، حيث تمّ استخدامه لصُنع مخطوطات وأسفار، وهي أوراق مُجتمعة معًا شكّلت الصّورة الأولى للكتاب.

كان ورق البردي مادّة غير مكلفة وسهلة الاستخدام إلى حدّ ما، ولكن كان له عيْبان: كان حسّاسًا للرّطوبة وبالتّالي لم يتمّ حفظه جيّدًا في المناخ الأوروبّيّ المعتِدل، وكان يتعيّن استيراده من مصر، حيث أنّ السّعد البردي (Cyperus papyrus) منتشر بشكل كبير في شمال أفريقيا وبلادنا. عندما انهارت الإمبراطوريّة الرّومانية الغربيّة في القرن الخامس ميلاديّ، توقّف توريد ورق البردى إلى أوروبا بالكامل تقريبًا. وبالتّالي، بدأت أوروبا تدريجيّاً باستعمال مادة خام أغلى ثمناً - البرشمان المصنوع من جُلود الحيوانات المُعالجة مثل الخروف، الماعز و العجل. على الرّغم من أنّ البرشمان كان متينًا للغاية وقابلًا لإعادة الاستخدام، إلّا أنّه من الصّعب الحصول على جلود الحيوانات كمادّة خام، مقارنة بالنّباتات، بالإضافة إلى أنّ معالجتها في المخطوطات ليست بعمليّة بسيطة.

من أجل تمكين الإنتاج الضّخم للكُتب، كانت هناك حاجة إلى مادّة أرخص وأسهل للإنتاج: الورق. من الشّائع عزو اختراع الورق إلى المخطّط الصّينيّ تساي لون حوالي عام 105 بعد الميلاد، ولكن فقط خلال القرن الثّالث عشر وصل الورق إلى أوروبا عبر العالم الإسلاميّ. لصنع الورق، تمّ استخدام عجينة من ألياف السّليولوز النّاتجة من بقايا أنسجة ونباتات، ممزوجة بالماء أو بمُذيب آخر وبمادّة لزجة كالصّمغ. في الأصل، تمّ غمس إطارات خشبيّة بالعجينة، بعد شدّ شبكة تصفية كثيفة، وتمّ السّماح للرّواسب بالجفاف على شكل صفيحة رقيقة. وبالتّالي تمّكن أسلافنا من إنتاج العديد من الصّفحات بتكلفة لا تتجاوز سدس سعر ورقة برشمان واحدة. اليوم، أصبحت العمليّة أكثر تعقيدًا وسُرعة، لكنّها لا تزال مشابهة بشكل كبير لما اعتادوا فعله في الماضي.

صعوبة أخرى كانت الحِبر، الذي كان عادةً رقيقًا ومائيًّا، وبالتّالي كان من السّهل تلطيخه إذا ما نُقِل إلى الورق بطرق أكثر تعقيدًا من الكتابة اليدويّة. في النّهاية كان من الضّروريّ إيجاد تقنيّة فعّالة لنسخ النّصّ نفسه. في وقت مُبكّر من القرن الخامس ميلاديّ، طوّرت الصّين طريقة لنسخ اللّوحات المحفورة على منقوشات خشبيّة والمُغطّاة بالحِبر، وبالتّالي نُقلت صورة معكوسة للنّقش إلى ورقة ملحقة بها من أعلى. كانت هذه فكرة رائعة شكّلت أساس الطّباعة الحديثة، لكنّكم لن تكونوا لتنجحوا في طباعة صحيفة يوميّة هكذا.

אדם מדגים הכנה מסורתית של נייר ביפן | Mint Images, Science Photo Library
في الأصل، تم غمس الإطارات الخشبية في العجين، حيث تم شد شبكة ترشيح كثيفة، والسماح للرواسب بالتّجفُّف على شكل صفيحة رقيقة. رجل يوضح طريقة تحضير الورق التقليدية في اليابان | صور مينت، مكتبة الصور العلمية.
 
مطبعة جوتنبرج
كان من كسر كلّ هذه العقبات هو المُخترع الألمانيّ يوهانس (يوهان) جينسلايش زور لادن تسوم جوتنبرج، الّذي طّور أوّل مطبعة في منتصف القرن الخامس عشر. يبدو أنّ جوتنبرج درس صياغة الذّهب والنقّش على الحديد في شبابه. تبيّن أنّ الخبرة الّتي اكتسبها في العمل مع السّبائك المعدنيّة كانت مفتاح المشكلة الّتي لم يتمّ حلّها: كيف يمكن إنشاء آلة تقوم بنسخ أيّ نصّ في العالم؟

كانت الفكرة الرّئيسيّة لجوتنبرج هي تقسيم الكلمات إلى حروف وإنشاء العديد من الأنماط المُتطابقة لكلّ حرف - بما يكفي لملء مستطيل بحجم ورقة. في البداية صنع قوالب خشبيّة ، لكنّها سرعان ما تآكلت وتمّ استبدالها بسبيكة من الرّصاص، الأنتيمون، والقصدير الّتي طوّرها بنفسه. كانت هذه الحروف هي الخطوط الطّباعية الأولى في التّاريخ، وقد صُمّمت لتُحاكي الحُروف المكتوبة. عند وضعها بالتّرتيب الصّحيح على الورق وربطها بإِحكام حتّى لا تتحرّك وتُلطِّخ الحِبر، تنتُج صورة مرآة للصّفحة التي نُريد طباعتها.

المُشكلة التّالية التي كان عليه حلّها هي كيفيّة نقل المُحتوى إلى ورقة. تحقيقًا لهذه الغاية، تبنّى اختراعًا من مجال علم الخُمور: معصرة العنب الّتي كانت تستخدم لتقسيم الفاكهة واستخراج عصير العنب منها.  كان للمعصرة مقبض متّصل بمسمار، والّذي من خلاله قام المُستخدِم بتثبيت الجهاز من الأعلى إلى الأسفل بطريقة تُؤدّي الى ضغط موحّد على كلّ نقطة. أدرك جوتنبرج أنّه في حال وضع نقش الحروف في الجهة السّفلى، ووضع طبقة رقيقة من الحبّ عليها ومن ثمّ ترك المعصرة لتقوم بالضّغط على ورقة تُوضع فوق النّقش، فسوف يتمّ نقل النّصّ بالكامل إلى الصّفحة. وبالتّالي، في عمليّة سريعة إلى حدّ ما، يُمكن طباعة المزيد والمزيد من النّسخ المتطابقة من الصّفحة.

تمّ اكتشاف مشكلة جديدة في هذه المرحلة: كان الحبر المُستخدم للكتابة على الورق هو حبر خفيف قائم على الماء. اِختبر جوتنبرج العديد من أنواع الحبر بحثًا عن مادّة سميكة وطويلة الأمد لتلتصق بسهولة بالورق ولا تتلاشى فيما بعد. كان الحلّ على شكل حبر زيتيّ يتكوّن من خليط من الرّصاص، التّيتانيوم، الكبريت، السّخام ، وزيت بذور الكتّان. بعد اختيار النّوع الأنسب من الورق، أُنجزت المَهمّة.

ציור משנת 1568 של מכבש דפוס מעץ, בעל הספק של עד 240 דפים בשעה | ויקיפדיה, אמן: יוסט אמאן (Amman)
اعتمد جوتنبرج اختراعًا من مجال علم الخمور - معصرة العنب التي كانت تستخدم لسحق الفاكهة. لوحة من عام 1568 لمطبعة خشبية، تصل سعتها إلى 240 صفحة في الساعة | ويكيبيديا، فنّان: يوست أمّان

تضمّنت المحاولات الأولى العديد من الأعمال القصيرة بالإضافة إلى كتابات الغُفران الكَنسيّ. في الوقت نفسه، تولّى جوتنبرج مهمّة طموحة الّتي أوضحت فعاليّة الاختراع الجديد: في عام 1455 أنهى طباعة ما يُقارب ال 180 نسخة من الكتاب المُقدّس - العهد الجديد والقديم - باللّاتينيّة، والّذي سُمّي فيما بعد "إنجيل جوتنبرج". كان هذا إنجازًا مذهلًا، لأنّ كتابة نسخة واحدة من الكتاب المقدّس كانت تتطلّب أكثر من عام من العمل على يد خطّاط ماهر.

اِنتشرت التّكنولوجيا الجديدة بسرعة في أوروبا، لكن جوتنبرج نفسه لم يستمتع بثمار النّجاح، فقد طالب يوهان بوست - المُستثمر الرّئيسيّ في مشروع الطّباعة - باستعادة أمواله،  ممّا أدّى إلى إعلان إفلاس جوتنبرج، وعاش سنواته الأخيرة بشكل متواضع باعتباره ربيبًا للأسقف أدولف فون ناسو، حتّى وفاته عام 1468.

אחד מ-59 העותקים של תנ"ך גוטנברג ששרדו עד ימינו, בספריית הקונגרס של ארה"ב | ויקיפדיה, צילום: מרק פלגריני
في عام 1455 أنهى جوتنبرج طباعة حوالي 180 نسخة من العهدين الجديد والقديم باللاتينية. إحدى النسخ الـ 59 الباقية من إنجيل جوتنبرج في مكتبة الكونغرس الأمريكية | ويكيبيديا، تصوير: مارك بيليجريني.

بداية ثورة
يُعتبر اختراع المطبعة نقطة تحوّل رئيسيّة في تطوّر الثّقافة الإنسانيّة، حتّى أنّ الكثيرين يشيرون إليها على أنّها نقطة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. في عام 1997 اختارت مجلة تايم لايف الطّباعة على أنّها أفضل اختراع في الألفيّة الثّانية بعد الميلاد. في الواقع، ربّما لم تخلُ أيّة بنية اجتماعيّة تقريبًا من بصمات هذا الاختراع، فالكتب ليست مجرّد مجموعة من الصّفحات والكلمات - هي مساحة للأفكار، والأفكار هي القوّة الدّافعة للتّغيير.

من المُغري أن ننسب إلى الطّباعة كلّ ما أعقب ذلك من تغييرات سياسيّة، دينيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة، علميّة وثقافيّة. الواقع - كالعادة - أكثر تعقيدًا بكثير. لقد لعبت الطّباعة دورًا مهمًّا في العديد من العمليّات الّتي حدثت في أوروبا والعالم بدءًا من منتصف القرن الخامس عشر فصاعدًا، ولكن عند مناقشة العمليّات التاريخيّة، من المستحيل عزل عامل واحد وتجاهل العوامل  الأخرى المُؤثّرة التي تحدث بالتّوازي. بناءً على ذلك، لا توجد عمليّة تغيير واحدة الّتي من الممكن أن تُعزى حصريًّا إلى الطّباعة، ولكن يمكن بالتّأكيد رؤية آثارها في العديد من العمليّات على مرّ التّاريخ.

 יוהן גוטנברג | ויקיפדיה, אמן לא ידוע מהמאה ה-15
يعتبر اختراع الطباعة نقطة تحول رئيسية في تطور الثقافة الإنسانية. يوهان جوتنبرج | ويكيبيديا، فنان غير معروف من القرن الخامس عشر.

الإصلاح
في العصور الوُسطى في أوروبا، كان للكنيسة الكاثوليكية قوة سياسيّة، اقتصاديّة ودينيّة لا مثيل لها، ولكن في مُنتصف الألفيّة الثّانية بدأت هذه السّيطرة بالإندثار. أدّى نُمو الطّبقة الوسطى والبرجوازية، بتأثير الوباء الأسود في القرن الرابع عشر من بين أمور أخرى، إلى العديد من التّغييرات في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية وإلى التّمدّن، ونمو الطبقة المتعلمة والقُوى المركزية للمُلوك السّاعين لإضعاف مراكز القُوى المُنافسة. في الوقت نفسه، تطوّر تيّار في الكنيسة الذي دعا إلى إصلاحات هيكليّة، والقضاء على الفساد الذي عم الكنيسة.

كانت هذه الخلفيّة أرضًا خصبة لتغيير كبير، ولكن كانت لا تزال هناك حاجة إلى دافع لقيادته. لم يكن هذا الزّناد موجودًا بدون الطّباعة، وبدون استخدامها من قبل القس الألماني مارتن لوثر.

في 31 أكتوبر 1517، علّق لوثر صفحة على أبواب كنيسته في فيتنبرغ تحتوي على 95 اتهامًا ضد سياسات الكنيسة الكاثوليكية، وخاصة ضد الاستخدام الساخر الذي قام به قادتها في بيع صُكوك الغُفران مقابل المال. بالإضافة، فانّه دعا الى الإيمان البسيط، غير الوسيط ، على غرار العديد من الإصلاحيين قبله. ولكن على عكس أسلافه، تمكّن لوثر من توزيع وثيقة التأسيس في نسخ مطبوعة وصلت إلى جميع أنحاء ألمانيا.

كان القصد من وثيقة "ال 95 أُطروحة" الأصليّة إثارة نقاش داخلي داخل الكنيسة الكاثوليكيّة، وبالتالي تمت كتابتها بالّلغة اللّاتينية، وهي اللغة التي كان يستعملها أعضاء الكنيسة، والتي تمت كتابة جزء كبير من الكتاب المقدس بها. كان لوثر قد كتب مقالاته الثلاث التّالية، والتي نُشرت عام 1520، باللغة الألمانية العامية، بهدف نشر أفكاره بين عموم الجّماهير. رد البابا بإدانة علنيّة، أحرق لوثر خطاب الإدانة وازدادت شعبيته، حيث تم توزيع كتاباته المطبوعة بآلاف النسخ.

كجزء من رغبته في إعادة ربط الإيمان بالفرد وإلغاء الوساطة الفاسدة للمؤسسة الكنسيّة، اتّخذ لوثر خطوة ثورية أخرى - فقد ترجم الكتاب المقدس من اليونانية إلى الألمانيّة، وجعل الكتاب المقدس متاحًا لعامة الناس لأول مرة في التّاريخ.

توفي لوثر عام 1546، لكن المطابع كانت قد نشرت أفكاره اللاهوتية في جميع أنحاء ألمانيا،  وانتشرت منها إلى دول أوروبية أخرى، مثل فرنسا والدول الاسكندنافية. بحلول الوقت الذي تغيّرت فيه سياسة الكنيسة الكاثوليكية أخيرًا وقادت إصلاحًا كبيرًا، كانت الخيول قد فرّت من الإسطبل. كان الانقسام في المسيحية الأوروبية أمرًا واقعًا.

מרטין לותר לצד מסמך מודפס של 95 התזות | ויקיפדיה, צייר: Lucas Cranach the Elder
قامت المطابع بتوزيع أفكار لوثر اللاهوتية على نطاق واسع في جميع أنحاء ألمانيا ومن هناك إلى دول أخرى. مارتن لوثر بجانب وثيقة مطبوعة مكونة من 95 أطروحة | ويكيبيديا ، الرّسام: لوكاس كراناش الأكبر
 
معرفة القراءة والكتابة
عبر التّاريخ، كانت هناك اختلافات ملحوظة في مستوى معرفة القراءة والكتابة  في الثّقافات المُختلفة، وفي نفس الثقافة احيانا. مقارنة بالعديد من المجتمعات التي لم يكن يعرف فيها كيفية قراءة النصوص المكتوبة سوى أفراد معدودين، كانت هناك نخبة كبيرة مُتعلمة في مجتمعات أخرى، وفي بعض الأحيان انتشرت المعرفة إلى مِهن معينة وطبقات أخرى أيضًا.

يبدو على سبيل المثال، أنه في نهاية أيام الجُمهوريّة الرّومانية وبداية أيام الإمبراطورية كان مُعدل معرفة القراءة والكتابة في روما مرتفعًا للغاية، على الرغم من وجود جدل حول نسبة المُطالعة. تتراوح التقديرات من عشرة بالمائة في الثقافة اليونانية- الرومانية إلى محو الأمية شبه الكامل في روما نفسها وفقًا لدراسة أجريت عام 2000. رُبّما يكون التّقدير الأخير مبالغًا ، لكن من الواضح أن روما استخدمت الكتابة على نطاق واسع للأغراض الإدارية، التجارة، التوثيق القانوني وغير ذلك، في ظل وجود نظام تعليمي مكثّف تموله الدولة يهتم بمحو الاميّة، من بين أمور أخرى.

في العصور الوسطى بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، تراجعت معرفة القراءة والكتابة في أوروبا بشكل كبير واقتصرت على طبقة ضيقة، وخاصة الكهنة والرهبان الذين توسّطوا في نقل الكتب المقدسة المسيحية لعامة الناس. في كثير من الحالات، قدّمت الكنيسة أيضًا الخطّاطين الذين أداروا البيروقراطية الحكومية في الممالك والإمارات في تلك الفترة - وهي حرفة لم تتطلّب الكثير من القوى العاملة في الوضع السياسي آنذاك، حيث لا توجد حكومة مركزية ذات أنظمة واسعة للقانون والتجارة. عائق كبير أمام محو الأمية  يكمن أيضًا في الاعتماد شبه الكامل على اللاتينية في معظم النصوص المكتوبة.

بدأت زيادة ملحوظة لمحو الأميّة في أوروبا مع انتشار تكنولوجيا صناعة الورق، والتي وفّرت المواد الخام للكتابة عليها.  لكن القفزة الكبيرة حقًا جاءت في أعقاب الطّباعة، وخاصة بسبب حركة الإصلاح التي سمحت بها. كان أحد المبادئ العملية الأساسية للمسيحية البروتستانتية في القرن السادس عشر هو أن يقرأ كل مسيحي الكتاب المقدس بنفسه، حيث اعتبرت البروتستانتية أن هذا مصدر العقيدة المسيحية بأكملها. في أعقاب ذلك، دفع القادة البروتستانتانيّيون لفتح المدارس وترجمة الكتب المقدسة اللاتينية إلى اللغات المحلية. وفعلا، بدأت القراءة والكتابة بالانتشار بشكل خاص في الدّول البروتستانتية، وببطء أكثر في الدّول الكاثوليكية. في الدول الإسكندنافية البروتستانتية في شمال أوروبا على سبيل المثال، وصلت معرفة القراءة والكتابة إلى أوجها في وقت مبكر من القرن السابع عشر.

لم تكن الطّباعة وحدها شرطًا ضروريًا لتطوير مجتمع متعلّم، حيث كان التّعليم موجودًا بالفعل في العصور القديمة. كما أنه لم يكن شرطًا حصريًا - فهناك حاجة إلى مزيد من التغييرات الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى للسماح لمهارات القراءة والكتابة بالانتشار، بما في ذلك نمو أنظمة التعليم التي تمولها الدولة، الثورة الصناعية التي تتطلب المزيد والمزيد من المهنيين الخبراء، نمو الصحافة، وأكثر. في عام 1820، كان 12 في المائة فقط من سكان العالم يعرفون القراءة والكتابة، وفي عام 2016 كان واحد من كل سبعة أشخاص في العالم أميًا. ومع ذلك، هناك اتفاق واسع النطاق على أن الطباعة قد ساهمت بشكل كبير في هذه العملية.

מכבש דפוס של עיתון מהמאה ה-19 | Collection Abecasis, Science Photo Library
لم تكن الطباعة وحدها شرطًا ضروريًا لتنمية مجتمع متعلم، إلا أن هناك إجماع عام على أنها قدمت مساهمة حاسمة في هذه العملية. مطبعة جريدة من القرن التاسع عشر | مجموعة ابيكاسيس، مكتبة الصور العلمية.

التّعليم 
كانت النتيجة الفورية لنمو المطبوعات كميّة - كان هناك عدد أكبر من الكتب. إذا قُدّر في القرن الخامس عشر أن هناك حوالي 12 مليون كتاب في أوروبا بأكملها، فبعد مائة عام قفز عددها إلى 200 مليون، وفي القرن السابع عشر كان هناك ما يقارب النصف مليار كتاب، وفي القرن الثامن عشر في أوروبا تجاوزت الكتب المليار. كما انخفضت أسعارها تبعا لذلك. في أواخر العصور الوسطى، كانت تكلفة نسخة مكتوبة بخط اليد من الكتاب المقدس تساوي ست سنوات عمل لعامل بسيط. في عام 1687، كان سعر كتاب الرائد "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" لإسحاق نيوتن، ستة شلنات فقط، وهو مبلغ ليس ببسيط، ولكنه في متناول أشخاص من الطبقة المتوسطة العليا وما فوقها.

عندما تكون طالبًا يسعى للحصول على تعليم، يتوجّب عليك الحصول على الكتب - إذا لم يكن بشكل خاص، فمن خلال مكتبة الجامعة. كان العرض المتزايد للكتب أحد العوامل التي مكّنت من فتح جامعات جديدة في جميع أنحاء أوروبا وإتاحة المعرفة لعدد متزايد من السكان.

أدى هذا النمط أيضًا إلى تغيير فيما يتعلق بالكتب. طالما أن كل كتاب هو عمل نادر وقيِّم، فمن المهم جدا نسخ الكلاسيكيات النادرة من أجل الحفاظ على المعلومات الكامنة بها. ومن هنا جاء التركيز الكبير على الحفاظ على الماضي، والذي ارتبط بشكل كبير بالإعجاب الذي ساد في العصور الوسطى بالفلاسفة الكلاسيكيين مثل أرسطو وأفلاطون. حلّت الطّباعة هذه الصعوبة وفتحت الباب لاتجاه جديد كان آخذ بالتّطور في ذلك الوقت في إيطاليا: روح الابتكار التي جلبها عصر النهضة.

أدى الانفتاح على الابتكارات من جهة، والتكنولوجيا التي تسمح بنشرها من جهة أخرى في غضون بضعة عقود إلى كسر القوانين العلمية والفلسفيّة التي بالكاد تغيرت منذ أيام أرسطو. في عام 1543، نُشر كتاب نيكولاس كوبرنيكوس "عن الحركة الدورانية للأجرام السماوية"، والذي يعتبر رائدًا للطريقة العلمية. كان الكتاب الأول الذي يناقض "نموذج مركزية الأرض" في النظام الشمسي، والذي يرى أن جميع الكواكب تدور حول الأرض. بعد بضعة عقود، قام جاليليو جاليلي بتثبيت المسامير النهائية في خزانة التصوّر العلمي القديم. من الصعب تصديق أن أفكار كوبرنيكوس الثورية كانت ستنتشر بنفس النجاح في حال كُتبت بخط اليد.

פסל בדמותו של ניוטון לצד העותק שלו של פרינקיפיה מתמטיקה, בספריית טריניטי קולג' בקיימברידג' | Simon Marsden, Science Photo Library
في عام 1687، كان سعر كتاب إسحاق نيوتن الرائد " الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية" ستة شلنات فقط. تمثال لنيوتن بجوار نسخة الكتاب في مكتبة ترينتي كوليج في كامبريدج | سايمون مارسدن، مكتبة الصور العلمية.

أفكار جديدة
كما بدأت أفكار أخرى في الظهور في هذا الواقع الجديد للمعلومات المتاحة. علاقة معظمها بالطباعة غير مباشرة، لكن هناك علاقة مثيرة للاهتمام بين الطباعة والقوميّة.

عادة ما كانت الكتب التي سبقت عصر الطباعة في أوروبا تُكتب باللغات الكلاسيكية - وخاصة اللاتينية واليونانية. كان الأدب المطبوع مختلفًا، وللمرة الأولى أعطى التّعبير والشرعية للغات المحلية. كانت إحدى النتائج هي المساهمة في عودة ظهور الهويات العرقية والقومية في أوروبا. أدى وجود المزيد والمزيد من الأعمال باللغة المحلية إلى تعزيز الفخر الوطني وأدى في النهاية، إلى جانب عوامل أخرى، إلى نمو الدول القومية في القرن التاسع عشر.

بشكل غير مباشر، يمكن للمرء تحديد الروابط بين الطّباعة والعديد من الحركات السياسية في القرون الماضية: الديمقراطية التي تعتمد جزئيًا على وجود الصحافة الحرة؛ الشيوعية التي نشأت بشكل أساسي من كتاب - البيان الشيوعي لكارل ماركس؛ النظام المُطلق في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي كان بحاجة إلى قدرة فعالة لنشر أوامر الملك، واكثر.

سمحت الطّباعة للأفكار السياسية بالانتشار، وسمحت للعلماء بمشاركة اكتشافاتهم ونظرياتهم مع زملائهم، وأنتجت بشكل غير مباشر مجالات جديدة من المعرفة وتركت بصماتها على كل مجال من مجالات حياتنا تقريبًا. صحيح أنه من الصعب تحديد النّقاط الدقيقة التي أدّت إلى التّغييرات، لكن وجودها واضح جدًا وأساسي لدرجة تجعل من المستحيل وصف عالمنا اليوم بلا الكتاب المطبوع.

 

0 تعليقات