لا يزال العلم يواجه صعوبة في تفسير كيف لشخصين تناولا ذات الطعام أن يشعرا بطعمَين مختلفَين تمامًا
هل تعرفون أشخاصًا يصعب إرضاء أذواقهم في الطعام؟ هل أنتم أيضًا كذلك؟ قد يكون ذلك بسبب وجود فوارق بين الأشخاص في حاسة التذوق. فكثيرًا ما يتذوق شخصان ذات الطعام لكنها يشعران به بطريقتَين مختلفتَين تمامًا - فقد يشعر أحدهما بالحموضة والآخر بالمرارة. لماذا يحصل ذلك؟
عندما نتناول الطعام يتم تنشيط عدد من المُستقبلات في الفم وحوله - المُستقبلات هي عبارة عن بروتينات عندما ترتبط بها مواد من الأطعمة المختلفة تقوم بتنشيط عمليات معينة في الخلايا، وفي النتيجة نشعر بالطعم. هناك عدة فرضيات حول ما يحصل بعد أن تستجيب مُستقبلات التذوق لجزيء الغذاء الذي يرتبط بها. تشير أبرز هذه الفرضيات إلى أنه نتيجة هذا اللقاء، تُرسل الخلية العصبية (العَصَبُون) المرتبطة بالمُستقبلات إشاراتٍ إلى خلايا الدماغ المسؤولة عن استقبال الإشارات القادمة من مُستقبلات معينة. من هناك، تستمر الإشارة وتنتقل إلى الخلايا الموجودة في أسفل المنطقة الحسيّة لقشرة الدماغ، المسؤولة عن حاسة التذوق. يلتقط الدماغ كل الإشارات القادمة إليه من مُستقبِلات التذوق ويترجم المعلومات إلى نكهات نعرفها مسبقًا. تُعتبر هذه الفرضية منطقية، لكن هناك فرضياتٌ أخرى حول كيفية تحديد الطعم بشكلٍ دقيق.
على الرغم من ارتباط حاسة التذوق بالفم في المقام الأول، فهناك مُستقبلات شبيهة موجودة أيضًا في الكلى، الدماغ، الأمعاء، وحتى الخصيتين. مع ذلك، لا علاقة لهذه المُستقبلات بمعالجة الشعور بطعم الغذاء الذي نتناوله، إنما تراقب مستويات الأملاح أو السكريات في العضو الموجودة فيه.
تستجيب مُستقبلات الطعم الحلو في الأساس للسكريات البسيطة. صبيّ يتذوق العسل | تصوير: Phovoir, Shutterstock
ما هي النكهة؟
يُعرَِف العلم خمس نكهات، ومنذ عقود عديدة تم تحديد المُستقبلات المسؤولة عن أربعة أنواع مختلفة من النكهات: الطعم الحلو، المالح، المر، والأومامي (نكهة البروتين). تستجيب مُستقبلات الطعم الحلو في الأساس للسكريات البسيطة، فيما تستجيب مستقبلات النكهة المُرَّة لمجموعة متنوعة من المواد، ومُستقبلات الأومامي ينشطّها حمض الجلوتاميك الشائع في مأكولات اللحوم الغنية بالبروتينات. إضافة إلى ذلك، تستجيب مستقبلات الطعم المالح لمعادن معينة، مثل الصوديوم والكالسيوم. ولكن خلافًا لهذه النكهات، التي تعتمد على تحديد جزيئات معينة، فإنَّ الطعم الحامض أكثر تعقيدًا، وهو مرتبط بالعمليات الكيميائية التي تحدث بين الأحماض والقواعد. لا تزال المعلومات حول هذا الموضوع محدودة جدا، ولا يزال الباحثون يحاولون فهم الآلية المسؤولة عن الطعم الحامض. كما أنّ هناك نظرية أخرى تذكر أننا نشعر بنكهة الماء بواسطة الآلية المسؤولة عن الطعم الحامض.
هناكَ العديد من الفرضيات المتعلقة بالأسباب التي أدت إلى تطوير القدرة على الشعور بالطعم الحامض. هناكَ على سبيل المثال من يعتقد أن حاسة الطعم الحامض تطورت أثناء عملية التطور (Evolution) بفضل الأفضلية التي منحتها للإنسان القديم، الذي استهلك بفضلها أغذية غنية بالفيتامين ج، مثل الحمضيات. احتمال آخر هو أنَّ الحموضة تُستخدم للتحذير من تواجد الأحماض بنسبة مفرطة في الأطعمة غير الناضجة أو في الأطعمة التي بدأت بالتعفن. وبشكل مشابه، الإحساس بالطعم المر هو علامة تحذيرية على أن الطعام قد يكون فاسدًا أو سامًّا.
قد تكون القدرة على تمييز الطعم الحامض متأثرة بمُستقبلات حساسة للارتفاع في مستوى الحموضة. مع ذلك، ليس من الضروري أن يُترجَم مستوى الحموضة العالي في الفم إلى طعم حامض. فالباحثون يخمّنون أنَّ هناك الكثير من العوامل التي قد تؤثر على الإحساس بالطعم الحامض، مثل نوع الحِمض وتركيزه في الفم. تتأثر النكهات الأخرى أيضًا بالعديد من العوامل. وهذا التعقيد يُمكن أنّ يُفسِّر سبب تفضيلات الطعام لدى الناس. حتى عند الأشخاص من ثقافة الطبخ نفسها تختلف التفضيلات بين شخص وآخر.
ولكن خلافًا للنكهات الخمس المذكورة آنفًا، ليس الطعم الحار معرّفًا كنكهة. والسبب هو لأنه ينشط بواسطة مُستقبلات حرارية، وظيفتها التحذير من الحروق. إحدى هذه المواد التي تقوم بتنشيط الشعور بالطعم الحار الموجود في الفم هي مادة الكابسيسين (Capsaicin)، الموجودة بشكل خاص في الفلفل الحار (لحرّيف).
يشعر "المُتذوقون الخارقون" بالنكهات بقوة أكبر. في الصورة: امرأة تتعرف على الطعم "الحامض" | تصوير: Charles D. Winters / Science Photo Library
اختبار التذوق
وجد الباحثون في الماضي جينًا قد يُحدد أية أطعمة نفضل تناولها. هذا الجين مسؤول عن مجموعة من مُستقبلات الطعم المر، وهو يظهر بعدة هيئات، تختلف عن بعضها البعض فقط في بضعة أحماض نووية. إحدى الطرق التي تساعد على تحديد التغييرات في الجين هي إجراء اختبار التذوق القائم على تذوق مادة ذات طعم مر. لدى بعض الأشخاص، الذين تؤدي جيناتهم إلى تكوين مُستقبلات ذات مبنى مختلف بعض الشيء عن باقي الناس، يتمّ الشعور بالمرارة بشكلٍ أقوى بكثير. يتم تعريف هؤلاء الأشخاص بشكل عام بأنهم "مُتذوقون خارقون"، حيث تتذوق غالبيتهم النكهات الأخرى أيضًا، مثل الحلاوة أو الملوحة، بقوة شديدة. بالمقابل، هناكَ أشخاص لديهم مبنى آخر للجين نفسه يؤدي إلى إنتاج مُستقبلات بالكاد تشعر بالنكهات القوية. بالتالي تكون حاسة التذوق لديهم أضعف من المعتاد.
دراسة أُجريت في إيطاليا، صُنِّف المشاركون وفق اختبار التذوق التمهيدي. لكن ما أثار اهتمام الباحثين هو تركيبة البكتيريا الموجودة على اللسان. أراد الباحثون أن يفحصوا إذا كانت البكتيريا، إضافة إلى الاختلافات في الجينات، تُملي على الجسم كيفية تحديد النكهات. أظهرت العينات المأخوذة من ألسنة المشتركين في الاختبار أن تركيبة البكتيريا عند الغالبية متشابهة جدًّا. مع ذلك، كانت مجموعات بكتيرية معينة أكثر شيوعًا من غيرها لدى "المُتذوقين الخارقين" مقارنة بذوي الحساسية الأقل للنكهات.
لم تُبحَث العلاقة بين حاسة التذوق والبكتيريا الموجودة في تجويف الفم بشكل كافٍ. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت هذه العلاقة بجذب المزيد من الاهتمام. يُحتمَل أن البكتيريا تلعب دورًا مهمًّا في النكهات التي نشعر بها. ولكن حتى لو كان هذا هو الحال، فليس من الواضح بعد ما هو هذا الدور بالضبط.
تساهم حاسة الشم أيضًا في معالجة النكهات. نظام الشمّ والتذوق | صورة توضيحيّة: Jose Antonio Penas / Science Photo Library
لا تقتصر قدرة حاسة التذوق على معالجة النكهات بواسطة مُستقبلات التذوق فقط، بل يبدو أنَّ حاسة الشمّ تساهم أيضًا بشكل فاعل في معالجة النكهات في الدماغ. فالأشخاص الذين يعانون من مشاكل في حاسة الشمّ - على سبيل المثال بسبب التدخين، الحساسيات، أو الأمراض المزمنة - قد يشعرون بالنكهات بشكلٍ مختلف عن الآخرين. فالمنطقتان في الدماغ اللتان تُعالَج فيهما حاسّتا الشمّ والتذوق قريبتان جدًّا إحداهما من الأخرى، لذلك من المحتمل جدًّا أن تكون هناك علاقات بيولوجية متبادلة بينهما.
ثمة ظاهرة إضافية مثيرة للاهتمام تتعلق بحاسة التذوق هي الإحساس الغريب الذي نشعر به عند تناول حبوب السينسيبالوم دولسيفيكوم (Synsepalum dulcificum)، المعروفة باسم "الفاكهة المعجزة". تكمن المُعجزة في أنّه بعد تناول هذه الفاكهة، التي تعود أصولها الى غرب أفريقيا، نشعر بكل طعمٍ حامض كما لو كان حلوًا. فالبروتين الذي يُدعى ميراكولين (Miraculin)، الموجود في هذه الفاكهة، يرتبط في الفم بمُستقبلات الطعم الحامض ويقوم بحجبها. بموازاة ذلك، يدفع هذا البروتين مُستقبلات الطعم الحلو إلى الشعور بالحوامض كما لو كانت سكريات.
في جميع الأحوال، يبدو أنَّ مُستقبلات التذوق في أفواهنا أكثر تعقيدًا وتركيبًا مما كنا نعتقد، وأنه ما زال لدينا الكثير لنتعلمه حول كيفية عمل هذه الحاسة، بدءًا من المُستقبلات الموجودة في الفم وصولًا إلى عملية معالجة الإشارات في الدماغ. حتى الاختلافات الصغيرة في أيٍّ من مركبات حاسة التذوق قد تجعل أشخاصًا يأكلون نفس الطعام يشعرون بمذاقٍ مختلفٍ للغاية. لا تزال طريق العِلم طويلة قبل أن نعرف حقًا سبب تفضيلاتنا الغذائية المختلفة. يبدو حقًّا أنّ للناس إحساسًا مختلفا بالطعم، وربما بالرائحة أيضًا.