أداة أساسيّة للحفاظ على صحّتنا أو مشكلة جديّة؟ أم الأمران معًا؟ ما هو الالتهاب، وما الّذي يمكن فعله عندما يخرج عن السّيطرة؟
يرافقنا الالتهاب طوال حياتنا. في الواقع، الالتهاب شائع جدًّا لدرجة أنَّه في اللّغة العامّيّة أصبح تقريبًا مرادفًا للمرض، فهناك التهاب المفاصل، التهاب المسالك البوليّة، التهابات الجلد، الرّئة، الكبد، الأمعاء وغيرها الكثير. يوصف الالتهاب دائمًا بأنّه شيء مشتعل، أحمر وسيّء، لكن كيف يمكن أن يكون الالتهاب أحيانًا أمرًا جيّدًا؟
مع ذلك، فالالتهاب ليس "مرضًا"، ليس بالضّبط!. بشكل عامّ، الالتهاب عبارة عن ردّ فعل للجهاز المناعيّ، يهدف إلى حماية الجسم من العوامل الخارجيّة. قد يحدث ردّ الفعل نتيجة التّعرّض لبكتيريا، لفيروس أو لطفيليّ، ولكن أيضًا نتيجة لضرر جسديّ يصيب الأنسجة بسبب اختراق جسم غريب ودخوله للجسم- كالشّوكة مثلًا. على الرّغم من أنّنا نلاحظ الالتهاب فقط عندما يكون الجرح ملوَّثًا بالبكتيريا، من خلال ظهور الاحمرار والقيْح، إلّا أنَّ العمليّة الالتهابيّة تبدأ في الواقع قبل ذلك بكثير، عندما يحاول الجهاز المناعيّ محاربة الجسم المسبِّب الغريب الضّارّ.
تصل إلى المنطقة المتضرّرة بعد إفراز وسطاء الالتهاب وتساعد على شفاء الالتهاب. زيادة مستوى خلايا الدّم البيضاء في مجرى الدّم | Kateryna Kon, Science Photo Library
هكذا يحدث الأمر
قد تؤدّي العديد من العوامل إلى حدوث تفاعل التهابيّ في الجسم، من بينها التّعرّض للبكتيريا، الفيروسات أو الطّفيليّات، وكذلك اختراق حاجز الجلد الّذي يحمي جسمنا بعد خدش أو إصابة، والّتي من الممكن أن تعرّض الجرح بشكل غير مباشر للبكتيريا. ولكن أيضًا يمكن للعوامل الأخرى غير اليوميّة، مثل التّعرّض للإشعاع الضارّ أو الموادّ الكيميائيّة الخطرة أن تؤدّي إلى حدوث التهاب في الجسم.
تشمل الخصائص الرّئيسة للالتهاب: الاحمرار، سخونة موضعيّة في المنطقة الملتهبة، ارتفاع درجة حرارة الجسم، الألم والتّورّم. عندما يحدث التهاب في الجسم، تشارك العديد من خلايا الجهاز المناعيّ في العمليّة، بحيث تطلق موادّ مختلفة، تُسمَّى "وسطاء الالتهاب"، والّتي تشمل أيضًا هورمونات البراديكينين والهستامين، الّتي تمدّد الأوعية الدّمويّة الصّغيرة في الجسم، ما يسمح لمزيد من الدّم بالوصول إلى الأنسجة المصابة.
لهذا السّبب؛ تصبح المناطق الملتهبة حمراء وحرارتها مرتفعة. يسمح تدفّق الدّمّ المتزايد بوصول المزيد من خلايا الجهاز المناعيّ (خلايا الدّم البيضاء) إلى الأنسجة التّالفة، حيث تساعد في عمليّة الشّفاء. إضافة إلى ذلك، يحفّز هذان الهورمونان الأعصاب ويدفعان إرسال إشارات الألم إلى الدّماغ. الفرضيّة هي أنَّ للشّعور بالألم دورًا وقائيًّا: إذا كان الالتهاب مؤلمًا في العضو المصاب، فهذا يعني أنّه يجب عدم تعريضه للخطر أكثر.
هناك وظائف أخرى لوسطاء الالتهاب: تُسهِّل مرور خلايا الجهاز المناعيّ من جوانب الأوعية الدّمويّة الصغيرة، حتّى يتمكّن المزيد منها من الدّخول للأنسجة التّالفة. تتسبّب خلايا الجهاز المناعيّ أيضًا بدخول المزيد من السّوائل إلى الأنسجة الملتهبة، ما يسبّب تضخّمها غالبًا. إضافة إلى ذلك، تطلق الخلايا الموجودة في الأنسجة المخاطيّة المزيد من السّوائل في بيئتها، عندما يكون هناك التهاب. على سبيل المثال، يحدث هذا عندما يكون هناك انسداد في الأنف، وتهيّج في الأغشية المبطّنة للأنف. يمكن أن يساعد السّائل الزّائد في طرد الأجسام الضّارّة بسرعة من الجسم.
أحد أشكال الالتهاب هو الالتهاب المزمن المطوّل الّذي يسبّب الألم والتيبّس في المفاصل. التهاب المفصل الرّوماتويديّ، الصّورة: Pikovit, Science Photo Library
أنواع الالتهاب
هناك عدّة أنواع من الالتهابات، من بينها، الالتهاب الحادّ، يحدث الالتهاب الحادّ بسبب تلف الأنسجة نتيجة صدمة أو غزو بكتيريّ أو مسبّبات أمراض أخرى. يبدأ الالتهاب بسرعة، ويمكن أن يزداد سوءًا في وقت قصير، وقد تستمرّ أعراض الالتهاب لعدّة أيام.
بالمقابل، يعتبر الالتهاب المزمن، التهابًا بطيئًا وطويل الأمد، يتطوّر نتيجة عوامل خارجيّة أو داخليّة، ويتميّز بتراكم خلايا الجهاز المناعيّ وتنشيطها، وتلف أنسجة الجسم بسبب الاستجابة الالتهابيّة المطوّلة. وقد يستمرّ الالتهاب المطوّل لعدّة أشهر أو حتّى لسنوات، ويختلف نطاقه وآثاره حسب سبب الإصابة، وقدرة الجسم على إصلاح الضّرر. على الرّغم من تطوّر الالتهاب المزمن "الهادئ" دون صدمة مستمرّة، إلّا أنّه سببٌ لمعظم الأمراض المزمنة، ويُشكِّل تهديدًا كبيرًا على صحّة النّاس، جودة الحياة ومتوسّط عمر المصابين به.
على الرّغم من أنَّ الالتهابات هي أداة يتمثّل دورها في مساعدة الجسم، إلّا أنّها في بعض الأحيان تسبّب أضرارًا فعليّة. عندما يعمل الجهاز المناعيّ بشكل مستمرّ ومتواصِل، فيمكن لآثار نشاطه الجانبيّة أن تكون مدمّرة. وفي حالات أخرى، يؤدّي الإطلاق المستمرّ للموادّ الالتهابيّة إلى إتلاف أنسجة الجسم، وفي بعض الأحيان يمكن أن تساهم في تطوّر أمراض المناعة الذّاتيّة، حيث يهاجم الجهاز المناعيّ خلايا الجسم وأنسجته.
يعتبر الالتهاب المزمن مساهمًا مركزيًّا في تطوّر أمراض القلب، السّكّريّ وأمراض المناعة الذّاتيّة، مثل التهاب المفاصل الرّوماتويديّ، الحساسيّات وحتّى السّرطان.
من المهمّ أن ندرك أنَّ الالتهاب المزمن ليس مرضًا محدّدًا، ولكنّه عمليّة آليّة. الأمراض المصاحبة للالتهابات المزمنة متعدّدة، وتشمل أمراض القلب والأوعية الدّمويّة، السّكّريّ، الأمراض الخبيثة، أمراض المناعة الذّاتيّة، أمراض الكبد والكلى المزمنة وغيرها. يمكننا من خلال متابعة التّاريخ الطّبّيّ والفحص البدنيّ والاختبارات المعمليّة الرّوتينيّة تأكيد وجود التهاب مزمن أم لا أو استبعاده. في بعض الحالات، يمكن لاختبارات التّصوير ذات الصّلة أن تكون مفيدة للتّشخيص. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تنظير القولون (Colonoscopy) في تشخيص مرض التهاب الأمعاء.
في النّهاية، عندما يتطوّر الالتهاب دون أن يتّضح سببه، ولا تظهر أيّة علامة على وجود عدوى أو إصابة، فيشار إليه بالالتهاب المعقّم. يحدث الالتهاب المعقّم عادةً عندما تتعرّف خلايا الجهاز المناعيّ عن طريق الخطأ على بروتينات أو جزيئات خلايا الجسم، على أنّها "عامل غريب" وتعمل ضدّها. يمكن إطلاق هذه الموادّ نحو بيئة الأنسجة عندما يكون هناك نخر أو موت غير منضبط للخلايا. يؤدّي التّحديد الخاطئ لجهاز المناعة إلى تنشيطه وتفعيل استجابة التهابيّة.
يهدف العلاج الدّوائيّ إلى تقليل عمل الموادّ المسبّبة للالتهاب. أقراص مضادّة للالتهابات وكبسولات | FOTOGRIN, Shutterstock
العلاج الدوائيّ
تهدف أدوية تقليل الالتهاب بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الحدّ من نشاط جهاز المناعة، والموادّ مولّدة للالتهاب الّتي تطلقها خلايا الجهاز المناعيّ. تخفّف العديد من الأدوية الألم والتّورّم، وقد تمنع أو تبطئ عمليّة الالتهاب.
تشمل الأدوية المضادّة للالتهابات العقاقير غير الستيروئيديّة المضادّة للالتهابات (NSAIDs)، الأسبيرين أو الإيبوبروفين (الأدفيل أو نوروفين) أو النّابروكسين، الّتي تعمل على وقف إنتاج البروستاجلاندين- جزيئات تثير عمليّات عديدة في الجسم، بما في ذلك العمليّات الالتهابيّة. بالمقابل، الكورتيكوستيرويدات (مثل بريدنيزون)، والّتي تؤثّر في عمل الجينات المشاركة في العمليّات النّموذجيّة للأمراض الالتهابيّة المزمنة.
في الحالات الأكثر تعقيدًا، هناك عقاقير بيولوجيّة مختلفة تعتمد على الأجسام المضادّة، الّتي يمكن أن ترتبط بخلايا مختلفة في جهاز المناعة، وتحدّ من نشاطها. تستخدم هذه الأدوية أيضًا في حالات أخرى لعلاج حالات مثل السرطان، أو أمراض الأمعاء الالتهابيّة، أو لمنع رفض الأعضاء بعد الزّرع جرّاء مهاجمة الجهاز المناعيّ للعضو المزروع.
في النّهاية، تضرّ أدوية العلاج الكيميائيّ بقدرة الخلايا على الانقسام، لذلك يمكن استخدامها كعلاج للالتهاب المزمن في بعض الحالات؛ لأنّها تضرّ بانقسام خلايا الجهاز المناعيّ، أي بالقدرة على إنتاج خلايا جديدة. في كثير من الأحيان، عند استخدام أدوية العلاج الكيميائيّ لعلاج الأمراض الالتهابيّة، تُعطى هذه الأدوية بجرعات منخفضة، لتقليل مخاطر الآثار الجانبيّة الصّعبة الّتي تمتاز بها.
أدّى استهلاك كمّيّات كبيرة من الفواكه، الخضراوات، البقوليّات والحبوب في معظم الدّراسات إلى انخفاض مؤشّرات الالتهاب، مقارنةً بالنظام الغذائيّ في أوروبا الشّماليّة أو أمريكا الشّماليّة. حمية البحر الأبيض المتوسّط | gorillaimages, Shutterstock
تغيير في نمط الحياة
إلى جانب العلاج الدّوائيّ للالتهاب، أو بدلًا عنه، غالبًا ما يُنصح المرضى بتبنّي عادات جديدة، مثل التّغييرات في النّظام الغذائيّ والنّشاط البدنيّ. مع ذلك، إنّ فائدتها ليست موحّدة.
للتّحقّق من العلاقة بين النّظام الغذائيّ والالتهاب، يُعطى الأشخاص عادةً استبيانات للتّحقّق من طبيعة نظامهِم الغذائيّ، ومقارنة الإجابات الّتي قدَّموها بمستويات علامات الالتهاب في الدم. أظهرت معظم الدّراسات، أنّ النّظام الغذائيّ له تأثير أكثر تواضعًا في التّغيّرات في مؤشّرات الالتهاب لدى الأشخاص.
غالبًا ما شوهدت تغيّرات في علامات الالتهاب، إن وجدت، في استهلاك الأطعمة منخفضة السّكّر، الدّهون المشبعة والدّهون المتحوّلة والغنيّة بالألياف الغذائيّة والمغنيسيوم والكاروتينات (الأصباغ العضويّة الموجودة بشكل أساسيّ في النّباتات)، والفلافونويدات (المركّبات الموجودة في الفواكه والخضراوات)، والّتي تعرَّف أيضًا كمضادّات الأكسدة. يؤدّي اتّباع نظام البحر الأبيض المتوسّط الغذائيّ، والّذي يتميّز بتناول الكثير من الفواكه والخضراوات والبقوليّات والحبوب، في معظم الدّراسات إلى انخفاض مؤشّرات الالتهاب، مقارنة بالنّظام الغذائيّ في أوروبّا الشّماليّة أو أمريكا الشّماليّة.
إنَّ ممارسة النّشاط البدنيّ المعتدل بانتظام، له فوائد عديدة في التّحكّم بجهاز المناعة، وتقليل الالتهابات والأمراض المزمنة. تشير الدّراسات إلى أنَّ التّأثيرات المضادّة للالتهابات النّاتجة عن التّمارين الرّياضيّة تتمّ بواسطة آليّات متعدّدة. أثناء النّشاط البدنيّ، هناك زيادة في إنتاج الأدرينالين والكورتيزول وهورمونات النّموّ والبرولاكتين، وكلّ هذه الموادّ لها تأثير في خلايا الجهاز المناعيّ، وفي نشاط الخلايا وتوجيهها لأعضاء الجسم المختلفة. من المعروف أيضًا أنّ التّمرينات تقلّل نسب الدّهون في الجسم.
هناك نوعان من الدّهون في أجسامنا: البيضاء والبُنيّة. يساهم فائض الدّهون البيضاء في إنتاج موادّ مسبّبة للالتهاب في الجسم، وبالتّالي، فإنَّ تقليلها يساهم في السّيطرة على العمليّات الالتهابيّة.
كما أنَّ تنشيط عضلات الهيكل العظميّ أثناء النّشاط البدنيّ يشجّع الخلايا على إفراز موادّ مفيدة لتحسين التّمثيل الغذائيّ، وزيادة امتصاص الجلوكوز والدّهون، وبالتّالي تقليل مخاطر الاضطرابات الأيضيّة وتطوّر الالتهابات. أخيرًا، فقد ثبت أنَّ الخمول البدنيّ يتميّز بزيادة نشاط المستقبلات المؤيّدة للالتهابات على خلايا جهاز المناعة، ونتيجةً لذلك تطوّر الأمراض المزمنة والالتهابات. من ناحية أخرى، ثبت أنّ النّشاط البدنيّ يقلّل من وجود هذه المستقبلات على سطح الخليّة.
على الرّغم من أنَّ الالتهاب هي كلمة تثير ارتباطًا سلبيًّا، إلّا أنَّ عمليّة الالتهاب الخاضعة للرّقابة ضروريّة للغاية للحفاظ على صحّتنا؛ لأنّه إذا لم نتمكّن من تحفيز الاستجابة الالتهابيّة ضدّ العوامل الخارجيّة، فسوف نتعرّض للأمراض والالتهابات. من ناحية أخرى، عندما يُخلّ التّوازن، وتنعدم السّيطرة على الجهاز المناعيّ، فإنَّ الضّرر الجهازيّ يصيب الخلايا والأنسجة السّليمة في الجسم. لذا، في المرّة القادمة الّتي تصابون فيها، انظروا إلى الجرح المُعافى، الأحمر المتورّم، وكونوا شاكرين لجهازكم المناعيّ الّذي يقوم بعمله بأمانة.