أقدَمَ بحث محاكاة شامل على تعزيز تشكيلة المعايير التي قد تفسّر لنا كيفيّة بناء الكون، ولكنّه لم ينجح بعد في حلّ لغز كونيّ مقلِق

منذ أن انفصلت الفيزياء عن الفلسفة آنذاك في عهد إسحق نيوتن، أصبح المنهج العلميّ التجريبيّ هو الحاكم الناهي. إلّا أنّ لاعبًا مهمًا آخر بات يهيمن على مجال البحث في عصرنا الحالي، ألا  وهو المحاكاة. لقد أصبحت المحاكاة جزءًا لا غنى عنه في البحث العلميّ الحديث، من خلال بناء نماذج و بيئات افتراضيّة نقيّة مصمّمة، لاستبدال التجارب العلميّة والرصودات أو التنبّؤ بنتائجها وتأكيدها.

تتمتّع المحاكاة بفاعليّة خاصّة في مجال علم الفلك والكونيّات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الحجم الهائل للكون، ممّا يجعل بعض الأشياء صعبة القياس بل مستحيلة في حالات أخرى.فإذا ما نظرنا إلى تلسكوب الفضاء "جيمس ويب"، الذي أطلق في أواخر عام 2021 مثلًا، سنرى أنّهن  قد أحدث تطوّرًا كبيرًا في قدرات الفيزياء الفلكيّة الرصديّة، ولكن ما زالت هناك تحدّيات كبيرة في العديد من المجالات، إلى جانب أنّ المحاكاة أداة ضروريّة فيها. في هذا الصدد، تهدف منظومة جديدة من عمليّات المحاكاة الكونيّة تسمّى "فلامينغو" (FLAMINGO، وهي اختصار لعبارة طويلة لا تهمّنا هنا)، إلى تسليط الضوء على مشكلة "توتر S8"، وهو أحد الألغاز الأكثر تحدّيًا في دراسة الفضاء.


تتمتّع المحاكيات على إمكانات فائقة في مجال دراسة الفيزياء الفلكيّة وعلم الكونيّات. محاكاة لنشأة الكون | المصدر:Patrick Landmann / Science Photo Library

ماذا نعرف أنّنا نجهله؟

تفسّر النماذج الرائدة في علم الكونيّات كيف نشأ الكون، وما سيكون عليه مصيره في النهاية. وبين البداية والنهاية، تلعب  الديناميكا الكونيّة المحرّك الأساسيّ للكون بأسره. يُعرف النموذج القياسيّ في علم الكونيّات باسم Lambda-CDM (اختصار لـ "المادّة المظلمة الباردة لامبدا")، ويشمل مجموعة محدودة من المعايير التي تتوافق مع طيف واسع من البيانات الكونيّة والجاذبيّة. يمكننا بناء نموذج لكونٍ يتكوّن معظمه من المادّة المظلمة والطاقة المظلمة، والذي يتوافق مع هذه المعايير.

لفهم ماهية المادّة المظلمة والطاقة المظلمة، يجب أن نعرف أوّلًا أنّ تسارع الأجسام في المجرات لا يتطابق مع قوانين نيوتن، التي تحكم الميكانيكا الكلاسيكيّة للأجسام، مثل النجوم والكواكب وسحب الغاز وغيرها، بل وتشير التجارب إلى أنّ المادّة تتحرّك بسرعة كبيرة مقارنة بكتلتها (لماذا لا تنفصل المادّة عن المجرّة إذا صحّ هذا الأمر؟)، بالإضافة إلى ذلك، لا تنخفض سرعة المادّة في أطراف المجرّة مع الابتعاد عن مركزها، كما ينبغي أن يحدث في حال كان مركز الكتلة بالكامل داخل المجرّة.

نجد من الحسابات الإحصائيّة وتسارع الأجرام السماويّة والقانون الثاني لنيوتن، أنّ كتلة مجرّتنا درب التبانة تقدّر بحوالَيْ 580 مليار كتلة شمسيّة، بل وهناك من يعتقد أنّها تفوق ذلك، في حين تبلغ كتلة كلّ المادّة المرئيّة في المجرة حوالي 46 إلى 64.3 مليار كتلة شمسيّة، ممّا يعني أنّ كتلة الغاز التي نعلم بوجودها من خلال الرصد، لا تشكّل سوى 10-15٪ من إجمالي كتلة المجرّة. يظهر الحساب البسيط أنّ هناك كتلة مفقودة كبيرة. أو بعبارة أخرى، لا نستطيع تفسير 85٪ من الجاذبيّة في الكون. التفسير السائد، ولكنّه ليس الوحيد، لهذا الفارق هو وجود مادّة مظلمة في الكون لا يمكن اكتشافها بالطرق التقليديّة، لأنّها لا تتفاعل مع القوة الكهرومغناطيسيّة.

ظاهرة غامضة أخرى تتمثّل في وجود قوّة تبدو وكأنّها تدفع المجرّات بعيدًا عن بعضها، بدلًا من جذبها نحو بعضها كما هو متوقّع من تأثير الجاذبية. فرغم أنّه من المفترض أن تقلّل الجاذبيّة السرعة التي تتباعد بها المجرّات، تجد في الحقيقة أنّ المجرّات في الكون تتباعد عن بعضها بسرعة متزايدة. تمّ تسمية هذه القوّة الغامضة، الّتي لا نعرف مصدرها، بـ "الطاقة المظلمة" وبات هذان المفهومان، المادّة المظلمة والطاقة المظلمة، يشكلان لغزًا وليس حلًا، لأنّهما يساهمان في وضع موازنة المعادلات مع الرّصودات، دون أن نعرف شيئًا عن طبيعتِهما الحقيقيّة.


يتضمّن النموذج التقليديّ لعلم الكونيّات مجموعة محدودة من المعايير التي تتناسب مع مجموعة غنيّة من البيانات الكونيّة والجاذبيّة. توضيح للنموذج، من الانفجار العظيم إلى يومنا هذا |المصدر:  NASA/ LAMBDA Archive / WMAP Science Team

تحدّيات المحاكاة الكونيّة

البروفيسور راني بودنيك من قسم فيزياء الجسيمات والفيزياء الفلكيّة في معهد وايزمان للعلوم، هو عالم كونيّات يستخدم التجارب لاستكشاف أسرار المادّة المظلمة. يقول بودنيك في حديثه لموقع معهد دافيدسون: "فهمنا للكون، كما ينعكس من الانفجار العظيم ومن قياسات إشعاع الخلفيّة الكونيّة - ما يمكن اعتباره رسالة من الماضي ومن بداية الكون - يقدّم إجابات لمعظم الأسئلة الأساسيّة، ويأخذ بعين الاعتبار المادّة المظلمة كعامل أساسيّ، لأنّها هي التي تحدّد الديناميكيّة على المستوى الكونيّ".

كما هو متوقّع هُنا، تلوّح في الأفق "لكن" كبيرة. "بدأ علماء الكونيّات خلال السنوات الـ10 إلى 12 الماضية بطرح أسئلة حول ما يحدث بالقرب من مراكز المجرّات"، يضيف بودنيك. " تتكوّن المجرّات والنجوم وكلّ العالم الذي نعرفه بما يسمّى 'المادة الباريونيّة'، وقرب مراكز المجرّات، يبدأ علم الكونيّات بالتغيّر وتحدث ظواهر غريبة، لدرجة أنّ المحاكاة العاديّة لن تكون كافية".

بموجب ذلك، أطلق باحثون من جامعات في بريطانيا وهولندا محاكاة حديثة تتناول كمّيّة أكبر بكثير من المعايير والعناصر، التي قد تكون متورّطة في الديناميكيّة الكونيّة، عوضًا عن أجزاء من الكون مع تجاهل الباقي كما فعلت سابقاتها.

في هذه المرّة، وضعت المحاكاة في عين الاعتبار كلّ من المادّة المظلمة والطاقة المظلمة بل والمادّة الباريونية، التي تجاهلتها العديد من المحاكاة السابقة لمجرّد مساهمتها الضئيلة في الجاذبيّة مقارنةً بالمادّة المظلمة. كما أخذت في الاعتبار جزيئات النيوترينو، وهي أخفّ الجسيمات الأوّليّة المعروفة حاليًّا لعلماء فيزياء الجسيمات، والتي لا تتفاعل مع القوّة الكهرومغناطيسيّة هي الأخرى. 


يتعذّر علينا  تفسير 85% من الجاذبيّة في الكون. التفسير السائد لهذه المفارقة هو وجود مادّة مظلمة في الكون. محاكاة لتوزيع المادّة المظلمة في الكون | المصدر:  Volker Springel / Max Planck Institute For Astrophysics / Science Photo Library

الباريون الذي لا نريد التعامل معه

يقول البروفيسور بودنيك: "تكاد الحسابات الدقيقة التي لا تتجاهل المادّة الباريونية تكون مستحيلة". "فالتّفاعُلات التي تنخرط فيها الباريونات معقّدة بشكل لا يصدق، ولهذا السبب عادةً ما تُدرج هذه الحسابات المادة الباريونيّة كاضطراب وبطريقة فينومينولوجيّة حسّيّة، أي بالتشديد على مطابقتها  للرّصودات عوضًا من الدقّة النظريّة".

تتفاعل المادة الباريونيّة مع القوّة الكهرومغناطيسيّة، ويظهر ذلك في الإشعاع والضغط الذي تمارسه، وتتداخل كذلك في الرياح النجميّة التي لا يمكننا التنبّؤ بها، ثم يصعب إدراجها في النماذج. الرياح النجميّة هي تلك  التيارات السريعة من الغاز التي تنبعث عند تكوين نجوم جديدة، أو تلك التي تنشأ من الثقوب السوداء فائقة الكتلة، أو من أحداث كونيّة ضخمة أخرى.

تمّ إدراج الرياح النجميّة في المحاكاة مؤخّرًا من خلال خوارزميات التعلّم الآليّ (machine learning)، التي انخرطت في مجال الفيزياء الفلكيّة والكونيّات بقوّة في السنوات الأخيرة، حيث تُوصف الديناميكا بينها باستخدام أدوات من ميكانيكا الموائع.

بالإضافة إلى كل ذلك، هنالك تحد معيّن، نوع من عدم المطابقة يُسمّى "توتر S8" يظهر بوضوح في التغيّرات غير المتوقّعة في توزيع كثافة المجرّات، ويعتبر سرًّا غامضًا متعلقًّا بسلوك الجاذبية الذي يعرفه العلم، أو على ما يبدو يعتقد أنّه يعرفه.

يُستخدم S8 كمقياس لتغيّرات كثافة المادّة في الكون، أو بكلماتٍ أخرى كمقياس لمدى تجانس توزيع المادّة فيه. وبحسب اللغة التقنيّة، يقيس S8 مدى عدم تجانس الكون. يمكن حساب قيمة هذا المقياس باستخدام النموذج القياسيّ في علم الكونيّات وقياسات إشعاع الخلفيّة الكونيّة، ويمكن حسابه بشكل مستقلٍّ باستخدام قياسات تأثير عدسة الجاذبيّة الضعيف (Weak gravitational lensing)، وهي ظاهرة تصف انحناء أشعّة الضوء بفعل المجال الجاذبيّ المحيط للأجرام ذات الكتلة الهائلة، بشكل مشابه لعدسةٍ بصريّةٍ. إلّا أنّ المشكلة تكمن بعدم توافق الحسابيْن مع بعضهما. ومن هُنا صار يطلق على عدم التوافق هذا "توتر S8".

"لقد رافق توتر S8 عالم البحث لمدّة تضاهي عقد من الزمن"، أفاد بودنيك وأضاف "ظاهريًّا، في المناطق البعيدة عن مركز المجرّة، لا ينبغي أن تكون هناك منظومة لا خطيّة (لا نظامية) في الديناميكا الكونيّة، لأنّ المادّة المظلمة موزّعة بشكل شبه متجانس، ولا يفترض أن تؤثّر المادّة الباريونيّة (المرئيّة) على الديناميكا، وعلى الكتلة بشكل دراماتيكيّ. مع ذلك، فإنّ الإحصائيّات المبنيّة على الرّصودات حول المادّة الباريونيّة تظهر انحرافًا غير متوقّع".


 هو مقياس للتغيّرات في كثافة المادّة في الكون: مدى عدم تجانس توزيع المادّة. توضيح لبنية المادّة في الكون | المصدر: Equinox Graphics / Science Photo Library

بيانات، ثمّ بيانات، ثمّ بيانات

يقسم البحث الجديد إلى ثلاث مقالات: تصف المقالة البحثيّة الأولى المنهجيّات، في حين تقدّم الثانية المحاكاة، لتستعرض المقالة الثالثة النتائج مع تسليط الضوء على  توتر S8. نشرت هذه المقالات الثلاثة في مجلة Monthly Notices of the Royal Astronomical Society في أغسطس من العام الماضي.

ما يزال الغموض يحوم حول أسباب وجود توتر S8. فيعتقد البعض أنّ فيزياء جديدة، تتجاوز النموذج التقليديّ، يمكن أن تفسّر هذا التباين، لكنّنا لا نعرف ماهيتها حتّى الآن. يواجه الباحثون ويؤكّدون صحّة المحاكاة من خلال عملهم، ومن خلال مقارنة النتائج مع الرّصودات التجريبيّة، مثل تأثير عدسة الجاذبيّة أو تأثير سونياييف-زيلدوفيتش، الذي يمثّل تشوهًا في إشعاع الخلفيّة الكونيّة الناتج عن تشتّت الفوتونات (جزيئات الضوء)، بواسطة الإلكترونات الساخنة في عناقيد المجرّات.

تتطلّب إضافة المادّة الباريونية إلى المحاكاة قوّة حسابيّة أكبر بكثير من المعتاد. مع ذلك، يقول الباحثون إنّهم نجحوا في مهمّتهم الطموحة، واستكشفوا بداية الكون من منظور المحاكاة الجديدة، والتي تجاوزت بياناتها عدة بيتابايت (تريليون بايت). وتلك كمّيّة هائلة من المعلومات بكلّ المقاييس والمعايير.

تقوم إحدى المحاكيات في سلسلة فلامينغو بأخذ 300 مليار جسيم في الحسبان، حيث تضاهي كتلة كلّ جسيم منها كتلة مجرّة صغيرة. تتواجد كلّ هذه المجرات داخل مكعّب افتراضي طول ضلعه عشرة مليارات سنة ضوئيّة، الأمر الذي قد يذكّرنا بنهاية فيلم "الرجال في الأسود \ Men In Black". وبما أنّ سنة ضوئيّة تساوي حوالي تسعة تريليونات كيلومتر، فإنّ الحجم الذي نتحدّث عنه هنا ضخم للغاية. كلّ المحاكاة مكتوبة بكود جديد تمّ تطويره خصيصًا لها، ويُجري الحسابات على ثلاثين ألف نواة حاسوب.

يختتم بودنيك بقوله: "من المهمّ وضع الأمور في نصابها الصحيح". "فليست هذه الأعمال فريدة من نوعها في مجالها، ولكنّها تقدّم تجديدًا مبتكرًا بالنسبة لنا. ولسوء الحظّ، يجب أن أبلغكم أنّ الباحثين لم يتمكّنوا بعد من فهم أسباب وجود توتر S8، لكن هذه ليست إلّا مجرّد محطّة أخرى في طريقنا نحو هذا الهدف. لن يهرب الكون إلى أيّ مكان خلال رحلتنا لفهمه".

 

0 تعليقات