لماذا لا تنسلخ النّجوم عن مَجرّاتها؟ ما الّذي يؤدّي إلى تعجيل اتّساع الكون؟ وكيف يمكن الدّمج بين النّظريّة النّسبيّة وبين نظريّة الكمّ ؟ إليكم بعض المسائل الّتي ما زال الفيزيائيّون يحاولون فكّ شفرتها وحلّ ألغازها
"على النّمر أن يصطاد،
على الطّير أن يطير،
على الإنسان أن يجلس مندهشًا ويتساءل: لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
على النّمر أن ينام ،
على الطّير أن يحطّ ،
على الإنسان أن يخاطب نفسه قائلًا: فهمتُ"
كورت فونيغوت، مهد القطّ
يتميّزُ الإنسان عن باقي المخلوقات بحبّ الاستطلاع، فهو لا يتوقّف عن السّؤال والبحث ليزيد من فهمه العالم الّذي يحيط به. يبرز ذلك بشكل خاصّ في عالم الفيزياء الّذي اكتُشفت في مجاله، منذ بداية القرن العشرين، اكتشافات هامّة وخارقة، بدءًا من وضع وتطوير نظريّة الكمّ والنّظريّة النّسبيّة العامّة ونظريّة الانفجار العظيم حتّى الاكتشاف المذهل لأمواج الجاذبيّة العام الماضي. على الرّغم من ذلك، ما زالت ألغاز تفتقر للحلول، وحاليًّا يعمل الفيزيائيّون ع على اكتشاف أسرارها، وقد ينجحون في المستقبل.
نشر إسحاق نيوتن عام 1687 كتابه المبادئ الرّياضيّة للفلسفة الطّبيعيّة الّذي أدرج فيه أساس الميكانيكا التّقليديّة. في كتابه حاول نيوتن شرح حركة الأجسام بفعل قوّة الجاذبيّة، وتفسير حركة الكواكب السّماويّة. خلال سنوات السّبعينيّات والثّمانينيّات من القرن العشرين تراكمت دلائل عن وجود أجسام تتحرّك بسرعة أكبر لا تتطابق وتتماشى مع السّرعة الّتي تطرحها وتفسّرها نظريّة نيوتن، كما أنّ النّظريّة النّسبيّة لم تستطع تفسير هذه الظّاهرة.
راقب العلماء مجرّات معيّنة، وراقبوا توزيع الكتلة بداخلها، ثمّ حسبوا سرعة الكواكب على حافّة المجرّات اعتمادًا على المسافات بين الكواكب وعلى نظريّة نيوتن. لكن تبيّن أنّ سرعة هذه الكواكب أكبر من السّرعة الّتي تفسّرها نظريّة نيوتن.
اِعتمادًا على الميكانيكا النّيوتنيّة، يلزم وجود قوّة كبيرة تُبقي (تحفظ) هذه الكواكب داخل المجرّة ولا تسمح لها أن تتحرّر من قوّة جاذبيّتها. التّفسير الرّائج اليوم لهذه الظّاهرة هو وجود مادّة إضافيّة غير مرئيّة داخل المجرّات، تزوّد المجرّات بقوّة جاذبيّة لازمة تُبقي الكواكب في نطاقها، وهذه المادّة تُسمّى "المادّة المظلمة".
تشير الحسابات إلى أنّ انتشار المادّة المظلمة يجب أن يكون متساويًا في أنحاء المجرّة كي تحافظ الكواكب على حركتها كما نراها، ويجب أن تكون كمّيّة المادّة المظلمة في الكون خمسة أضعاف من كمّيّة المادّة المكوَّنة من ذرّات كما نعرفها. حتّى الآن لا توجد دلائل على وجود المادّة المظلمة، لكن هذا ليس مفاجئًا، بدليل أنّ المادّة المظلمة تؤثّر على الجاذبيّة فقط، ولا تطلق أيًّا من أنواع الأشعّة الكهرومغناطيسيّة، ولا ضوءًا ظاهرًا أو أمواج الرّاديو.
ما زال البحث مستمرًّا حول الجسيمات الدّقيقة الّتي تتكوّن منها المادّة المظلمة، ويحاول العلماء بناء كاشفات حسّاسة تستطيع تشخيص وكشف التّأثير الضّئيل للمادّة المظلمة. ويرى البعض أنّ نظرّيّات الجاذبيّة لنيوتن وأينشتين بحاجة لتعديلات كي تستطيع تفسير حركة الكواكب، بافتراض أنّ المادّة المظلمة غير موجودة. هذا ما تفترضه نظريّة Mondo الّتي وضعها وطوّرها بروفيسور موطي ميلغروم من معهد وايزمن للعلوم في سنوات الثّمانينيّات من القرن الماضي.
الطّاقة المُظلِمة
لغز آخر يحاول الفيزيائيّون حلّه هو لغز الطّاقة المظلمة. سنة 1929 قاس أدوين هابل Hubble سرعة المجرّات فتبيّن أنّها تبتعد عنّا وأنّ العلاقة (النّسبة) بين المسافة والسّرعة علاقة ثابتة. سُمّيت هذه العلاقة فيما بعد "ثابت هابل". اِعتمادًا على قياسات هابل استنتج العلماء أنّ الكون ليس ثابتًا، بل أنّه يتّسع باستمرار.
في عام 1998 قام عدد من الباحثين بقياس حركة مجرّات بعيدة عن طريق مراقبة السوبر نوفا (المستعمرات العظمى). أشارت قياساتهم أنّ "ثابت هابل" كبرَ مع الوقت، وهذا يثبت أنّ الكون يتّسع بسرعة. وبفضل هذا الاكتشاف حازّ آدم رايس Riess وبريان شميدت Schmidt وسول بيرلموتر Perlmutter على جائزة نوبل عام 2011.
التّفسير المتعارف عليه (المقبول) لوتيرة اتّساع الكون هو وجود طاقة مظلمة مجهولة المصدر تُصدر قوى تنافر في وسط الكون فتقوم بتوسيعه. تشير الحسابات إلى أنّ هذه الطّاقة تشكّل 70 % من مجمل الطّاقة-الكتلة في الكون. تفسير نظريّ آخر لاتّساع الكون هو إضافة ثابت كونيّ لمعادلات الحركة في النّظريّة النّسبيّة. إضافة هذا الثّابت قد تفسّر تسارع الاتّساع، لكن يبقى هذا تفسيرًا واحدًا من عدّة تفسيرات، إذ ما زالت آراء الباحثين متباينة تجاه هذه المسألة.
نظريّة كلّ شيء
تُنسب مسائل المادّة والطّاقة المظلمتين إلى مجال فيزياء الفضاء وعلم الكون (الكونيّات)، وهي علوم تتعامل مع المسافات البعيدة، والأجسام الثّقيلة، المجرّات، الكواكب وغيرها. القوّة السّائدة هنا هي الجاذبيّة الّتي تصفها النّظريّة النّسبيّة العامّة لأينشتين.
الأمر مختلف كلّيًّا عند النّظر إلى الأجسام الصّغيرة كالذّرّات والجزيئات والإلكترونات والمسافات الدّقيقة بينها. هنا الجاذبيّة ضعيفة جدًّا، والقوّى المركزيّة والمسيطرة هي القوّة الكهرومغناطيسيّة، القوّة النّوويّة الضّعيفة، والقوّة النّوويّة القويّة. يصف النّموذج القياسيّ وفيزياء الكمّ هذه القوى وصفًا مفصّلًا.
ما زلنا بحاجة إلى "نظريّة كلّ شيء"، نظريّة موحّدة تحاول تفسير عمل كلّ القوى في كلّ المسافات والحالات الممكنة. حاول ألبرت أينشتين، حتّى آخر يوم في حياته، تفسير هذه المسألة وحلّها إلّا أنّه لم ينجح.
حاول الفيزيائيّون، خلال سنوات السّبعينيّات - الثّمانينيّات من القرن الماضي، الإجابة عن هذه المسائل بواسطة نظريّة الأوتار (النّظريّة الخيطيّة). تصف هذه النّظريّة المعقّدة الجسيمات والكون بواسطة أوتار (خيوط) تتذبذب في كون متعدّد الأبعاد. الجسيمات الّتي نراها مكوّنة من هذه الأوتار، وصفاتها تُفسَّر عن طريق تذبذبات هذه الأوتار. لكن، حتّى الآن لم يستطيع الباحثون بلورة تنبّؤ هامّ فيما يخصّ هذه النّظريّة يمكن فحصه عن طريق تجربة في المستقبل، الأمر الّذي يُبقي المشكلة قائمة.
في سعيه لفهم الواقع المحيط به، تقف أمام الجنس البشريّ تحدّيات أخرى. عام 1900 ظنّ الفيزيائيّون أنّهم نجحوا في تفسير معظم الظّواهر والمسائل العالقة، باستثناء مسائل بدت لهم هامشيّة نسبيًّا. قاد حلّ هذه المسائل إلى نشوء وظهور نظريّة الكمّ والنّظريّة النّسبيّة الخاصّة والعامّة الّتي أحدثت انقلابًا هائلًا في المفاهيم وتفسير الكون والنّظر إليه لدى علماء القرن العشرين. لا أحد يعرف ما هي النّظريّات الّتي سوف تظهر وتتطوّر في القرن الواحد والعشرين لتحاول إيجاد حلول لمسائلنا العالقة.
الترجمة للعربيّة: خالد مصالحة
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة