تصعب رؤية النّجوم في أيّامنا عند النّظر إلى السّماء في اللّيل. تحجب الأضواءُ الاصطناعيّةُ الّتي تنير ليالينا النّجومَ عنّا
اِستيقظ النّاس من سباتهم، في ساعة متأخّرة من إحدى ليالي عام 1833، لسماع الضّجيج في الشّوارع. تطلّع النّاس إلى السّماء ليروها مضاءةً بمئات من "النّجوم الهاوية" في مشهد مثير تخلّله سقوط زخّات من مئات آلاف النّيازك في السّاعة. اِستمرّ المشهد طوال ما تبقّى من اللّيل حتّى طلوع الفجر الّذي حجب منظر الأضواء الملوّن تاركًا ملايين النّاس في ذهول وإعياء من فقدانهم النّوم في تلك اللّيلة. وصلت أنباء الحدث، عبر وسائل الاتّصال الّتي اقتصرت حينذاك على الصّحف، إلى أوروبا.
ننتقل إلى سنة 2020 عندما مرّت الكرة الأرضيّة من خلال ذيل الغبار الّذي خلّفه المُذنّب سويفت - توتل (Swift - Tuttle) وتكلّلت سماء بلادنا بمطر من شهب البرشاويّات، كما يحدث كلّ عام. لم يكن بوسع النّاس في غالبيّة مناطق البلاد، للأسف، مشاهدة خيوط الضّوء اللّطيفة الّتي كوّنتها النّيازك عند دخولها الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة مع الارتفاع السّريع في حرارتها. اِضطرّ الآلاف للسّفر إلى منطقة النّقب قليلة الكثافة السّكّانيّة على أمل إيجاد ركن معتم يمكن رؤية مطر النّيازك منه. تصدّرت عناوين الصّحف أنباءٌ عن أزمات سير غير اعتياديّة خانقة واكتظاظ لا مثيل له للسّيّارات في المواقف المُعَدة.
يحرمنا التّلوّث الضّوئيّ النّاجم عن الأضواء الاصطناعيّة من التّمتّع بالمناظر الجميلة، ويؤثّر سلبيًّا في مجالات كثيرة إذ يحجب السّماء في اللّيل، ويلحق الضّرر بنا بطرق شتّى، ويضرّ بالمنظومة البيئيّة. توجد، مع ذلك، حلول كثيرة لهذه المشكلة قد يعود تطبيقها علينا بتوفير أموال طائلة.
مطرٌ الأسديّات (الليئونيدات) الّذي شوهد في المدن المعتمة في جنوب الولايات المتّحدة سنة 1833. نقش أدولف ووليمي | المصدر: ويكيبيديا ، متاح للعموم.
تضاؤل الظّلام
أثار النّظر إلى السّماء من فجر التّاريخ الدّهشة والتّعجّب. لاقت مراقبة النجوم رواجًا واسعًا قبل نشوء المدن. تطوّرت عبر السّنين وبدون انقطاع أساليب وعبادات في محاولة لفهم الأجرام السّماويّة، وأصبحت مصدرًا للتّطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ بالغ الأهمّيّة. أثارت النّجوم خيال اليونانيّين القدماء وبنوا حولها الأساطير الرّائعة المثيرة (الميثولوجيا اليونانيّة القديمة)، وكشفوا عن منظومات النّجوم والكواكب، واستعان بها الرّحّالة الأوروبيّون في مساعيهم ورحلاتهم لاستكشاف القارّات المجهولة.
اِستلهم الفنّانون أعمالهم الرّائعة من النّجوم، أمثال وليم شكسبير مؤلّف المسرحيّات، والرّسّام فنسنت فان كوخ. تمحورت الثّورة العلميّة في القرن السّابع عشر حول حركة النّجوم ومشاهدات جاليليو جاليلي، وأدّت الدّراسات عن النّجوم إلى تطوير الكاميرا الرّقميّة الّتي غيّرت من أنماط حياتنا في العقود الأخيرة.
تثير السّماء الدّهشة والمعرفة. رسمة فان كوخ "سماء مزروعة بالنّجوم" | المصدر: ويكيبيديا، متاحٌ للعموم
ينجم التّلوّث الضّوئيّ الدّائم في أيّامنا هذه عن الإضاءة الكثيرة الموجودة في كلّ مكان مأهول، وهو يؤدّي إلى حجب رؤية النّجوم عند النّظر إلى السّماء في اللّيل، فيحرمنا من العجب وينقطع تراث المراقبة اليوميّة للنّجوم. اِعتمادًا على توقّعات مبنيّة على قياسات، يعيش معظم سكّان أوروبا والولايات المتّحدة في مناطق ملوّثة بالضّوء. لم يعد بإمكان حوالي ثلث سكّان الكرة الأرضيّة وأربعة أخماس سكّان الولايات المتّحدة الأمريكيّة مشاهدة مجرّة درب التّبّانة الّتي نقطن فيها. الحالة في البلاد أكثر سوءًا إذ تحتلّ بلادنا، للأسف، الموقع السّابع عالميًّا من حيث مدى تعرّض السّكّان فيها للتّلوّث الضّوئيّ.
لا يرى كثير من السّكّان، خاصّة في الجزء الغربيّ من الكرة الأرضيّة، إلّا القليل ممّا في السّماء بسبب التّلوّث الضّوئيّ. خارطة التّلوّث الضّوئيّ في الكرة الأرضيّة | المصدر: أطلس وضوح سماء الليل
لماذا نكاد لا نرى النّجوم؟
يجب أن تكون الخلفيّة الّتي ننظر إليها، كي نرى النّجوم وسائر الأجرام السّماويّة، معتمة بما فيها الكفاية لأنّ الضّوء الّذي يصلنا من معظمها ضوء خافت. من السّهل على بصرنا تمييز النّقطة البيضاء عندما تكون خلفيّتها قاتمة، ومن الصّعب تمييزها عندما تكون خلفيّتها فاتحة. تصبح خلفيّة النّجوم فاتحةً نتيجةً للضّوء الصّادر من الأرض والّذي يضيء السّماء ليلًا فتقلّ حِدّة التّباين بين النّجوم وبين خلفيّتها. تختفي النّجوم الخافتة أوّلًا وتليها، مع ازدياد شدّة التّلوّث الضّوئيّ، نجوم أخرى أكثر لمعانًا، كما تختفي خيوط الضّوء الّتي تُكوّنها النّيازك عند احتراقها في أعالي الغلاف الجوّيّ.
ليست خلفيّة الكواكب تؤثّر على مجال رؤيتها فقط، بل كلّ ضوء موجود في مجال رؤيتنا. تلائم العين نفسها لظروف الإضاءة. عند ازدياد الضّوء الّذي يدخل إلى العين يزداد انكماش البؤبؤ ويقلّ الضّوء الّذي يمرّ من خلاله ليصل إلى المستقبلات. وتتغيّر حساسيّة مستقبلات الضّوء مع تغيّر ظروف الإضاءة. تتيح لنا النبابيت، وهي خلايا مستقبِلة حسّاسة، الرّؤية في ظلام اللّيل، لكنّها تحتاج إلى مدّة طويلة للتّأقلم مع الظّلام. تكفي نظرة خاطفة إلى شاشة الهاتف النّقّال المضيئة لتقليل عدد النّجوم الّتي يمكن رؤيتها.
إضاءة تناسبيّة؟
لا يوجد شكّ في أهمّيّة الإنارة اللّيليّة، فهي تهيّء لنا السّلامة والمحيط الآمن في اللّيل، وتتيح لنا مزاولة الحياة النّشطة، وتساهم في رؤية الطّريق وإبراز اللّافتات والمواقع المهمّة. لكلّ إضاءة هدف. لكن، قد يؤدّي سوء تخطيط الإنارة وعدم التّدقيق في التّخطيط إلى تحويلها مصدرًا للإزعاج. يرى نشطاء الرّابطة العالميّة لصالح سماء معتمة أنّ المشاكل الرّئيسيّة تنجم عن مصادر الإضاءة الموجّهة نحو السّماء، والأضواء الّتي تمتدّ إلى ما وراء المساحة المخصّصة أو الّتي تحيد عن الوقت المطلوب، والإضاءة الفائقة عن حدّها أوالمُبهرة. يمكن تجنّب غالبيّة هذا التّلوّث بواسطة التّخطيط السّليم.
قد يضرُّ سوء التّخطيط بالغاية الّتي وُضعت الإضاءة من أجلها. يمكننا أن نتخيّل ما قد يحدث فيما لو سارت جميع السّيّارات بأضواء عالية أو إذا أضاءت أضواءها في جميع الاتّجاهات. ويحتمل أن تُبهِر أضواء الشّوارع والطّرقات السّائقين والعابرين فيها إذا كان نورها أشدّ ممّا يجب، أو إذا لم تكن موجّهة بصورة صحيحة. لا تتوقّف المشاكل عند هذا الحدّ، إذ لا يمتصّ الغلاف الجوّيّ الضّوء المرئيّ، أي مجال الأشعّة الكهرومغناطيسيّة الّتي نستطيع رؤيتها، جيّدًا فتتناثر في جميع الاتّجاهات، فنرى أنّ المدن والشّوارع تنثر وهجها نحو السّماء على بعد عشرات الكيلومترات عنها.
التّلوّث الضّوئيّ الفلكيّ والبيئيّ. مأخوذ عن تقرير الرّابطة الإسرائيليّة للبيئة وعلومها.
التّلوّث القادم من الأعالي
من المتّبع وضع التّلسكوبات العلميّة على قمم الجبال العالية والمظلمة لتجنّب التّلوّث الضّوئي وغيره من المعيقات. تهدّد مصادر ضوء جديدة هذه الملاجئ النّائية. من المتوقّع أن يدخل حوالي 80 ألفًا من أقمار الاتّصالات الصّناعيّة، حوالي عشرة أضعاف عدد الأقمار الصّناعيّة الّتي تحيط الكرة الأرضيّة حتّى منتصف العام 2021، في مدارات حول الأرض. وُضِع هذا النّظام من الأقمار الصّناعيّة لضمان وصول الإنترنت إلى المناطق النّائية بدلًا من ربطها بالألياف الضّوئية المُكلف. توجد لهذا البرنامج، إلى جانب الفائدة المرجوّة منه، سيّئة تتجلّى في أنّ هذه الأقمار تعيد ضوء الشّمس إلى جميع الاتّجاهات ومن ضمنها إلى الكرة الأرضيّة فتتوهّج كالقمر الطّبيعيّ. يتغيّر سماء اللّيل بوجود هذه الأقمار، وتزداد معها صعوبة المشاهدات الفلكيّة.
قام المهندسون بتغيير هياكل هذه الأقمار الصّناعيّة للتّقليل من شدّة الضّوء المنعكس عنها، لكن لم يكن هذا التّغيير كافيًا، فما زالت الأقمار تُبهِر مجسّات التّلسكوبات وتُشوّش عملها. تُطلَق غالبيّة الأقمار الصّناعيّة الخاصّة بالإنترنت اليوم نحو مسارات منخفضة الارتفاع بحيث يحجبها ظلّ الكرة الأرضيّة عن الشّمس خلال جزء من ساعات اللّيل. عندما تكون الأقمار الصّناعيّة على ارتفاع متواضع يفوق ستّمائة كيلومتر عن سطح الأرض، تُبهر أضواؤها مجسّات التّلسكوبات بشكل دائم وتعيق القدرة على القيام بالدّراسات الفلكيّة. تُحلّق غالبيّة أقمار الاتّصالات الصّناعيّة على ارتفاعات أكبر تصل إلى 35.6 ألف كيلومتر.
يقول جوناثان ماكدويل (McDowell) من مركز هارفارد - سميثسونيان للفيزياء الفلكيّة في الولايات المتّحدة: "يمكن تدبّر الأمر بالنّسبة للأقمار المنخفضة الارتفاع على الرّغم من إزعاجها، إلّا أنّ الأقمار الّتي تُحلّق على ارتفاعات كبيرة تجعلك تحزم تلسكوبك، وتغادر إلى منزلك."
قد يزداد تضرّر تلسكوبات الرّاديو نتيجة الازدياد الهائل في أقمار الاتّصالات الصّناعيّة. تُستخدم في بثّ الإنترنت أمواج ذات أطوال قريبة من تلك الّتي تقيسها التّلسكوبات، لكنّ شدّتها تفوق عشرة أضعاف شدّة الأمواج المنبعثة من الأجرام السمّاويّة الّتي تبحث عنها التّلسكوبات. ليس من المستبعد، إذًا، أن يؤدّي القمر الصّناعيّ الّذي يبثّ باتّجاه تلسكوب الرّاديو أن يبيد آلاته وتقنيّاته الحسّاسة.
مجموعة من التعريضات المتتالية المتعددة ، عبر مدى زمني 30 دقيقة ، التقطت مسارات أقمار ستارلينك الصناعية فوق برايس كانيون ، يوتا ، الولايات المتحدة الأمريكية. [Spencer’s Camera and Photo]
ضحايا بريئون
ليس الإنسان هو الكائن الوحيد الّذي يتعقّب النّجوم ويلاحقها بنظراته. تستعين الطّيور وعجول البحر وخنافس الرّوث بالنّجوم للملاحة، وقد تفقد الطّريق إذا لم تستطع تمييز هذه النّجوم. أظهرت دراسة نُشرت مؤخّرًا أنّ خنافس الرّوث، الّتي غالبًا ما تدفع كرة برازها بخطّ مستقيم، تلفّ وتدور في مسار دائريّ عند تعرّضها للتّلوّث الضّوئيّ الشّديد. يصيب الارتباك صغار سلاحف البحر عند فقسها من البيض بسبب أضواء المدينة فلا تستدلّ على طريقها إلى البحر.
لا يقتصر الضّرر الّذي يصيب الكائنات الحيّة على المسّ بقدرتها على الملاحة. يتجنّب فراش اللّيل، كالعثّ، الطّيران والتّجوّل في المناطق الّتي تعجّ بالضّوء حيث يكون معرّضًا للكائنات المفترسة. يؤدّي ذلك إلى صعوبةٍ في إيجاد الغذاء، كذلك تتضرّر النّباتات المتعلّق تلقيحها بهذه الحشرات بشكل غير مباشر. أفادت دراسة أجريت قبل حوالي أربع سنوات أنّ أضواء الشّوارع قد تقلّل من قدرة النّباتات على التّكاثر، الأمر الّذي يؤثّر سلبيًّا على الحيوانات الّتي تتغذّى على هذه النّباتات.
يصل التّلوّث الضّوئيّ إلى البحار والمحيطات، ويؤثّر على الكائنات الّتي تعيش فيها. تفيد دراسة أجريت على أسماك الشّقائق المُستوطِنة (Amphiprion ocellaris) المعروفة باسم سمك المُهَرِّج (من الفيلم السّينمائيّ "البحث عن نيمو") أنّ بيوضها تفقس دائمًا في اللّيل لزيادة فرصة صغارها في التّملّص من الكائنات المفترسة، وأنّ البيوض لم تفقس بتاتًا عندما تعرّضت للضّوء لمدّة أربع وعشرين ساعة متواصلة.
من الجدير والمفيد إيجاد حلٍّ للمشكلة
يجدر بنا معالجة مشكلة التّلوّث الضّوئيّ لأنّها تسبّب تبذير الأموال الطّائلة والكهرباء. أعلنت "مكوروت"، شركة المياه القطريّة في البلاد، بالتّعاون مع مجموعاتٍ تعتني بجودة البيئة عن خطّة تقضي بإضاءة أجهزة ومنظومات الشّركة وِقت الحاجة فقط. تُقدّرُ الشّركة أنّ هذه الخطوة سوف توفّر تكاليف الكهرباء والصّيانة والتّشغيل الّتي تبلغ حوالي 600000 شيكل في السّنة، إلى جانب المساهمة في تقليص التّلوّث الضّوئيّ.
تكمن الحلول في التّخطيط الّذي يحرص على إضاءة ما يلزم إضاءته فقط. يمكن استخدام الأجسام الضّوئيّة الّتي أعِدّت خصّيصًا لمنع تسرّب الضّوء إلى السّماء والمنازل والأماكن الأخرى غير المرغوب في وصول الضّوء إليها. يمكن تجهيز الأجسام الضّوئيّة بساعات ضبط وكاشفات الحركة الّتي تُمكّن إضاءتها وقت الحاجة فقط. ويمكن تقليل استهلاك الكهرباء وآثار الإضاءة السّلبيّة عن طريق استخدام المصابيح ذات الطّبيعة الحارّة والشّدّة المناسبة اللّتين توفّران استهلاك الكهرباء كثيرًا.
يمكن رسم خرائط ترصد أماكن التّلوّث الضّوئيّ والتّركيز على الأماكن المستعصية. رسمت مجموعات تُعنى بالبيئة، مثل سلطة الطّبيعة والحدائق وشركة حماية الطّبيعة، خرائط تُحدّد أماكن التّلوّث الضّوئيّ في شوارع البلاد وشواطئها، وشملت هذه الخرائط تقدير مدى الحساسيّة البيئيّة في محيطها للتّلوّث الضّوئيّ. يمكن أن تتيح مشاريع العلوم المدنيّة الفرصة لعامّة النّاس في المساهمة في رسم الخرائط وتحديد مواقع التّلوّث الضّوئيّ. حظي جرن رامون بمكانة مرموقة على نطاق عالميّ سنة 2017 إذ أظهر التّخطيط الدّقيق ضرورة حِفظه محميّةَ أضواء النّجوم الطّبيعيّة.
الكرة في هذا الشّأن، كما في مشاكل بيئيّة أخرى، في حوزتنا. يتوجّب علينا التّحذير من مشكلة التّلوّث الضّوئيّ والإشارة إلى طرق تقليصه. من ضمن ما يمكن فعله، تقليل تسرب الضّوء من محيط المنازل وأماكن العمل. يوجد لمتّخذي القرارات على مستوى الدّولة والبلديّات التّأثير الأكبر في هذا المجال لأنّ الجزء الأكبر من التّلوّث الضّوئيّ ينجم عن الإنارة العامّة ويمكن تقليله، بواسطة التّخطيط المهنيّ، إلى حدّ كبير. شرعت دول كثيرة في تطبيق القوانين الخاصّة والهادفة لتقليل التّلوّث الضّوئيّ من أجسام الإضاءة على مستوى الأفراد.