منذ سنة: نجحت جهود عالميّة منتظمة خلال عدّة عقود في إيقاف استنفاذ طبقة الأوزون. ماذا كانت المخاطر؟ كيف فعلوا ذلك؟ ما هي أوجه الشبه والاختلاف مع أزمة الاحتباس الحراريّ؟
تُعدّ طبقة الأوزون بلا شكّ واحدة من بين أهمّ الظواهر الطبيعيّة المتعدّدة الّتي سمحت بتطوّر الحياة على الأرض. هي طبقة في الغلاف الجويّ تقع على ارتفاع كبير فوق سطح الأرض وهي مسؤولة عن امتصاص معظم الأشعّة فوق البنفسجيّة الخطرة الّتي تنبعث من الشمس ومنع وصولها إلى الأرض. لم يكن بقدرتنا المشي بأمان تحت أشعّة الشمس لو لم تكن هذه الطبقة موجودة في الغلاف الجويّ. كما ومن الممكن أنّه لم يكن باستطاعة الحيوانات الّتي نعرفها اليوم أن تستوطن الأرض على الإطلاق، وكانت ستبقى مستوطنة البحار، حيث تقوم المياه بتصفية الأشعّة فوق البنفسجيّة وحماية الحيوانات.
لكن على الرغم من أهميّة هذه الطبقة الكبيرة في حياتنا، إلّا أنّنا وفقط قبل ثلاثين عامًا كنّا في طريقنا إلى تدميرها نهائيًّا.إنّ طريقة تعاملنا مع هذه الأزمة البيئيّة، الّتي صنعناها بأيدينا، هي علامة بارزة في تاريخ البشريّة، ويُمكننا من خلالها التعلّم كيفيّة التعامل مع الأزمات المماثلة الّتي تحدث من حولنا. إذًا ما هو الأوزون، كيف صنعنا ثقبًا فيه، ولماذا لم نعد نسمع عنه بعد الآن؟
تمتصّ طبقة الأوزون تقريبًا جميع الأشعّة فوق البنفسجيّة الأكثر شدّة (الأسهم من اليمين)، ما يُتيح الحياة على سطح الكرة الأرضيّة كما نعرفها. | رسم توضيحيّ: INNA BIGUN / SCIENCE PHOTO LIBRARY
في أثر الأوزون
يَنتُج غاز الأوزون باستمرار في الغلاف الجويّ حين تتفاعل الأشعّة فوق البنفسجيّة مع جزيئات غاز الأوكسجين (O2). تؤدّي هذه الأشعّة إلى تفكّك غاز الأوكسجين المركّب من ذرّتَي أوكسجين (O2) لذرّات منفردة تتفاعل فورًا مع جزيء غاز أوكسجين آخر لتكوين الجزيء المُركّب من ثلاث ذرّات أوكسجين (O3)، المُسمّاة أوزون. جزيئات الأوزون نفسها (O3) حسّاسة للأشعّة فوق البنفسجيّة، وعند التعرّض لها تتفكّك جزيئات الأوزون مُجدّدًا لغاز الأوكسجين ولذرّة أوكسجين منفردة ترتبط مُجدّدًا بجزيء غاز الأوكسجين، وهكذا دواليك في عمليّة لا نهائيّة تُعرف باسم دورة الأوكسجين- الأوزون. يكون التفاعل الدوريّ الّذي تقوم فيه الأشعّة بتحويل جزيء غاز الأوكسجين لأوزون والعكس في حالة توازن كيميائيّ: حيث تتساوى وتيرة تكوين الأوزون مع وتيرة تفكّكه، وهكذا يكون تركيز الأوزون في طبقة الغلاف الجويّ ثابتًا طوال الوقت. يقوم تفكّك جزيء الأوكسجين والأوزون بامتصاص الطاقة الموجودة في الأشعّة فوق البنفسجيّة ويحوّلها لطاقة حراريّة. إنّ امتصاص هذه الأشعّة فعّال جدًّا، فدورة الأوكسجين- الأوزون مسؤولة عن امتصاص ما بين 97-99 في المائة من جميع الأشعّة فوق البنفسجيّة الخطرة الّتي تصل إلى كوكب الأرض.
لا يشير المصطلح "طبقة الأوزون" إلى طبقة مميّزة في الغلاف الجويّ، إلّا أنّه يصف المنطقة في الغلاف الجويّ والّتي يكون فيها الأوزون ذا التركيز الأعلى مقارنة مع الطبقات الأخرى، على الرغم أنّه لا يزال منخفضًا جدًّا: حوالي 8 جزيئات فقط من كلّ مليون جزيء لأنواع مختلفة في الهواء (جزء في المليون ppm). تقع طبقة الأوزون غالبًا على ارتفاع بين 15-35 كيلومترًا فوق سطح البحر، ويختلف سُمكها حسب المنطقة الجغرافيّة وفصول السنة. يوجد غاز الأوزون بشكل أساسيّ في المنطقة العليا من الغلاف الجويّ بسبب فعاليّة دورة الأوكسجين-الأوزون المرتفعة، الّتي تمتصّ معظم الأشعّة فوق البنفسجيّة لحظة دخولها الغلاف الجويّ. الكميّة القليلة من الأشعّة فوق البنفسجيّة الّتي تصل لطبقات منخفضة أكثر في الغلاف الجويّ غير كافية لتكوين الأوزون.
سبب آخر لتركيز غاز الأوزون المنخفض بالقُرب من السطح هو قلّة ثبات الجزيء. الأوزون هو أحد أقوى الموادّ المؤكسدة الّتي كشفها العُلماء، فقد يتفاعل بشكل سريع مع مجموعة متنوّعة من الموادّ ويتحوّل لمركّبات لا تستطيع أن تمتصّ الأشعّة فوق البنفسجيّة. إنّ التنوّع الكبير للمركّبات الكيميائيّة المُختلفة على سطح الأرض وفي طبقة الهواء القريبة من السطح يستهلك بسرعة الأوزون القليل الّذي ينتج في الغلاف الجويّ السفليّ. لذلك ليس من المستغرب أنّ الثورة الصناعيّة الّتي تسبّبت في انبعاث مجموعة متنوّعة من الغازات أضرّت على الفور بدورة الأوكسجين والأوزون.
ينتج بواسطة الأشعّة فوق البنفسجيّة القادمة من الفضاء، ويحمينا منها. جزيء من غاز الأوزون، يتركّب من ثلاث ذرّات أوكسجين | رسم توضيحيّ: RUSSELL KIGHTLEY / SCIENCE PHOTO LIBRARY
غازات التبريد ضدّ الأوزون
ضمن جميع الموادّ العديدة الّتي أدخلها الإنسان إلى الغلاف الجويّ منذ بدء الثورة الصناعيّة، كانت الكربوهيدرات الهالوجينيّة المادّة الأكثر ضررًا بطبقة الأوزون، وهي تتكوّن من سكريّات تحوي ذرّات من عناصر تنتمي لعائلة الهالوجينات، والموجودة في العمود السابع في قائمة العناصر الدوريّة. تستخدم هذه الكربوهيدرات، وخصوصًا تلك الّتي تحتوي على العناصر كلور وفلور والمُسمَّاة في الإنجليزيّة ب Chloroflurocarbons، أو كما يرمز لها باختصار CFC، بدأ استخدامها كغازات للتبريد في الثلّاجات ومكيّفات الهواء منذ ثلاثينيّات القرن الـ 20. غازات التبريد هي غازات ذات سعة حراريّة عالية تُستخدم لنقل الطاقة بين أجزاء مختلفة في أجهزة عديدة. كانت غازات الـ CFC أقلّ تلويثًا من غازات التبريد الّتي تمّ استخدامها قبل ذلك، بالإضافة إلى كلّ هذا، كانت هذه الغازات مُستقرّة وغير قابلة للاشتعال. لذلك أصبحت شائعة الاستخدام. وسرعان ما انتشر استخدام هذه الغازات في صناعة الكثير من المنتجات، على سبيل المثال في طفّايات الحريق وفي بخّاخات مستحضرات التجميل مثل مُزيل العرق، حيث تمّ استخدامها كغاز تخزين، من أجل زيادة الضغط داخل الخزّانات. يُقدّر أنّ كميّة غازات الـ CFC الّتي تمّ إنتاجها في العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت أكثر من مليون طنّ في السنة.
من جهة أخرى كان استخدام غازات الـ CFC الواسع مدمّرًا. لم يكن من المفترض أن تخرج الغازات من الأجهزة إلى الهواء، حيث كانت محصورة في نظام مُحكم الإغلاق، لكن كان من الصعب جدًّا منع التسريبات، تحديدًا بعد الانتهاء من استخدام هذه الأجهزة والتخلّص منها. بمجرّد تسرّبها إلى الغلاف الجويّ، بإمكان غازات الـ CFC المُستقرّة البقاء هناك حتّى أكثر من 100 عام، وهي مدّة طويلة وكافية لاختراق الطبقات العليا من الغلاف الجويّ حتّى الوصول لطبقة الأوزون. في هذه الطبقات العليا، تتعرّض هذه الغازات للأشعّة فوق البنفسجيّة الّتي تقوم بدورها بتفكيك هذه الغازات وتحرير ذرّات الكلور. توجد لدى ذرّات الكلور قدرة عالية ومُخيفة على تفكيك جزيئات الأوزون: نعرف اليوم أنّه باستطاعة ذرّة كلور واحدة والّتي تصل إلى طبقة الأوزون أن تؤدّي إلى تفكيك أكثر من 100 ألف جزيء أوزون قبل أن تتفاعل وتتوحّد مع جزيئات أخرى وتستقرّ. يؤدّي هذا إلى انخفاض كميّة الأوزون بشكل أسرع من معدّل إنتاجه الطبيعيّ.
فقط في سنة 1974، أي بعد أربعين عامًا من الاستخدام واسع الانتشار لغازات الCFC، تمّ نشر البحث الأوّل الّذي يُحذّر من الضرر الّذي يُمكن أن تُسبّبه هذه الغازات لطبقة الأوزون، وبالتالي الضرر الّذي يمكن أن يلحق بالبيئة أيضًا. كان بحثًا مشتركًا بين ماريو مولينا (Molina) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وفرانك رونالد (Rowland) من جامعة كاليفورنيا، وقد أدّى لحصول كليهما على جائزة نوبل للكيمياء في سنة 1995. افترضت هذه الدراسة ودراسات أخرى عقبتها، أنّه من المتوقّع أنّ الضرر الّذي يصيب طبقة الأوزون قد يؤدّي إلى انخفاض بنسبة 2-4 في المئة من كميّة غاز الأوزون العالميّة بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. كان هذا توقّعًا مقلقًا بشكل كافٍ لدفع دول العالم لاتّخاذ قرارات دوليّة أوّليّة. على الرغم أنّها كانت محدودة نسبيًّا، وتضمّنت بشكل أساسيّ إقامة أنظمة لرصد طبقة الأوزون وتوصيات عامّة لتقليص استخدام غازات الـ CFC، من غير تحديد أيّ إجراءات تجبر هذه الدول على العمل بها.
في النهاية تصل الغاز إلى الغلاف الجويّ. أكوام من الثلّاجات والفريزرات في انتظار إعادة تدوير المعادن الّتي تحويها في مواقع النفايات في إنجلترا | تصوير: JERRY MASON / SCIENCE PHOTO LIBRARY
ضربة أقسى من المتوقّع
مرّت عشر سنوات أخرى تقريبًا حتّى اتّضح وكُشف الضرر الحقيقيّ الّذي هزّ الرأي العام العالميّ. ففي سنة 1985، ظهر الدليل الأوّل على الضرر القاسي وغير المتوقّع والّذي أصاب طبقة الأوزون، حين أدرك العلماء البريطانيّون- جيف فارمان (Farman)، بران جاردينر (Gardiner) وجوناثان شانكلين (Shanklin)- أنّ النقصان في طبقة الأوزون فوق أنتاركتيكا، وهي ظاهرة منتظمة تحدث مع خروج القطب الجنوبيّ من فصل الشتاء المظلم إلى فصل الربيع المشمس، قد زادت ووصلت إلى مستوى غير عاديّ مقارنة مع العقود السابقة. وفقًا للقياسات، كان تركيز الأوزون قد انخفض ب 40 في المئة فوق محطّات الأبحاث في القارّة الجنوبيّة.
تُنتَج غالبيّة الأوزون في الغلاف الجويّ بالقرب من خطّ الاستواء، وهي منطقة تكون بها أشعّة الشمس قويّة طيلة أيّام السنة، ومن هناك قد ينتشر لخطوط العرض الأعلى حتّى يصل إلى الأقطار بواسطة تيّارات الهواء في الطبقات العُليا من الغلاف الجويّ. لكن خلال فصل الشتاء يتطوّر فوق القطب الجنوبيّ نظام بارد و"مغلق"، ما يعني، نظامًا لا يسمح بدخول الهواء من خطوط العرض الأخرى، وبالتالي يتوقّف تزويد طبقة الأوزون بغاز الأوزون حتّى قدوم الربيع.
ما بين سنوات الخمسينيّات حتّى الثمانينيّات، لم يتغيّر نمط التيّارات الهوائيّة في نصف الكرة الأرضيّة الجنوبيّ، ما قد يُفسّر انخفاض تركيز الأوزون فوق القطب. التغيير الأساسيّ الّذي حدث فعلًا كان في تكوين الغلاف الجويّ، وخاصّة في تركيز غازات الـ CFC الّتي اخترقت طبقات عليا حيث توجد طبقة الأوزون. من وجهة نظر العلماء، وجود تركيز عالٍ لهذه الغازات في نظام المناخ الشتويّ في القطب الجنوبيّ أخلّ باتّزان دورة الأوكسجين-الأوزون الحسّاسة في هذه المنطقة، وبسرعة أكبر ممّا توقّعت بعض الدراسات النظريّة الّتي أُجرِيت قبل ذلك بعدّة سنوات. أثارت هذه النتائج القلق من أنّ مساحة "ثقب طبقة الأوزون"- الاسم الّذي سُمّيت به هذه الظاهرة وهو يصف الموقع الّذي انخفض فيه تركيز الأوزون في طبقة الأوزون- سوف تزيد بمرور السنوات ما يُعرّض سكان أستراليا، نيوزيلندا وجنوب القارّة الأمريكيّة للخطر، بالإضافة إلى سكّان المناطق الأكثر شمالا على المدى البعيد.
مستويات غير اعتياديّة. محاكاة للقمر TOMS التابع لناسا من سنة 1983 تظهر تركيز الأوزون فوق أنتاراكتيكا. تمثّل المناطق في اللون الغامق مستويات الأوزون المنخفضة | المصدر: NASA، المشاعات العامة
مُحاربة فعّالة
دفع هذا الاكتشاف المقلق في سماء أنتاراكتيكا في سنة 1985 إلى زيادة الاستثمار بأبحاث الأوزون، وإلى موافقة جميع الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة على بروتوكول مونتريال في سنة 1987. وضع البروتوكول قواعد لوقف تدريجيّ لعمليّة إنتاج غازات CFC وموادّ هالوجينيّة أخرى، اتّضح أنّها ضارّة بطبقة الأوزون، ما يؤدّي إلى وقف استخدامها. حدّدوا في الاتّفاق أنّ استخدام غازات ال CFC وغازات أخرى مشابهة سيتوقّف نهائيًّا حتّى عام 1996 في الدول المتقدّمة، أمّا الغازات الهالوجينيّة الأخرى، سيتمّ التخلّص منها بشكل تدريجيّ في السنوات التالية. بالإضافة لكلّ هذا وكجزء من الاتفاقيّة، تمّ إنشاء صندوق دوليّ لتقديم الدعم الاقتصاديّ والتقنيّ للدول النامية، حتّى تتمكّن الأخيرة من تحقيق نفس الغاية. عُدّل الاتّفاق في السنوات التالية وأضيف إليه إجراءات أكثر صرامة.
نجحت المساعي الدوليّة. حتّى سنوات الألفين السابقة، بتوقّف شبه كامل لاستخدام وإنتاج غازات الـ CFC حول العالم، وحتّى سنة 2009، تمّ أيضًا وقف استخدام أغلبيّة الغازات الأخرى المذكورة في الاتّفاق. لم يمرّ الكثير من الوقت لتظهر النتائج في الغلاف الجويّ. في نهاية التسعينيّات، توقّف تركيز الغازات الهالوجينيّة عن الارتفاع في القطب الجنوبيّ، حتّى أنّه في العقد الأخير تمّ قياس انخفاض بتركيزها. في المقابل، توقّف انخفاض تركيز الأوزون فوق القطب الجنوبيّ، والّذي كان مستمرًّا بالهبوط بشكل ثابت في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ووفقًا لبعض الدراسات فإنّ الوضع قد انعكس، حيث بدأ تركيز الأوزون في الارتفاع بشكل بطيء.
إنّ الطريق لتعافي طبقة الأوزون بالكامل ما زال طويلًا، ومليئًا بعثرات مصدرها التباين الكبير الّذي يميّز النظام المناخيّ. في سنة 2005، وصل محيط الثقب في الاوزون إلى ذروته منذ بدء القياسات. ووصلت مساحته إلى ما يقارب الـ 27 مليون كيلومتر مربّع،، وهذا أكبر من مساحة روسيا. في سنة 2015 توسّع الثقب ليصل محيطه إلى ما يقارب الـ 28 مليون كيلومتر مربّع بسبب حدث جلل. ولكن على الرغم من هذه الأحداث المنفردة، أجمع غالبيّة المجتمع العلميّ أنّ ثقب الأوزون في طريقه لأن يُغلق، وإذا استمرّ تنفيذ ما جاء في بروتوكول مونتريال، سوف يختفي الضرر الّذي ألحقه الإنسان بطبقة الأوزون حتّى سنة 2065.
يعتبر بروتوكول مونتريال بين الغالبيّة أنّه الاتّفاق الدوليّ الأكثر نجاحًا حتّى الآن، والوحيد الّذي وافقت عليه جميع الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة. من الممكن أن يكون المسؤول المباشر عن نجاة الجنس البشريّ كما نعرفه اليوم، وأيضًا عن نجاة أنظمة بيئيّة عديدة. يُقدّر أنّه لو لم يتمّ اتّخاذ أيّ إجراءات من أجل حماية طبقة الأوزون، واستمرّ انبعاث الغازات المضرّة بها بنفس الوتيرة، لكان ثقب الأوزون سيُغطّي كلّ الكرة الأرضيّة حتّى سنة 2040. في عالم كهذا، سيؤدّي التعرّض المباشر والمستمرّ للبيئة الخارجيّة خلال ساعات النهار للإضرار بشكل كبير في متوسّط عمر الإنسان.
الاتّفاق الأكثر نجاحًا. عدد الدول الّتي وافقت على بروتوكول مونتريال حسب المنطقة الجغرافيّة وسنة انضمامها | المصدر: Our World in Data, Wikipedia
من أزمة لأزمة
هناك الكثير من أوجه الشبه بين أزمة ثقب الأوزون وأزمة الاحتباس الحراريّ الّتي ما زلنا نواجهها. نتج كلاهما عقب نشاط بشريّ غير مُراقَب والّذي يؤدّي لانبعاث غازات إلى الغلاف الجويّ، بالإضافة لذلك، بإمكانهما أن يُسبّبا تدميرًا للظروف البيئيّة الّتي تسمح بالحياة على كوكب الأرض ومعاناة كبيرة للبشريّة. لكن مقارنة بتعامل البشر الناجح مع ثقب الأوزون، يبدو أنّ الأمر مختلف تمامًا فيما يتعلّق بمواجهة الاحتباس الحراريّ.
السبب الرئيس للاختلاف في تعامل البشريّة مع الأزمتين يتلخّص بالإجراءات الّتي يتوجّب على دول العالم العمل بها حتّى تعكس الآية. كان التوقّف عن استخدام غازات الـ CFC نسبيًّا حلًّا سهلًا. لهذه الغازات عدّة بدائل ممكنة، ولم يضرّ الانتقال لاستخدام هذه البدائل باقتصاد أيّة دولة من الدول. يتطلّب الحلّ لأزمة الاحتباس الحراريّ إجراءات طويلة الأمد، في الأساس تقليل استخدام الوقود الأحفوريّ، وهو مصدر الطاقة المستخدم بشكل حصريّ بمعظم دول العالم. ولا توجد حلول سهلة لهذا الطلب، والحلول القائمة ستُلزم الدول، الصناعات والمواطنين العاديّين أن يقدّموا تنازلات مؤلمة لا يُسرع أحد لتنفيذها.
قد يكون هناك سبب آخر لصعوبة التعامل مع أزمة المناخ مقارنة بأزمة ثقب الأوزون، وهي الطبيعة التفاعليّة لوسائل التواصل الحديثة. في يومنا هذا، تتلقّى شريحة كبيرة من المجتمع جزءًا كبيرًا من معلوماتها من شبكات وسائل التواصل الاجتماعيّ الّتي لم تُبنَ خصّيصًا لتُعطي أيّة معلومات موثوقة أو توفّر وجهة نظر شموليّة. في كثير من الحالات تُؤدّي هذه الشبكات للانكشاف على وجهات النظر المتطرّفة، لأنّ هذه الآراء تجذب أشخاصًا أكثر في الشبكة.
تُعتبَر المكانة المركزيّة لشبكات التواصل الاجتماعيّ في حياة الإنسان اليوم، أحد الأسباب الّتي أدّت إلى حدوث استقطاب في الآراء. من جهة هناك الآراء المؤيّدة لحماية البيئة الّتي يتبنّاها بشكل عام تيّار اليسار الاجتماعيّ-الاقتصاديّ، ومن الجهة المقابلة فهناك الآراء الّتي تعتبر أنّ هذه المخاوف لا تبرّر إيقاف النموّ الاقتصاديّ في العالم، والّتي يتبنّاها غالبًا تيّار اليمين الاجتماعيّ-الاقتصاديّ. في بيئة سياسيّة ذات قطبَين، حيث يقوم كلّ معسكر بتحصين نفسه والدفاع عن نفسه ضدّ الأخر، بدلًا من التعاون والتكاتف من أجل قضيّة بالغة الأهميّة ستحدّد بقاءنا على سطح الأرض. كانت شبكات التواصل الاجتماعي والنشاطات الاجتماعيّة الّتي تُحدثها شبه موجودة ولم تكن بهذه الأهميّة عندما تمّت الموافقة على بروتوكول مونتريال، قبل ثلاثة عقود تقريبًا، وقد يكون مُثيرًا للفضول معرفة كيف كان سيُدار النقاش حول هذه الأزمة في يومنا.
تُعلّمنا أزمة ثقب الأوزون السهولة المدهشة الّتي يمكننا من خلالها التأثير في العمليّات الطبيعيّة في كوكب الأرض، أيضًا في تلك الّتي تبدو لنا للوهلة الأولى معقّدة وأكبر من أن تُحدث فيها أفعالنا أيّ تغيّر. يُعلّمنا هذا عن أهميّة العلم والمجتمع العلميّ في عمليّة اتّخاذ القرارات ايضًا، وعن أهميّة تشكيل العلاقة بين الإنسان والكوكب الّذي يعيش فيه. الرابط الّذي أصبح اليوم شائعًا بين العلم والآراء السياسيّة، وكنتيجة لذلك- رفض نتائج الأبحاث من قِبل بعض التيّارات السياسيّة سيء جدًّا لنا، ويمكنه أن يؤدّي إلى عدم إدارة الأزمات الحاليّة والمستقبليّة بشكل حكيم ومسؤول، ولن يتمّ التعامل معها بشكل جادّ كهؤلاء الّذين نجحوا في حلّ أزمة ثقب الأوزون.