إنّ عودة انتشار الفطريّات القاتلة، والّتي دمّرت صنف الموز الحلو غروس ميشال في القرن الماضي، دفعت أُستراليا إلى الموافقة على تناول الموز المُعدَّل وراثيًّا والمقاوم للمرض

يعتبر الوضع الحالي لمحصول الموز في العالم مثيرًا للقلق الشديد، خاصّة في ظلّ التحدّيات المتزايدة في توفير الغذاء بشكل كافٍ للأعداد المتزايدة من البشر. يواجه الموز تحدّيًا صعبًا للبقاء على قيد الحياة ضدّ الفطريّات الّتي تهاجم المزارع، ويبدو، حتّى الآن، أنّه في وضع لا يبعث التفاؤل. والآن هناك احتمال أن يؤدّي االاستخدام المهنيّ للتقنيّات المتطوّرة في الهندسة الوراثيّة إلى منح الموز الميزة الّتي يحتاجها لتعديل كفّة الميزان في مكافحة الآفات الّتي تهدّد استمرار وجوده.

الموز هو ثمرة ذات قيمة غذائيّة، طبيّة، وصناعيّة كبيرة. زُرعت أصناف الموز البريّة لأوّل مرّة في جزر بابوا في غينيا الجديدة، إندونيسيا، والفلبين، وأماكن أخرى في جنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا. ومع توسّع التجارة العالميّة، انتشر الموز المزروع أيضًا في أفريقيا والشرق الأوسط وفي نهاية المطاف في  أمريكا. وفي الوقت الّذي تأسّست فيه صناعة الموز الحديثة، في نهاية القرن التاسع عشر، كان الصنف السائد في الأسواق هو غروس ميشال (Gros Michel)، بطعمه الغنيّ ورائحته القويّة. واليوم، معظم الموز المعروض للبيع هو كافنديش (Cavendish)، والّذي يفتقر إلى الطعم. ماذا حدث لصنف غروس ميشال؟


ينمو الفطر في التربة، لذلك لا يمكن زراعة نباتات الموز في منطقة مصابة بالعدوى لأنّها قد تُصاب بالمرض. إصابة أوراق نبات الموز بالفطر | مصدر: Edgloris Marys, Shutterstock

هزيمة محسومة

مثل معظم أنواع الموز الّتي يتمّ زراعتها، ينشأ صنف غروس ميشال وكافنديش من تهجين طبيعيّ بين نوعي الموز المستدقّ (Musa acuminata) و الموز البالبيسيّ (Musa balbisiana). تؤدّي عمليّات التهجين المماثلة لهذه إلى خلق نباتات تختلف عن بعضها في العديد من الميزات. مع ذلك، فإنّ طريقة زراعة الموز تجعل نباتات الموز الموجودة في كلّ مزرعة متطابقة وراثيًّا، لأنّ جميعها مستنسخة من نفس النبات الأم. مثل العديد من النباتات الأخرى، يتكاثر الموز بالطريقة الخضريّة، أي التكاثر اللاجنسيّ حيث تكون النباتات الصغيرة نسخًا  وراثيّة دقيقة عن والديها. من المعتاد اليوم زراعة النباتات بهذه الطريقة مباشرة من مزارع الخلايا.

يبذل الباحثون جهدًا كبيرًا لحماية الموز المزروع من الأمراض والآفات. حظيت أبحاث الموز باهتمام  كبير بعد أن تضرّر صنف غروس ميشال بشدّة بسبب الإصابة بفطر المِغْزَلاَوِيَّةُ الحادَّةُ الأَبْواغ (Fusarium oxysporum)، والّذي قضى عمليًّا على المحاصيل الزراعيّة في جميع أنحاء العالم. يسبّب هذا الفطر مرض بنما (Panama disease)، والّذي سُمِّي بهذا الاسم لأنّه انتشر في العشرينيّات من القرن الماضي في مزارع الموز في بنما وسبّب أضرارًا جسيمة. يستولي الفطر على العناصر الغذائيّة للنباتات المصابة ويقتلها في النهاية. لا يوجد علاج لهذا المرض، ونظرًا لأنّ الفطر يعيش في التربة، لم يعد من الممكن استخدام المناطق المصابة لزراعة معظم أنواع الموز.

تكبّد المزارعون خسائر فادحة بسبب مرض بنما، وفي وقت قصير اختفى صنف غروس ميشال من الأسواق في جميع أنحاء العالم. حتى منتصف القرن العشرين، اضطرّ مزارعو الموز إلى تحويل صنف الموز الحلو والكبير الّذي يفضّلونه إلى صنف الكافنديش، والذي كان أكثر مقاومة للفطريّات، ولكنّه يُعتبر أقلّ شهيّة.

يعود أحد الأسباب الرئيسة لاختلاف الطعم بين ثمار الصنفين إلى اختلاف تركيبهما الجزيئيّ. ينبع الطعم المميَّز لفاكهة الموز من جزيء حمض الإيزوأميل (isoamyl acetate)، والّذي يُضاف عادة إلى المنتجات في صناعة الموادّ الغذائيّة لمنحها طعم ورائحة الموز. كان تركيز الجزيء في موز غروس ميشال مرتفعًا بشكل خاصّ، وبالتالي كان طعمه مركّزًا وغنيًّا أكثر بكثير من موز كافنديش، والّذي يحتوي على مادّة "موز" أقلّ بكثير.


يحتوي الموز المعدَّل وراثيًّا من صنف كافنديش على جين يحميه من الفطريّات. موز من صنف كافنديش (يسار) وصنف غروس ميشال (يمين) | المصدر: KRP879 / SurianiSuzie, Shutterstock

خطر مُجدَّد

لم يختفِ الفطر الّذي ألحق الضرر بصنف جروس ميشال، بل استمرّ في الخضوع للتغيّرات وإصابة مزارع الموز، بحيث ظهر مجدَّدًا وبقوّة في سنوات التسعينيّات. في هذه المرّة، أظهرت الفطريّات القدرة على مهاجمة صنف الكافنديش أيضًا، وبوتيرة أسرع. انتشر المرض من شرق آسيا إلى أفريقيا ومن هناك إلى الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل. عقب ذلك، أًصبح صنف الكافنديش أيضًا في خطر. لكن هذه المرّة، طوّر الباحثون خطّة لإنقاذ الموز من المصير المرير الذي لحق بصنف غروس ميشال- بواسطة استخدام أدوات الهندسة الوراثيّة.

يبعث التقدّم بالتكنولوجيا الحيويّة الأمل في استمراريّة مزارع الموز حول العالم. وافقت الحكومة الأستراليّة لأوّل مرّة على إطلاق ثمار موز مُعدَّلة وراثيًّا من صنف كافنديش بمساعدة علماء من كوينزلاند (Queensland). بحيث تمّ إدخال جين يميّز الموز البريّ للصنف المُسمَّى QCAV-4، ما منح ثمار الموز مناعة كاملة تقريبًا ضدّ الفطريّات الّتي تسبّب مرض بنما. ووفقًا لعالِم الأحياء جيمس ديل (James Dale)، والّذي يرأس برنامج التكنولوجيا الحيويّة للموز في جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا، فإنّ الهدف هو الاعتماد على خصائص جينات معيّنة لمواصلة تحسين مقاومة الموز للأمراض والآفات، مثل فطر أوراق سيجاتوكا السوداء (Black sigatoka)، الّذي يهاجم نباتات الموز.

يُعدّ الصنف الجديد أوّل نبات موز مُعدَّل وراثيًّا في العالم وأوّل فاكهة مُعدَّلة وراثيًّا تمَّت الموافقة على زراعتها في أُستراليا. بطبيعة الحال، كان ديل سعيدًا جدًّا بالقرار، على الرغم من أنّ النباتات المُعدَّلة، حتّى الآن، من المقرَّر استخدامها فقط كنسخة احتياطيّة، في حالة استمرار انتشار مرض بنما. وحسب ادّعائه، فإنّ الهندسة الوراثيّة للنباتات المقاومة لا تعزّز حماية المحصول فحسب، بل تمهِّد الطريق أيضًا لتأمين مستقبل البشريّة ضدّ التهديدات أو التحدّيات البيئيّة في مواجهة تغيّر المناخ العالميّ. وهناك من يأمل في إعادة موز غروس ميشال المفقود إلى الأسواق بهذه الطريقة.

0 تعليقات