عند طيور القرقف الّتي تدفن غذاءَها تحت الأرض لفصل الشتاء، بيَّن العلماء أنَّ الأفراد الّذين برعوا باختبار الذّاكرة المكانيّة عاشوا لوقتٍ أطول بكثير من أصحاب الذّاكرة الضّعيفة.
هل يجب أن تتمتع الطّيور بالذّكاء؟
للوهلةِ الأولى، يبدو السّؤالُ غريبًا. فمن البديهيّ أن نفترض أنّ الطّيور الذكيّة، أو بشكلٍ عامّ، الحيوانات الأكثر ذكاءً، ستتفّوق على نظيراتها الأقلّ ذكاءً. فبفضل ذكائها ستتمكّن من الهروب من المفترسات بشكل أفضل، والحصول على غذاءٍ أفضل.
لكن هذا الافتراض ليس صحيحًا بالضّرورة، على الأقلّ ليس بالنّسبة لجميع الحيوانات. على سبيل المثال، الحيوانات الّتي تتغذّى على الأعشاب ليست بحاجة للتّمتّع بقدرٍ عالٍ من الذّكاء، من أجل أن تجد وتلتقط الأوراق الخضراء الموجودة في كلّ مكانٍ حولها. بالمقابل، تحتاج الطّيور الّتي تخبّئ المكسّرات والبذور في الأرض أن تتذكّر، مكان دفنها، لتتمكّن من استخراجها وأكلها لاحقًا. لكن، حتّى في هذه الحالة، لا يمكننا الجزم أنّ الذّاكرة الجيّدة ستؤدّي بالضّرورة إلى حياة أفضل أو أطول. طالما أنّ الطّائر قادر على العثور على ما يكفي من البذور دون هدر الكثير من الطّاقة، فهو بخير- ولا يحتاج أن يكون بطل العالم في ألعاب الذاكرة. هل ستساعده الذّاكرة المتقدّمة، أكثر من المطلوب لهذه المهمّة، على العيش لفترة أطول؟ من غير المؤكّد. حتّى أنّ القدرات الإدراكيّة غير المتعلّقة بالذّاكرة، قد تكون غير مفيدة لهذه الطّيور على الإطلاق.
لم تكشف الأبحاث الّتي تعمّقت في فحص العلاقة بين الذكاء وطول العمر عن أيّ نتائج حاسمة. فقد اعتمدت أغلب هذه الدّراسات على حجم الدّماغ كمقياسٍ للذّكاء. بينما ادّعى البعض أنَّ أصحاب الأدمغة الأكبر يمتلكون فرص بقاء أعلى، أظهر آخرون، خاصّةً أولئك الّذين ركّزوا على الاختلافات بين الأفراد من نفس الجنس، العكس تمامًا.
يكمن جزء من المشكلة في التّركيز على حجم الدّماغ، وذلك لكوّنه معطى سهل القياس، خاصّةً بالمقارنة مع تنظيم امتحانات الذّكاء IQ للحيوانات. على الرّغم من امكانيّة وجود علاقة بين حجم الدّماغ والذّكاء، إلّا أنّها ليست علاقة مباشرة وبسيطة، خصوصًا داخل نفس النّوع: فلا يمكننا أن نفترض، للأسف، أنّ الأفراد الّذين يمتلكون أدمغة أكبر يتمتّعون بذكاءٍ أعلى بالضّرورة.
قرّر باحثون من الولايات المتّحدة وكندا اتّخاذ مسار أكثر تعقيدًا ودقّة، وإجراء اختبارات ذكاء للطّيور الّتي يدرسونها، من نوع قرقف جبليّ (Poecile gambeli) – وهي من أنواع الطّيور الّتي تدفن غذاءَها في الأرض. في دراسة نشرت مؤخّرًا، يظهر الباحثون أنّ طيور القرقف الّتي حصلت على نتائج أعلى في اختبارات الذّاكرة المكانيّة عاشت لوقتٍ أطول، بالمعدّل، من الطّيور الّتي حصلت على نتائج أقل في اختباراتٍ مماثلة.
موجّهون نحو الهدف
خلال فترة الصّيف، تتغذّى طيور القرقف الجبليّ على الحشرات، لكن عندما تقلّ الحشرات في الشتاء، تعتمد هذه الطّيور على البذور الّتي خزّنتها في الأرض في وقتٍ سابق. قال فلاديمير برافوسودوف (Pravosudov) من جامعة نيفادا، الباحث الرئيسي للمقال الجديد، في مقابلة مع "نيويوركر"إنّ هذه الطّيور تبدو وكأنّها تعلم تمامًا مكان وجود البذور. " في كلّ مرّة أراهم يستخرجون البذور، يبدون وكأنّهم موجّهون نحو الهدف، ولا يقومون بأي عمليّة بحث، ببساطة "بوم"، ويسحبونها للخارج، عندما ترى ذلك، يبدو الأمر مثيرًا للإعجاب للغاية".
يتابع برافوسودوف وزملاؤه مجموعة من طيور القرقف الجبليّ في جبال سييرا نيفادا بالولايات المتّحدة منذ تسع سنوات. خلال هذه الفترة، ميّزوا الطيور بحلقاتٍ مزودة بعلامات RFID: عندما تقترب الطيور من الجهاز القارئ للعلامات، يبثّ الجهاز تردّدات راديو فريدة، الّتي تساهم بدورها في تحديد هويّة الطّائر.
بنى الباحثون مجسّمًا مركبًا من ثماني صناديق تغذية، موزّعة على إطار مربع بطول 122 سم للضّلع. يحتوي كلّ صندوق طعام على جهاز قارِئ للعلامات، إذ يعمل الجهاز على تمييز وتسجيل هبوط كلّ طائر قرقف يمرّ بجانبه. لفحص قدرة التّذكّر عند هذه الطّيور، صمّم العلماء التّجربة بالشّكل الآتي: كلّ صندوق طعام ينتمي إلى طائر قرقف معيّن، حيث يفتح الصّندوق فقط لهذا الطّائر دون غيره ويمنحه بذرة. يقوم جهاز قراءة العلامات بتسجيل كلّ زيارة للطّيور للصّناديق الأُخرى، لكن دون تقديم أيّ نوع طعام لهذه الطّيور. وُزّعت الصّناديق بين طيور القرقف، حيث يفتح صندوق رقم 2 لأحدهم فقط، ولآخر الصّندوق رقم 5، وهكذا.
يمكنكم مشاهدة محطة التّجربة بالفيديو:
أهميّة الذّاكرة المكانيّة
على مدى أربعة أيّام من التّجربة، وثّق الباحثون عدد الصناديق "غيّر الصّحيحة" الّتي توجّه إليها كلّ طائر قرقف، قبل أن يصل إلى صندوقه المخصّص ويحصل على طعامه. كما كان متوقّع مالت الطّيور إلى تذكّر الصّندوق الّذي فُتح لها، لذلك مع تكرّر الزّيارات للمجسّم، قلَّت نسبة الخطأ، أي محاولة استخراج الطّعام من الصّناديق المغلقة. مع ذلك لم تُظهر كلّ الطّيور نفس القدرة على التّذكّر: فقد نجح البعض في تمييز مكان الصّندوق الصّحيح بسرعة وتوجّهوا إليه مباشرة، بينما استغرق الآخرون وقتًا أطول، أو استمروا في ارتكاب أخطاء من حين لآخر.
في بحثٍ سابق، بيَّن العلماء أنّ ذاكرة طيور القرقف، كما تبيّن من عدد الأخطاء الّتي ارتكبتها، ارتبطت بفرص نجاتها خلال شتائها الأوّل: حيث زادت نسبة التّعرّض للموتِ عند الطّيور ذات الذّاكرة الضّعيفة. أوضح برافوسودوف: " يعتبر الشّتاء الأوّل مرحلةً حاسمةً، ويشكّل عنق زجاجة فيما يتعلّق بموضوع البقاء"، "حتّى الفروقات الصّغيرة لها تأثير كبير".
الآن، واستنادًا إلى نتائج الاختبارات الّتي أُجريت على 227 طائرًا، حتّى بعد اجتياز الشّتاء الأوّل، بيّن العلماء أنّ الطّيور ذات الذّاكرة الأفضل، أي الّتي ترتكب أخطاءً أقلّ بالاختبارات، تعيش لفتراتٍ أطول. بشكلٍ عامّ، تعيش طيور القرقف لعاميْن، مع ذلك أظهرت نتائج البحث، أنّ الطّيور الّتي تمتلك أقوى ذاكرة مكانيّة تصل، بالمتوسّط، إلى عمر الثّلاث سنوات، بالمقابل عاشت الطّيور الّتي حصلت على أدنى النّتائج بالمتوسّط، لما يزيد عن السّنة بقليل.
"توضّح الدّراسة، أنّ طيور القرقف الجبليّة الّتي تمتلك ذاكرة مكانيّة أفضل، لديها فرصة أكبر بالعيش لمدّة أطول"، لخّصت الباحثة كاري برانش (Branch) من جامعة ويسترن في كندا في بيانٍ صحفيّ. "تمكّنها هذه القدرات من العثور على الغذاء المدفون، وبذلك التّكيّف مع الظّروف البيئيّة القاسية وغير المتوقّعة، بما في ذلك ظواهر التّطرّف المناخيّ النّاتجة عن التّغيّرات المناخيّة".
من يتذكّر مكان الطّعام، لديه فرصة أفضل للعيش لفترة أطول. قرقف جبليّ ينتظر فتح صندوق طعامه في محطّة التّغذية. يمكن رؤية حلقات التّميّيز على قدم الطّائر | تصوير: Vladimir V. Pravosudov, Western University
مرونة التّفكير؟ غير ضروريّة!
بعد أربعة أيام من التّجربة الّتي اختبر خلالها الباحثون ذاكرة طيور القرقف، استبدلوا صندوق الطعام الخاصّ بكلّ طائر: على سبيل المثال، إذا كان طائر معيّن يحصل على طعامه فقط من الصّندوق رقم 2، فإنّ الصّندوق الّذي يفتح له الآن هو رقم 4. حيث كان الهدف من التّجربة فحص ليونة التّفكير عند هذه الطّيور- سرعة فهمها للظّروف المتغيّرة، وتكيّفها للأوضاع الجديدة.
قد يكون الأمر مفاجِئًا، لكن لم تُعثر على أيّ صِلة بين النّجاح بامتحان التّكيّف ومتوسّط العمر المتوقّع. غالبًا ما تركّز النّظريّات الّتي تربط بين الذّكاء والعيش لفترة أطول على القدرة على التّكيّف مع المتغيّرات، والتّعامل مع الظّروف غير المتوقّعة. لذلك وفقًا لهذه النّظريّة، كنّا نتوقّع أن تكون المرونة الفكريّة واحدة من أهم القُدرات، لكن على ما يبدو في حالة طيور القرقف، لا تساهم هذه القُدرة في تحسين فرصها في البقاء بشكلٍ ملموس. إذ تشكّل الذّاكرة المكانيّة أهمّيّةً أكبر لهذه الطّيور، بسبب اعتمادها على الطّعام المدفون للنّجاة.
يشدّد العلماء على أهمّيّة الأبحاث طويلة المدى على الحيوانات البرّيّة، مثل هذا البحث. فهي تتيح تعقّب الأفراد وقياس خصائص جسديّة، وصفات مختلفة مثل الذّاكرة وقدرات ذهنيّة أخرى. سيواصل الباحثون دراسة سلوك طيور القرقف في جبال سييرا نيفادا، لكن في الوقت الحالي، قالت برانش: "يمكننا التّأكيد على أنّ طيور القرقف تعرف كيفيّة دفن الطّعام والعثور عليه مرّة أخرى باستخدام الذّاكرة المكانيّة، وأنّ أولئك الّذين يفعلون ذلك بشكل أفضل يعيشون لفترة أطول".