يستخدم الباحثون النّسبة بين حجم الدّماغ وحجم الجسم كمقياس للذكاء، بناءً على الافتراض القائل بأنّ الدّماغ الكبير قد تطوّر نتيجة الضغط الاصطفائي لقدرات عقليّة مرتفعة. في بحث جديد، تمّ التّشكيك بهذا الافتراض، والادّعاء بأنّ دماغًا كبيرًا نسبيًّا يمكن أن يتطوّر لأسباب مختلفة.

يتميّز البشر بأدمغة كبيرة الحجم. هنالك بالطّبع سمات أخرى تميّزنا عن الأجناس المختلفة من الحيوانات، ولكن يُنظرعمومًا إلى دماغنا الكبير، وإلى القدرة التّفكيريّة التي يُزوّدنا بها، على أنّها السّمة الأكثر اهميّة، الميزة الأساسيّة للجنس الّذي كان فخورا بذكائه إلى الحدّ الذي جعله يطلق على نفسه لقب "الإنسان الحكيم".

ومع ذلك، فإنّ دماغنا ليس الأكبر في عالم الحيوان: هذا الشّرف يعود إلى حيتان العنبر(Physeter macrocephalus). في الواقع، يتميّز حوت العنبر برأس كبير جدًا، والذي يحتوي على دماغ يزن حوالي ثمانية كيلوغرامات، مقارنة بأقلّ من كيلوغرام ونصف عند البشر. بالطبع، فإنّ حيتان العنبر أكبر منّا حجمًا بكثير: فيبلغ طول الذكور حوالي 16 مترًا. على الرغم من حجم دماغهم الكبير، إلّا أنّه يمثّل نسبة أقلّ من وزن الجسم مقارنةً بالبشر.

إذاً، هل هذا هو ما يتفوّق فيه العقل البشريّ؟ هل النّسبة بين الدّماغ والجسم، أي نسبة وزن الدّماغ من وزن الجسم، مرتفعة بشكل خاصّ عند الإنسان؟ ليس حقًّا كذلك. النسبة لدينا هي 1:40، كالفئران، فيما عند بعض الطّيورالصّغيرة يشكّل الدّماغ نسبة أكبر بكثير من وزن الجسم. وليس من قبيل المصادفة أنّ الأمثلة المذكورة هي لمخلوقات صغيرة مثل الفأر أو عصفور الدّوري: في معظم الحالات، كلّما كان حجم الحيوان أصغر، زادت نسبة وزن دماغه من جسمه.

على مرّ السّنين، طوّر الباحثون رسمًا بيانيًا يوضّح كيف يتغيّر حجم الدّماغ بالتناسب مع حجم الجسم. تمثّل كلّ نقطة على الرّسم البيانيّ جنسًا من الحيوانات، وتشكّل النقاط خطًّا يصف العلاقة بين المؤشّرين. الحيوانات التي تقع فوق الخطّ الذي تُكوّنه هذه النقاط تتمتّع بدماغ أكبر من المتوّقع من حيوان بهذا الحجم، وتلك التي تقع تحت الخطّ هي ذات دماغ أصغر من المتوقّع.

مخطّط توزيع كتلة الدّماغ وكتلة الجسم. رسم توضيحي: Smaers et al. / Science Advance.
يمتلك البشر (أحمر) والدّلافين (أسود) دماغًا أكبر من المتوقّع من الحيوانات بهذا الحجم. يمتلك أسود البحر (أرجواني) أدمغة أصغر من المتوقّع. مخطّط توزيع كتلة الدّماغ وكتلة الجسم. رسم توضيحي: Smaers et al. / Science Advance.

عقل كبير، حيوان ذكيّ؟

يرى العديد من الباحثين أنّ حجم الدّماغ -تحديدًا انحراف حجم الدّماغ عن الحجم المتوقّع- مقياسًا للذّكاء، وهو مقياس يُشار إليه أحيانًا باسم حاصل الدّماغ (Encephalization quotient, EQ). وهذا يعني أنّ الحيوانات التي أدمغتها أكبر من المتوقّع في الرسم البياني تُعتبر أكثر ذكاءً. تتمثّل إحدى مزايا هذا النهج في أنّه يجعلنا -نحن البشر- في وضع جيّد للغاية: أدمغتنا أكبر بكثير ممّا هو متوقّع من الحيوانات بحجمنا، وبالتّالي فإنّ حاصل الدماغ لدينا هو الأعلى. تأتي الدّلافين في المرتبة التّالية بعدنا.

تستند الفرضيّة القائلة بأن حاصل الدّماغ  يتنبّأ بمدى ذكاء جنس معيّن على عدة افتراضات. لعلّ أهمّها هي أن الحيوانات ذات الأدمغة الأكبر قد تكون تعرّضت لضغط اصطفائيّ لتطوير دماغ أكبر - شيء ما في بيئتها تسبّب فقط للأفراد ذوي الأدمغة الأكبر حجمًا، وبالتالي الأكثر ذكاءً، في البقاء على قيد الحياة. يعدّ الدّماغ عضوًا مُكلفًا بشكل خاصّ من حيث الطّاقة، لذا،  من المحتمل أنّ الحيوانات ذوات الدّماغ الكبير قد طوّرته كآليّة تكيّف مع بعض الاحتياجات.

في دراسة جديدة، قام فريق من الباحثين العالميّين بفحص بيانات لحجم الدّماغ والجسم لحوالي 1400 نوع من الثديّيات، معظمها حيّة في عصرنا، وبعضها منقرضة. وقد توصّلت نتائج البحث إلى أنّ هذه الافتراضات غير سارية على جميع أنواع الثدييّات، حيث أنّ نسبة حجم الدّماغ وحجم الجسم تتغيّر بشكل مختلف عند الأنواع المختلفة. لا يزعم الباحثون عدم وجود علاقة بين حجم الدّماغ والذّكاء، لكنهم يحذّرون من أنّ هذه العلاقة قد تكون أكثر تعقيدًا ممّا كنّا نظنّ حتّى الآن.

تكبير الدّماغ أو تصغير الجّسم

ليس هناك شكّ في أنّ أدمغة بعض مجموعات الثدييات تتوافق مع الافتراضات القديمة، وقد نمَت أدمغتها وفقًا للحاجة البيئيّة التي تتطلّب تفكيرًا أكثر تطورًا. من الممكن إيجاد أحد الأمثلة الأكثر وضوحًا على ذلك في السلالة البشريّة، أي تلك التي أدّت إلى تطوّر الجنس البشريّ بعد الانفصال عن سلالة الشمبانزيّ. في هذه السّلالة، كانت هنالك زيادة ملحوظة في حجم الدّماغ، ممّا أدّى إلى أنّ أدمغة الأشخاص المعاصرين تُشكّل نسبة أعلى بكثير من وزن أجسامهم مقارنة بأسلافهم السّابقين، منذ أربعة وخمسة ملايين سنة. كان هذا هو الحال أيضًا مع الفيلة والدلافين، على سبيل المثال.

لكن في حالات أخرى، يقول الباحثون، لا يتمّ الوصول إلى النّتيجة النهائيّة للدّماغ الكبير نسبة للجسم عقب تكبير الدماغ، إنّما عقب تقليص حجم الجسم. على غرار ذلك، يمكن تكوين أدمغة صغيرة نسبيًّا إثر تكبير الجسم.

 أسود البحر في المرسى 39 في سان فرانسيسكو | تصوير: يونات اشخار
أذكياء، على الرغم من أنّ أدمغتهم أصغر من المتوقّع. أسود البحر في المرسى 39 في سان فرانسيسكو | تصوير: يونات أشخار

قد يحدث تكبير وتقليص للجسم نتيجةً لأنواع مختلفة من الإجهاد. على سبيل المثال، تميل الحيوانات التي تقضي معظم وقتها على الأرض إلى أن تكون أكبر حجمًا من نظيراتها اللّاتي تعشن على الأشجار، نظرًا لأنّ الجسم الكبير يُصعّب عمليّة التنقّل بين الأغصان. وهكذا، وجد الباحثون أنّه من بين مجموعة معيّنة من القرود، والتي تشمل الرُبّاح وقرود المكاك، كان هنالك اختلاف كبير في حجم الجسم، حيث وُجد أنّ القرود التي تعيش على الأرض أكبر حجمًا بشكل ملحوظ. في المقابل، كان التباين في حجم الدّماغ أصغر بكثير. في هذه المجموعة ستكون هناك اختلافات في حاصل الدّماغ بين القرود المختلفة، لكن يبدو أنّ السبب هو تغيير في حجم الجسم بعد التكيّف مع أنماط الحياة المختلفة، وليس زيادة في حجم الدّماغ التي تشير إلى الذّكاء.

يُعتبر أسد البحر أحد أبرز الأمثلة على حيوان ذي دماغ أصغر من المتوقّع، لكنّه يتمتّع بذكاء عالٍ استنادًا لجميع المقاييس الأخرى. خلال عمليّة التّطوّر، نمت أجساد أسلاف الفقميّات وأسود البحر بشكل كبير، ربّما لأنّ الجسم الأكبر يساعد في الحفاظ على الحرارة في المياه الباردة. يبدو أنّ الزيادة في حجم الجسم، وليس تقليص حجم الدّماغ، هي التي جعلت هذه الحيوانات الذّكيّة تمتلك دماغًا صغيرًا نسبيًّا اليوم.

التّشكيك بالنّهج القائم

"نحن نُشكّك بالنّهج السائد القائل بأنّه يمكن تحديد مدى الذّكاء من خلال الحجم النّسبي للدّماغ". يقول كمران صافي (Safi)، الباحث الكبير المشارك في المقال: "في بعض الأحيان، تكون الأدمغة الكبيرة نسبيًا هي النّتيجة النهائيّة للانخفاض التّدريجي في حجم الجّسم، للتكيّف مع سطح معيشة جديد أو طريقة مختلفة للحركة - أي بدون صلة بالذكاء."

ولخّصت أنجيلي جوسوامي (Goswami)، إحدى الباحثات المشاركات بالمقال، في مقابلة مع صحيفة الغارديان: "توضّح هذه الدّراسة مخاطر تحيّزاتنا في الوقت الذي نحاول فيه تفسير عالم الحيوان. باعتبارنا بشرًا بأدمغة كبيرة، فقد افترضنا منذ زمن طويل بأنّ الاختلافات في حجم الدّماغ بين الأجناس المختلفة هي نتيجة اصطفاء الأدمغة الكبيرة". تُكمل جوسوامي: "نحن نفهم الآن أنّه على ما يبدو، فإنّ الاختلافات في الحجم النّسبي للدّماغ غالبًا ما تكون ناتجة عن اصطفاء حجم جسم معيّن، وليس عن الضغط لتطوير قدرات عقليّة أعلى، أو أيّ شيء متعلّق بالدّماغ."

0 تعليقات