لقد كان معروفًا منذ سنوات أنّ المادّة الوراثيّة للعضيّة الخلويّة قد تندمج في الـDNA الموجود في النُّواة. كشفت دراسة جديدة أنّ الظّاهرة موجودة أيضًا في الدّماغ، لكن لا علاقة لها بالأمراض التّنكسيّة للجهاز العصبيّ.
الميتوكوندريا: (المفرد: الميتوكندريون) هي عضيّات موجودة في خلايا الجسم، تنتج الطّاقة للآليّات الخلويّة. مع ذلك، وعلى عكس العضيّات الأخرى، تمتلك الميتوكوندريا مادّة وراثيّة خاصّة بها (DNA)، تُعرف باسم الـ DNA الميتوكوندريّ، وتختلف عن الـ DNA النّوويّ، وهي المادّة الوراثيّة الخاصّة بالكائن الحيّ، والتّي يتمّ تخزينها في جميع الكائنات الحيّة المعقّدة داخل المساحة المحميّة لنواة الخليّة. يفترِض الباحثون أنّ الميتوكوندريا في الماضي البعيد كانت عبارة عن بكتيريا اندمجت في خليّة كائن قديم ودخلت فيها.
في الثلاثين عامًا الماضية، تبيّن أنّ الفصل بين الـ DNA الميتوكوندريّ والـ DNA النّوويّ ليس مطلقًا- فقد تمّ اكتشاف أجزاء من الـ DNA الميتوكوندريّ مدمجة في الحمض الـ DNA النّوويّ في المزيد والمزيد من الكائنات، بدءًا من الفطريّات وحيدة الخليّة مثل الخميرة، وصولًا ببني البشر. في اللّغة الإنجليزيّة يطلق عليها اسم Numt، وهي اختصار لكلمة Nuclear mitochondria- الميتوكوندريا النّوويّة، أو نواة تحتوي على الميتوكوندريا.
لم تتمّ دراسة الميتوكوندريا النّوويّة إلا بشكلٍ قليل جدًّا عند البشر، وفقط في خلايا الدّم البيضاء. ولا تتضح الأهمّيّة الطّبّيّة لوجودها في الخليّة، رغم أنّ الدّراسات وجدت تراكمًا عاليًا لها في الأورام السّرطانيّة. وقد قامت دراسة جديدة الآن بتوسيع نطاق الصّورة لتشمل الدّماغ البشريّ أيضًا، بحثًا عن العلاقة بينها وبين الأمراض التّنكسيّة في الجهاز العصبيّ.
عُثر على أجزاء من الـ DNA الميتوكوندريّ مدمجة في الـDNA النّوويّ في المزيد والمزيد من الكائنات الحيّة. رسم توضيحيّ للـ DNA الميتوكوندريّ، المميّز بـ mtDNA، الّذي يدخل إلى الكروموسوم في النّواة، ويشكّل الميتوكوندريا النّوويّة (Numt) | صورة: Martin Picard laboratory at Columbia University Vagelos College of Physicians and Surgeons
نظرة إلى داخل الدّماغ
لأغراض البحث، الّذي نُشر في مجلة PLOS Biology، قام الباحثان رايان ميلز (Mills) من جامعة ميشيغان ومارتن بيكارد (Picard) من جامعة كولومبيا، وكلاهما في الولايات المتّحدة، بتحليل البيانات الجينيّة من خلايا الدّماغ البشريّة. أُخِذت الخلايا من أدمغة المرضى الّذين يعانون من أمراض التّنكّس العصبيّ ومن الأشخاص الّذين ماتوا لأسباب أخرى، وحُفظت بياناتهم في قواعد البيانات. في المجمل، تمّ اختبار حوالي 470 عيّنة من قشرة الفصّ الجبهيّ الظّهريّة، 260 عيّنة من المخيخ وحوالي 70 عيّنة من القشرة الخلفيّة. بالإضافة إلى ذلك، قام الباحثون بفحص حوالي 400 عيّنة دم.
أوّلاً، وجد الباحثون اختلافات في تراكم الميتوكوندريا النّوويّة في الأنسجة المختلفة. ولم تحتوي معظم عيّنات المخيخ على الـDNA الميتوكوندريّ في نواة الخليّة، وكان المتوسّط 0.75 ميتوكوندريون نوويّ لكلّ عيّنة. أمّا في عيّنات القشرة الخلفيّة، فقد كان المتوسط 1.7 ميتوكوندريا نوويّة، وارتفع إلى 4.1 ميتوكوندريا نوويّة في عيّنة القشرة الأماميّة. في خلايا الدم البيضاء، كان المتوسّط 3.5 ميتوكوندريا نوويّة لكلّ عيّنة، لكنّ النّطاق كان أوسع بكثير: في حين أنّ عدد الميتوكوندريا النّوويّة في الدّماغ لم يتجاوز 30 ميتوكوندريا نوويّة لكلّ عيّنة، كانت هناك عيّنات في الدّم وصلت حتى إلى 300 ميتوكوندريا نوويّة. أمّا خلايا الدّم الحمراء فهي خالية من النّواة، وبالتّالي ليست ذات صلة بمثل هذا البحث.
يفترض الباحثون أنّ الاختلافات بين عيّنات المخيخ وتلك الموجودة في القشرة الدّماغيّة تكمن في كمّيّة الميتوكوندريا في كلّ نوع. يحتوي المخيخ على ما يعدل ألف عضيّة ميتوكوندريا لكلّ خليّة، في حين أنّ النّوعيْن الآخريْن يحتويان على أربعة أضعاف ذلك العدد. من ناحية أخرى، ليس من الواضح ما الّذي يسبّب الفرق بين قشرة الفصّ الجبهيّ والقشرة الخلفيّة. وفي خلايا الدّم البيضاء، تكون كمّيّة الميتوكوندريا أقلّ، وحيث لا تتجاوز إ بضع مئات، ويبدو أنّ كثرة الميتوكوندريا النّوويّة فيها ترجع إلى ارتفاع معدّل انقسام الخلايا فيها، بينما تتوقّف معظم الخلايا العصبيّة عن الانقسام في سنٍّ مبكّرة.
لم يجد الباحثون أيّ علاقة بين عدد الميتوكوندريا النّوويّة الموجودة في خلايا الدّماغ وبين الأمراض التّنكّسيّة للجهاز العصبيّ. ومع ذلك، فقد وُجِد بصورة مثيرة للدّهشة أنّ عدد الميتوكوندريا النّوويّة الموجودة في قشرة الفصّ الجبهيّ في الأدمغة السّليمة كان أعلى لدى الأشخاص الّذين ماتوا في سنٍّ مبكّرة- في المتوسّط، مقابل كلّ عشر سنوات من العمر المفقود، تُضاف اثنتان من الميتوكوندريا النّوويّة في خلايا الدّماغ. حتّى الآن، ليس لدى الباحثين أيّ تفسير للارتباط بين عدد الميتوكوندريا النّوويّة والوفاة المبكّرة.
وجد الباحثون اختلافات في تراكم الميتوكوندريا النّوويّة في أنسجة المخّ المختلفة. رسم توضيحيّ لدماغ مُكوّن من الـDNA | صورة: Lior Kirsch, 2016, PLOS Computational Biology, CC-BY 4.0
الميتوكوندريا النّوويّة والشّيخوخة
من أجل اختبار العلاقة بين الميتوكوندريا النّوويّة والشّيخوخة، أخذ الباحثون عيّنات من الخلايا من أشخاص أصحّاء، وقاموا بزراعتها في مزرعة خلايا واختبار اندماج الـ DNA الميتوكوندريّ في نواة الخليّة لمدّة تصل إلى سبعة أشهر. يحاكي نموّ الخلايا في المزرعة إلى حدّ ما عمليّة الشّيخوخة، حيث تنقسم الخلايا بسرعة في البداية، حوالي مرّة واحدة في اليوم ونصف، ولكن بعد ذلك يتباطأ معدّل الانقساممبشكل كبير، ليصل إلى مرّة واحدة فقط في الشّهر.
لقد وُجد أنّ معدّل اندماج الميتوكوندريا في نواة الخليّة كان ثابتًا، ووقف عند ميتوكوندريون واحد كلّ 12.6 يومًا في المتوسّط، بغضّ النّظر عن معدّل الانقسام- أيّ معدّل الشّيخوخة. ارتفع المعدّل بشكل طفيفٍ عند إضافة أدوية ديكساميثازون وأوليجوميسين إلى مزارع الخلايا، والّتي تؤثّر على نشاط الميتوكوندريا في الخلايا. تمّ تسجيل زيادة أسرع بكثير عندما استخدموا مزارع الخلايا من مرضى يعانون من متلازمة لي (Leigh syndrome)، وهو مرض وراثيّ يؤدّي فيه خلل وراثيّ إلى إضعاف نشاط الميتوكوندريا بشدّة. في مزارع الخلايا هذه، ارتفع معدّل اندماج الـ DNA الميتوكوندريّ في نواة الخليّة إلى 3.7 ميتوكوندريون نوويّ في عشرة أيّام.
لا يزال غير واضح كيفيّة عمل الآليّة الّتي تسمح لأجزاء من الـ DNA الميتوكوندريّ بالاندماج في المادّة الوراثيّة المخزّنة في نواة الخليّة. ما هو واضح بالفعل من هذه الدّراسة، ومن العديد من الدّراسات الأخرى، هو أنّ الأضرار الّتي تلحق بالميتوكوندريا تزيد من وتيرة تكوين الميتوكوندريا النّوويّة. ومن المحتمل أن يكون السّبب في ذلك هو أن تلك الأضرار تتسبّب في إطلاق شظايا الـ DNA من الميتوكوندريا إلى السّائل الخلويّ، ومن هناك يكون الطّريق إلى النّواة أقصر. عندما تكون هذه الأجزاء موجودة بالفعل في النّواة، فمن الممكن أن يساعد اندماجها في الكروموسومات في آليّات إصلاح تلف الـDNA. لا يزال أمامنا الكثير لنتعلّمه عن كيفيّة تشكُّل الميتوكوندريا النّوويّة وأهمّيتّها، ولنفهم ما إذا كان تراكمها في الدّماغ هو سبب الوفاة في سنٍّ مبكّرة أم أنّه مجرّد أحد الأعراض.