طريقة جديدة للتّعديل الجينيّ، تعتمد على آليّة كريسبر، واعدة بأن تكون أكثر ناجعة وآمنة من سابقاتها مع أقلّ العوارض والآثار جانبيّة.

في السّنوات الأخيرة قامت ثورة جدّيّة في مجال الهندسة الوراثيّة، أساسها  منظومة كريسبر، وهي منظومة تتيح تعديلًا جينيًّا سريعًا، غير مكلف وملائم لأيّ تسلسل DNA نختاره. تمكّن الباحثون من خلال كريسبر من إدخال جينات العنكبوت للعثّ، وتمكين خلايا الجلد في الفئران من إنتاج بروتين يساهم في تنظيم السّكّري، وغيرها الكثير من التّعديلات. منذ عام 2017، استخدم الباحثون كريسبر لتصحيح خلل وراثيّ في أجنّة إنسان في مراحل نموّها الأوّليّة، ولم تتمّ إعادة الأجنّة  للرّحم بعد ذلك. في نهاية العام الماضي، أعلن باحث صينيّ عن ولادة طفلين تمّ تحرير جيناتهما باستخدام منظومة كريسبر.

مع النّجاح الهائل لكريسبر سرعان ما ترافقت المخاوف. الخوف الأكبر يتعلّق بدقّة وأمانة المنظومة؛ فهي تستطيع تعديل الجينات بنجاعة، ولكنّها في أحيان كثيرة تؤدّي إلى تغيير في الـ DNA ليس فقط في الموقع المُراد تعديله، وبالتّالي يتمّ إدخال طفرات يمكنها أن تكون ضارّة جدًّا في مواقع عشوائيّة في الجينوم.  في دراسة جديدة، كشف باحثون من  جامعة هارفارد عن طريقة جديدة لتعديل الجينات تعتمد على كريسبر، لكنّها تعد بأن تكون أكثر دقّة وأمانًا . قد تؤدّي هذه الطّريقة، والّتي يطلق عليها اسم  "prime editing" إلى الثّورة القادمة في الهندسة الوراثيّة.

 

تعديلٌ ناجع لكنّه معرّض للخطأ

أصل هذه المنظومة هو البكتيريا، حيث تعمل فيها ك "جهاز مناعة" ضدّ الفيروسات الّتي تهاجمها. وهي تتألّف من جزيء RNA ومن بروتين يدعى Cas9. يحتوي ال-RNA، الّذي يشبه بمبناه ال- DNA، على تسلسل يلائم تسلسل الDNA في الموقع المراد تعديله وبالتّالي يقود المنظومة إلى الهدف. البروتين Cas9 هو إنزيم يقطع ال-DNA، وهو يستهدف الجين الّذي يتمّ توجيه ال-RNA إليه.

في هذه المرحلة تباشر منظومة التّصليح في الخليّة بالعمل،  وتكون وظيفتها إعادة وصل جزيئات ال- DNA الّتي تمّ قطعها لسبب أو لآخر. المنظومة ناجعة، لكنّها معرّضة للخطأ،  وفي أحيان كثيرة تدخِل طفرات في موقع قطع ال- DNA. لذا، إذا كان الهدف  تعطيل جين معيّن، فقد تكفي عمليّة القطع - ومن ثمّ التّصليح غير الكامل للخليّة يتمّم بقيّة العمل، ويقوم بإدخال طفرة للجين.. إذا أردنا، من ناحية أخرى، إدخال تسلسل خاصّ للجينوم، يمكننا ذلك عن طريق إدخال جزيئات DNA الّتي تشمل التّسلسل المطلوب، بالإضافة إلى منظومة كريسبر. منظومة التّصليح في الخليّة تجيد استعمال هذا التّسلسل لإدخاله في موقع القطع، لكنّها ليست ناجعة دائمًا.

مشكلة كريسبر الرّئيسية هي أنّ جينومنا كبير جدًّا. جزيء RNA بالفعل يقود المنظومة نحو التّسلسل المستهدف، ولكن في كثير من الأحيان توجد تسلسلات مشابهة، على الرّغم من كونها  ليست متطابقة تمامًا، في مكان آخر من الجينوم. قد يقوم البروتين، أيضًا، بقطع ال- DNA في هذه الأماكن، وإدخال الطّفرات إليهم. فعلًا، أظهرت الأبحاث أنّ استخدام كريسبر يؤدّي إلى العديد من الطّفرات "خارج الهدف"، حتّى أنّ العديد من الباحثين يشكّكون في أمانة استخدامه. الطّريقة الجديدة الّتي تعتمد على نفس المنظومة ولكنّها لا تشمل عمليّة قطع تامّ لل- DNA أوجِدت لحلّ هذه المشكلة.

 

بدون عمليّة قطع تامّ أو DNA إضافيّ

يترتّب الـ DNA في خلايانا في جزيئات طويلة، هي الكروموسومات، الّتي تتكوّن من سلسلتي DNA متلائمتين لتكوين اللّولب المزدوج الشّهير. ال-RNA، من ناحية أخرى، يكون على هيئة جزيئات أقصر ذات سلسلة حامض نوويّ واحدة فقط. يعمل بروتين قطع ال-DNA الخاصّ بمنظومة كريسبر، Cas9 على قطع سلسلتي الحوامض النّوويّة  معًا. المنظومة الجديدة prime editing  تستخدم نفس البروتين لكنّه  مختلق، إذ يمكنه أن يقطع سلسلة واحدة فقط من لولب ال-DNA المزدوج. 

المركّب الثّاني للمنظومة الجديدة، كما هو الحال مع كريسبر، هو جزيء RNA لكنّه أطول من المعتاد ومكوّن من جزأين. الجزء الأوّل يشمل تسلسلًا  يلائم تسلسلًا يقع بجانب الموقع الّذي نريد تعديله في ال-DNA، ويكون قادرًا على الارتباط به، يسمّى هذا الجزء "موقع الرّبط"، لأنّ  علماء الأحياء لا يجيدون التّسمية. الجزء الثّاني يشمل نسخة من ال- RNA للتّسلسل الّذي نريد تعديله وإدخاله في الجينوم.

عندما تصل المنظومة إلى الموقع الصّحيح يرتبط ال-RNA  بإحدى سلاسل ال- DNA، ويقوم البروتين بقطع هذه السّلسلة  دون إحداث أيّ ضرر للسّلسلة الأخرى، وبالتّالي فإنّ اللّولب المزدوج يفتح كالسّحّاب/ جرّار. السّلسلة الحرّة، الّتي قطع أحد أطرافها، متّصلة جزئيًّا لل-RNA في "موقع الرّبط". الجزء الثّاني من ال-RNA يبقى "حرًّا"، غير موصول بال- DNA (أنظر الصّورة  أدناه).

هنا يدخل الصّورة المركّب الثّالث الجديد لمنظومة ال- prime editing: إنزيم النّسخ العكسيّ. في الوضع الطّبيعيّ  لفعاليّة الخليّة يتمّ تحويل ال- DNA الموجود في النّواة إلى RNA الّذي يخرج منها ليشكّل "قالب للعمل" لإنتاج البروتين. لذلك، توجد إنزيمات في الخليّة وظيفتها إنتاج جزيء RNA وفقًا لقالب ال- DNA. يعمل إنزيم النّسخ العكسيّ، كما يوحي اسمه، العكس تمامًا: هو يركّب سلسلة DNA اعتمادًا على قالب ال- RNA. في هذه الحالة،  هو ينتج تسلسل DNA جديدًا  مكمّلًا لسلسلة ال- DNA الّتي ارتبطت بال-RNA، وفقًا للتّسلسل الموجود على جزيء ال- RNA- هذا هو تسلسل ال-DNA الّذي تمّ تعديله لإدخاله في الجينوم. بقيّة العمل تؤدّيها بروتينات الخليّة الّتي يمكنها إعادة إيصال السّلسلة المقطوعة، وبالتّالي إدخال التّسلسل الجديد الّذي تمّ تعديله إلى الجينوم.

يقول ديفيد ليو من معهد Broad الّذي يُجرى البحث في مختبره: "باستخدام منظومة التّعديل الجديدة، يمكننا مباشرة تصحيح الطّفرة الّتي تسبّب فقر الدّم المنجليّ، أو إزالة قواعد ال-DNA الأربعة الزّائدة الّتي تسبّب مرض التاي زاكس، دون القطع التّامّ  لل- DNA ودون الحاجة إلى قوالب DNA.


في الصّورة: توضيح لعمليّة التّعديل الجديدة، لا يوجد قطع تامّ لل- DNA ولا قوالب حمضٍ إضافية. | Susanna M. Hamilton, Broad Institute. 
 

دقّة ومرونة

لا تحتاج الطّريقة الجديدة إلى إدخال جزيئات DNA في الخليّة آملين أن تدخلهم في الجينوم في موقع القطع، فجميع المركبّات بما في ذلك التّسلسل الّذي تمّ تعديله، موجودة كجزء من المنظومة. الأهمّ من ذلك أنّ البروتين لا يقطع سلسلتي ال-DNA  ولا يقوم بتشغيل نظام تصليح DNA الخليّة الّذي من المحتمل أن يُحدث طفرات. بالإضافة إلى ذلك، لكي تقوم المنظومة بإجراء تغيير في ال-DNA، يجب أن يتلاءم تسلسل الجين المستهدف بشكل كامل أو شبه كامل مع موقع الرّبط في جزيء ال- RNA وإلّا فلن يتمكّن إنزيم النّسخ العكسيّ من أداء عمله، بالمقابل  طريقة كريسبر  تكتفي بدرجة أقلّ من الملاءمة كي يقطع الإنزيم ال- DNA. هذا يضمن  إدخال أقلّ طفرات من المراد إدخالها،  من خلال المنظومة الجديدة.

فعلًا، أظهر الباحثون تجارب في خلايا مستنبتة فيها المنظومة الجديدة قامت بتعديل الجين المستهدف وأدّت إلى تغييرات طفيفة جدًّا بالأماكن الأخرى غير المستهدفة   أقلّ تقريبًا بخمس مرّات من التّغييرات الّتي تحصل عن طريق كريسبر. يقول  ليو: "نحن لا نعرف أيّة  آليّة تعديل أخرى في خلايا الثّدييّات الّتي توفّر هذا المستوى من الدّقّة والمرونة، مع القليل من العوارض". 

كما هو الحال مع أيّ شيء، هناك نواقص في المنظومة الجديدة: النّقص الأساسيّ هو أنّه لا يمكننا إدخال سوى تسلسلات صغيرة نسبيًّا للجينوم: جزيئات RNA طويلة  ويمكن أن تحوي تسلسلًا  أطول، هي غير مستقرّة ، وتكون عرضة لهجوم بروتينات الخليّة عليها، الّتي تراها كجسم غريب. لهذا السّبب، من غير المتوقّع أن تحلّ منظومة Prime Editing مكان كريسبر،  ويقول عالم البيولوجيا الجزيئيّة، إريك سونثيمر،  وهو ليس من المشاركين في البحث، لموقع Nature: "ستبقى هناك حاجة لأنواع مختلفة من آليّات تعديل للجينات للقيام بمهام تعديل مختلفة".

مع ذلك، إذا أثبتت المنظومة الجديدة نفسها، فقد تكون خطوة مهمّة في طريق علاج الأمراض الوراثيّة، وكذلك في مجال الهندسة الوراثيّة لعلاج السّرطان وأمراض أخرى. يحاول العديد من الباحثين تطوير مثل هذه العلاجات، ولكن النّجاح، حاليًّا،  جزئيّ. هل منظومة التّعديل Prime editing هي الّتي ستقود التّحوّل الكبير؟ الأبحاث القادمة، والّتي من المؤكّد أن تُجرى في الوقت القريب، يمكنها الإجابة عن  ذلك. يقول ليو: "البحث الأوّلّ  مجرّد بداية لطموح  بعيد المدى، وليس نهاية، ألا وهو  إجراء أيّ تغيير نريده في ال- DNA".

 

 

الترجمة: ريتّا جبران
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة
التحرير العلمي: رقيّة صبّاح أبو دعابس

0 تعليقات