137 عامًا مضت على مولد نيلس بور، أحد كبار فيزيائيي القرن العشرين، ومن مؤسسي ميكانيكا الكم
وُلِد نيلس هنريك بور (Bohr)، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء وأحد مؤسّسي نظريّة الكم (الكوانتم)، في السابع من تشرين الأوّل سنة 1885م في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك لعائلة ثريّة. كان والده كريستيان أُستاذًا في الفسيولوجيا في جامعة كوبنهاجن، وأمّه، هيلين أدلر، من عائلة يهوديّة ذات مكانة عمل أبناؤها في المصارف (البنوك). أمضى بور شبابه لاعبًا متألّقًا في لعبة كرة القدم، وشغل منصب حارس مرمى فريق أكاديميكا بولدكلوب (Akademisk Boldklub) الذي كان من أبرز فرق كرة القدم في الدانمارك في أوائل القرن العشرين. عندما انصبّ اهتمام بور نحو إكمال مشواره المهنيّ الأكاديميّ، اتّضح له أنّ كرة القدم في واد والإلكترونات في وادٍ آخر تنصاع لقوانين فيزيائية مختلفة تمامًا، نظرًا لاختلاف حجومها.
توسّط بور أخويْه. لعب الأخ الأصغر، هيرالد، في فريق كرة القدم الذي لعب فيه نيلس، وانضمّ إلى المنتخب القوميّ، ثم تحوّل إلى عالِم بارز في الرياضيّات. عملت جيني، أختهم بِكر أبيها وأمها، معلّمة. كان حبّ الاستطلاع والعلوم جزءًا لا يتجزّأ من حياة هذه العائلة، حيث اعتاد أبناء العائلة الثلاثة حضور الندوات العلميّة التي كان يقيمها والدهم في منزل العائلة، بمشاركة شخصيّات بارزة من الأوساط العلميّة الدنماركيّة.
تحلّى نيلس من صغره بموهبة ولياقة ميكانيكيّة، وأحبّ تصليح المعدّات والأدوات المختلفة المنتشرة في أرجاء المنزل. برزت مهاراته في الفيزياء عندما كان تلميذًا في المدرسة، إذ لم يكتفِ بالمواد التعليميّة العاديّة، وبحث عن المزيد من المعلومات التي وسّعت من معرفته، ووجد أخطاءً وأمورًا غير مُحدّثة في الكتب التعليميّة. شرع في التعلم في جامعة كوبنهاجن سنة 1903م، وسرعان ما انجذب إلى العلوم الفيزيائيّة النظريّة وإلى مبنى الذرّة بشكل خاصّ.
وجد أخطاء كثيرة في الكتب التعليميّة. نيلس بور في شبابه | المصدر: SCIENCE PHOTO LIBRARY
التصدّعات في فهم العالَم الفيزيائيّ
بدأ بور طريقه العلميّ في سنواتٍ تميّزت بموجة عارمة من الاكتشافات المثيرة، في المجالات العلميّة عامّة والواقع الفيزيائيّ خاصّة. اكتشف الفيزيائيّ البريطانيّ جوزيف جون طومسون (Thomson) الإلكترون قبل ذلك ببضع سنين، وأبدى بور اهتمامًا بالغًا بذلك. كرّس العالم الدنماركيّ الشاب لقبه الأكاديميّ الثاني لصفات الفلزات، أمّا أطروحة الدكتوراة فكتبها عن سلوك الإلكترونات داخل الفلزات.
تمكّن بور من السفر إلى إنجلترا لاستكمال دراساته لدى طومسون، بفضل المنحة التي حصل عليها بعد أن نال شهادة الدكتوراة. ثم دعاه الفيزيائيّ إرنست رذرفورد، الذي كان تلميذ طومسون، بعد مرور عام على مكوثه لدى طومسون، للبقاء في مختبراته.
كان رذرفورد هو من اكتشف أنّ الذرة مكوّنة من نواة ذات شحنة كهربائيّة موجبة، تتركّز فيها الغالبيّة العظمى من كتلة الذرّة، بينما تحوم الإلكترونات ذات الشحنة الكهربائيّة السالبة حول النواة ببعدٍ كبير عنها. أدرك بور بسرعة أنَّ هذا النموذج لا يتلاءَم مع المعلومات الفيزيائيّة السائدة في تلك الفترة؛ إذ لماذا لا تسقط الالكترونات داخل النواة؟ كان من المتوقّع، طبقًا للنظريّة الكهرومغناطيسيّة التقليديّة، أن يُطلِق الإلكترون، الجسيم المشحون المتسارع، أشعَّة ويفقد من طاقته، ما يؤدّي إلى هبوطه داخل النواة بحركة لولبيّة وخلال فترة قصيرة للغاية.
عالَم الأشياء الصغيرة
شرع العلماء في تلك الفترة في نسج مبادئ نظريّة الكم (الكوانتم)، التي تتركّز في الظواهر التي تحدث في المقاييس الذرّيّة والجسيمات الأصغر من الذرّة. اكتشف العلماء ماكس بلانك (مسألة الجسم الأسود) وألبرت أينشتاين (العامل الضو كهربائي) وغيرهم من العلماء، أنّ الأنظمة الفيزيائية تتحلّى بمستويات طاقة متفرّدة غير متواصلة، وأظهرت التجارب أنّ المواد تُطلق أشعّة ذات تردّدات معيّنة ومحدّدة وغير متواصلة. أطلقَ بور، بالاعتماد على هذه الاكتشافات، نموذجًا جديدًا يصف مبنى الذرة.
أدرك بور أنّه يتوجّب على الإلكترونات أن تتحرّك في مسارات "متاحة" فقط، لها طاقة محدّدة وزخم زاويّ يعادل مضاعفات صحيحة لقيمة أساسيّة تُسمّى "ثابت بلانك المُخفّض"، وذلك لضمان عدم هبوط الإلكترونات داخل النواة، وإمكان تفسير مستويات الطاقة المتفرّدة التي شوهدت من خلال التجارب. لا يُطلِق الإلكترون الموجود في أحد المسارات المتاحة الطاقةَ، لكنّه يُطلق طاقة تعادل الفرق بين طاقة المستويين، إذا انتقل من مستوى طاقةٍ عالٍ إلى مستوى منخفض.
حاز بور على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1922م، تقديرًا لاكتشافه الذي كان نشره في مقالاتٍ عدّة سنة 1913م. واصل بور صبّ جلّ اهتمامه على الأفكار التي شكّلت حجر الأساس في بناء ميكانيكا الكم. كان مبدأ التكامل (Complementarity principle) من بين المبادئ التي صاغها بور، وينصّ هذا المبدأ على أنّ الكائنات الكموميّة (الكوانتية) مثل الإلكترون والفوتون (الجسيم الضوئي)، يمكنها السلوك مسلك الجسيمات ومسلك الأمواج، ويتعلق ذلك بطريقة قياسها. رغم تناقض طريقتيْ النظر -كموجة وجسيم- في بعض الجوانب، إلّا أنّ كليهما ضروريّان لوصف الكيان وصفًا كاملًا.
أيّد بور التفسير الاحتماليّ لميكانيكا الكم المسمّى "تفسير كوبنهاجن". يفيد هذا التفسير، الذي يتقبّله معظم فيزيائيي العصر الحاضر، أنّ هُناك مقادير فيزيائيّة، مثل تحديد الموقع الكيان والزخم، التي يمكن تحديد قيمتها بعد قياسها فقط. قبل عمليّة قياس الحجم فإنه لا يكون مُعرَّفًا وإنما موجود باعتباره مجموعَ حالاتٍ تراكبيّة، لكلّ حالةٍ منها احتمالٌ معيّن لأن تتحقّق خلال القياس.
لهذا التفسير أبعادٌ بالغةٌ من الناحيتين العلميّة والفلسفيّة. تُتيح وجهة النظر العلميّة التقليديّة، التي تنعكس في قوانين إسحاق نيوتن الخاصّة بالجاذبيّة والحركة، وتصف سلوك الأجسام الكبيرة جيّدًا - مثل كرة القدم، معرفة كلّ ما يتعلّق بنظام معيّن في زمن معين، وتنبّؤ السلوك المتوقّع لهذا النظام بعد مرور فترة زمنيّة معيّنة. أمّا من وجهة النظر الاحتماليّة، فهُناك دائمًا قدرٌ من عدم اليقين داخل النظام، حيث يمكن الحديث فقط عن احتمال سلوك النظام بصورة أو بأخرى.
كان الادّعاء أنّ عملية القياس تؤثّر بحدّ ذاتها في سلوك النظام فكرة ثوريّة انقلابيّة. دار جدلٌ بين بور، الذي أيّدَ التفسير الاحتمالي، وبين ألبرت أينشتاين الذي أيّد تفسير الحتميّة مدّعيًا أنّ "الله لا يلعب النرد". رفض أينشتاين في الواقع حتّى آخر حياته قبول الطبيعة الاحتماليّة لميكانيكا الكم، وادّعى أنّه سيأتي اليوم الذي نجد فيه الوصف الفيزيائي الحقيقي -الحتمي- الذي يقف وراء ميكانيكا الكم.
تمسّك بالتفسير الاحتماليّ. بور (من اليمين) وزميله وولف جانج باولي يتفحّصان انقلاب البُلبل (الجيروسكوب) في سنة 1955م | PHOTOGRAPH BY ERIK GUSTAFSON WITH PERMISSION FROM THE GUSTAFSON FAMILY, COLOURED BY SCIENCE PHOTO LIBRARY, COURTESY NEILS BOHR ARCHIVE, AMERICAN INSTITUTE OF PHYSICS
رياح الحرب
اتّجه اهتمام بور في الأعوام اللاحقة نحو دراسة العمليّات التي تحدث في نواة الذرّة، وأسهم كثيرًا في فهم النظريّة الكامنة وراء عمليّة الانشطار النّوويّ. بعد وصول النازيين إلى سدّة الحكم في ألمانيا، ساعد بور في سنوات الثلاثين من القرن العشرين، العلماء الذين تمّت ملاحقتهم من قبل الحكم النازي، بسبب كونهم يهودًا أو بسبب أفكارهم ومواقفهم، في الهروب إلى الغرب. بقي بور في الدانمارك حتّى بعد سقوطها في أيدي النازيين، إلّا أنّه اضطرّ في نهاية الأمر للجوء إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
انضمّ بور إلى مشروع مانهاتن -الخطّة الأمريكيّة لتطوير القنبلة الذرّيّة-، رغم أنّه لم يؤمن بادئ ذي بدء بإمكانيّة تطوير قنبلة ذرّيّة في المستقبل القريب. حاول بور، خلال عمله في المشروع، إقناع متّخذي القرارات فيه أنّه من المهمّ إشراك الاتّحاد السوفييتيّ في المعلومات والمعرفة النوويّة، لأنّه يتوجب على العالَم الذي تتوفّر فيه أسلحة الدمار الشامل، إتاحة تناقل المعرفة والمعلومات بدون قيود، إلّا أنّ موقفه لم يلق قبولًا.
عاد بور إلى الدنمارك بعد انتهاء الحرب، وكان من بين الذين أقاموا المركز الأوروبيّ للدراسات النوويّة CERN، الذي تمّ نقله إلى جنيف في سنة 1957م، وكان من ضمن فعاليّات المركز إقامة مُسرِّع الجسيمات الأكبر في العالم. كان بور صديقًا لدولة إسرائيل، وحاز على لقب الدكتوراه الفخريّة من معهد التخنيون سنة 1959م.
توفّي بور في الثامن عشر من تشرين الثاني سنة 1962م، عن عمر ناهز السبعة والسبعين عامًا. أسهمت اكتشافاته وأعماله العلميّة كثيرًا في فهم الظواهر التي تحدث في المجال الذرّيّ. يُعتبر بور أحد كبار علماء القرن العشرين. ويجدر بالذكر، أنّ نجله افا (Aage) بور حاز على جائزة نوبل في الفيزياء هو الآخر سنة 1975م. عمل نيلس بور، إلى جانب أعماله العلميّة، كثيرًا في تعزيز الرقابة الدوليّة على الأسلحة النووية في العالم، وعلى استخدام الطاقة الذرّيّة للأغراض السلميّة.