كانَ إسحاق نيوتن سياسيًّا وعالِمًا في اللّاهوت وفي مجالِ البصريّاتِ، وطوّرَ الحساباتِ الرّياضيّة متناهية الصّغر، ودارت حربٌ شعواء على الفضلِ في ذلك بينه وبين ليفنيتس. وقد بلغت إنجازاتُه ذُروتَها، بدون أدنى شكّ، في اكتشافِه قوانين الحركةِ والجاذبيّة.

اِحتفظَ جدّي وجدّتي برفِّ كتب، في ركنٍ ذي هَيْبةٍ خاصّةٍ وُضِعَت فيه سلسلةُ "الكتب الكبيرة" التي تضمُّ أَسمَى ما خطّتهُ البشرية. رقدَ مُجلّدٌ واحدٌ كُتبَ على جادّتِه "نيوتن"، جنبًا إلى جنب مع كتاب حِواراتِ أفلاطون وكتاباتِ أرسطو الفلسفيّةِ والعلميّة، بين مسرحياتِ وليم شكسبير وكوميديا موليير ومُؤلّفاتِ رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا الفلسفيّة. ضمَّ هذا المُجلّد مُؤلّفَيْن لإسحاق نيوتن: "المبادئ الرّياضيّة في فلسفة الطّبيعة" الّذي صدرَ سنة 1687م، و"البصريّات" الصّادر سنة 1704م.

يَقضي طُلّاب الفيزياء في بدايةِ تعليمهم الجامعيّ السّاعاتِ الطويلة في حلِّ المسائلِ بالاعتمادِ على قوانينِ نيوتن الخاصّةِ بالحركة. تُعالجُ القوانينُ والأدواتُ الرّياضيّة الّتي طوّرها نيوتن المسائلَ الّتي تصفُ جسمًا يتحرّكُ على سطحٍ مائلٍ، وتصادمَ جسمَيْن، ومساراتِ الأقمار الصّناعيةِِ حولَ الكرةِ الأرضيّةِ على أفضل وجه. ليسَ صدفةً أنّ الفيزياءَ النّيوتنيّةَ تحتلُّ مكانَ الصّدارةِ في المناهجِ التّعليميّةِ في موضوعِ الفيزياءِ في المدارسِ الثّانويّةِ والجامعاتِ طوالَ ما يزيدُ عن ثلاثمئةِ عامٍ منذ أن نُشِرت. 

لا تزالُ الفيزياءُ النّيوتنيّةُ، رغم البعدِ الزّمنيّ، صحيحةً في مُعظمِها، وتتيحُ لنا فهمَ الكثيرِ من الظّواهرِ الّتي نُواجهها في الحياةِ اليوميّة.

עמודי השער של ה"פרינקיפיה מתמטיקה" (משמאל) ו"אופטיקה" | מקור: LIBRARY OF CONGRESS / SCIENCE PHOTO LIBRARY
المُؤلّفات الّتي ما زال أثرها قائمًا منذ أكثرِ من ثلاثمئةِ عام. غلاف لـ"برينسيبيا ماثماتيكا" (مبادئ الرّياضيّات) على اليسار، و"أوبتيكا" (البصريّات)| المصدر: LIBRARY OF CONGRESS / SCIENCE PHOTO LIBRARY
 

المُستضعَف

وُلدَ إسحاق نيوتن في الخامسِ والعشرين من كانون الأوّل سنة 1642م في بلدة وولسثروب (Woolsthorpe) في إنجلترا. ماتَ أبوه الفلّاحُ قبلَ ثلاثة أشهرٍ من مولدِه، وتزوّجت أمُّهُ ثانيةً عندما أصبحَ عمرُهُ ثلاثةَ أعوامٍ وتركَتْه في رعايةِ جدّته. مات زوجُ أمِّه عندما بلغَ الحاديةَ عشرةَ من عمرِهِ، وعادت أمُّه إلى البلدةِ ومعها ثلاثةُ أولادٍ من زوجها الثّاني. أتاحت الأمُّ لابنها البكرِ في البدايةِ إدارةَ الشّؤونِ المنزليّةِ، لكنّه فضّلَ قراءةَ الكتبِ على رَعْيِ الماعز وحلْبِ الأبقار. سرعانَ ما اتّضحت ميولُ الولد، فبُعِثَ إلى مدرسةٍ في بلدة جرانتهام حيث تعلّمَ اللّغةَ اللّاتينيةَ والقليلَ من الرّياضيّات.

لم يكن نيوتن اجتماعيًّا في صِباه. وقد وصفه أحدُ أصدقائِه بأنّه "ولدٌ جِدّيٌّ، هادئٌ، كثيرُ التّفكير، قليل اللّعب مع سائرِ الأولاد". ظهرت لديه مهاراتٌ ميكانيكيّةٌ رفيعةٌ، وكان من ضمن ما بناه ساعاتٍ شمسيّةً ونماذجَ من طواحين الهواء، بدلًا من قضاءِ الوقت في التّسالي والألعاب. 

הבית שבו נולד ניוטון | OXFORD SCIENCE ARCHIVE / HERITAGE IMAGES / SCIENCE PHOTO LIBRARY
طفولةٌ صعبةٌ. البيت الّذي وُلدَ فيه نيوتن | OXFORD SCIENCE ARCHIVE / HERITAGE IMAGES / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

الحقيقةُ أعزّ أصدقائي

توجّهَ نيوتن سنة 1661م إلى كلّيّةِ ترينيتي في كيمبريدج للدّراسةِ. كانت الكثيرُ من الجامعات، بما فيها جامعة كيمبريدج، ما زالت تُدَرّسُ المفاهيمَ العلميّةَ الأريسطوطاليّةِ رغم أنَّ الثّورةَ العلميّةِ كانت في أوجِها في ذلك الحين. كانت جامعةُ كيمبريدج، حينها، تُدَرّسُ أنّ الشّمسَ وسائرَ الكواكبِ تدورُ حولَ الأرض، مثلما اعتقد أرسطو (مفهوم مركزيّةِ الأرض)، لسنواتٍ غير قليلة بعدَ أن قدّمَ كلٌّ من نيكولاس كوبرنيكوس ويوهانس كيبلر الدلائل على أنَّ الكرةَ الأرضيّة تدورُ حولَ الشّمس (مفهوم مركزية الشّمس). 

اطّلع نيوتن على مُؤلّفاتِ العُلماء الجُددِ رغم أنَّ المناهج الدّراسيّةِ الرّسميةِ تجاهلتهم. أعدّ نيوتن دفترًا خاصًّا وثّقَ فيه "مسائلَ فلسفيّة مُعيّنة" خلال دراسته، وكتبَ في الصّفحةِ الأولى من الدّفتر: "أفلاطون هو صديقي، وأرسطو صديقي، لكنّ الحقيقةَ هي أفضلُ أصدقائي". يصفُ هذا التّصريح انتقالَ نيوتن من المفاهيمِ العلميّةِ اليونانيّةِ التّقليديّةِ إلى المفاهيمِ الّتي ولّدتها الثّورةُ العلميّة. 

يتّضحُ من خلالِ الدّفترِ المذكورِ أنّ نيوتن اطّلعَ على كتاباتِ رينيه ديكارت وتأثّرَ بفلسفتِهِ ورياضيّاته، ومن نقدِهِ للعلومِ الأريسطوطاليّةِ الّتي نصّّت أنَّ العالمَ مُكوّنٌ من أربعةِ عناصرَ يملكُ كلٌّ منها "ميلًا داخليًّا" للانجذابِ إلى اتّجاهٍ مُعيّن. واطّلعَ نيوتن على مؤلّفات فلاسفةٍ معاصرين آخرين، مثلَ الفيلسوف الفرنسيّ بيير غاسيندي (Gassendi)، الّذين اعتقدوا أنّ العالمَ مُكوّنٌ من جسيماتٍ مادّيّةٍ في حالةِ حركة، على النّقيض من المفهومِ الأرسطوطاليّ. وقد اعتقدَ غاسيندي أنَّ العالمَ مُكوّنٌ من ذرّات - وقد أسّسَ هذا المفهومُ أوّلَ ركائزَهُ بعد مرور مئةٍ وخمسين عامًا من ذلك الوقت عندما قام العالِمُ الإنجليزيّ جون دالتون (Dalton) بعمله الطّلائعيّ. 

החדרים שבהם עבר ניוטון בטריניטי קולג' היו בקומה הראשונה, בין השער מימין לכנסייה משמאל | מקור: SCIENCE PHOTO LIBRARY
بيت العلوم. كانت الغرف الّتي مرَّ بها نيوتون في كلّيّة ترينيتي في الطّابق الأوّل، بين البوّابةِ (عن اليمين) والكنيسةِ (عن اليسار) | المصدر: SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

الأوبئة، والتّفّاح وبداية الثّورة

اِنتشرَ وباءُ الطّاعون في إنجلترا سنة 1665م، عندما أكملَ نيوتن دراستَهُ للّقبِ الأوّلِ، وأدّى إلى وفاةِ قرابةِ مئةِ ألف شخصٍ من سُكّانِ لندن -حوالي رُبعِ سكّانها- خلال عامٍ ونصف. أغلقت جامعةُ كامبردج أبوابَها بسبب الوباء، وعادَ نيوتن إلى بلدةِ مولدِه ومكثَ فيها عامَيْن. نضجت الأفكارُ الّتي كانت نشأت في رأسه في كامبريدج في هذه الفترةِ، وبدأت تأخذُ طابعَ النّظريّةِ المنظّمةِ وذلك في ثلاثةِ مجالاتٍ منفصلة: حساب متناهيات الصّغر (الإنفينتيسيمال) والبصريّات، وقوانينِ الحركةِ والجاذبيّة.

أعطى نيوتن، في الفترةِ الأخيرةِ من حياته، اعتبارًا قريبًا من الخيالِ والوهمِ لحادثة عينيّة حصلت بالقربِ من شجرةِ تُفّاحٍ في فناءِ منزلِ العائلة. لقد حدّثَ زوجَ ابنةِ أخيهِ أنّه في سنوات الوباء "سقطت التّفّاحة" بالنسبة له بما يتعلّق بقوّةِ الجاذبية. هذا ما وردَ باسمه: "بينما كان [نيوتن] يتجوّلُ هائمًا في الحديقةِ دارَ في خُلدِهِ أنَّ قُوّةَ الجاذبيّةِ الّتي تُؤدّي إلى سقوطِ التُّفّاحةِ عن الشّجرةِ إلى الأرض، لا تقتصرُ على بُعدٍ مُعيّنٍ عن الكرةِ الأرضيّة، فلماذا لا تُؤثّرُ قوّةُ الجاذبيةِ في القمرِ أيضًا؟ إذا كان الأمرُ كذلك يجبُ أن تُؤثّرَ قُوّةُ الجاذبيّةِ في حركةِ القمرِ، وربّما تعملُ على الاحتفاظ بمساره حول الكرةِ الأرضيّة". 

حدّثَ نيوتن، في مناسبةٍ أخرى، زميلًا له من الجمعيةِ الملكيّةِ الإنجليزيّةِ القصّةَ بصيغةٍ تختلفُ بعضَ الشّيء عن القصّةِ الأولى، قالَ فيها إنّ مشاهدةَ التّفّاحةِ تسقطُ رأسيًّا باتّجاه الكرةِ الأرضيّةِ تدلُّ على أنّ قوةَ الجاذبيّةِ تعملُ من مركزِ الكرةِ الأرضيّة. كما استنتجَ نيوتن أنّ قُوّةََ الجاذبيةِ تعملُ بينَ كلِّ جسمَيْن وأنّ مقدار هذه القوّةِ يتناسب مع كُتلَتيْهما. تجذبُ التّفّاحةُ، وِفقًا لذلك، الكرةَ الأرضيّةَ إليها كما تجذبُ الكُرةُ الأرضيّة التفّاحةَ إليها (سنُسهِبُ الحديثَ عن ذلكَ لاحقًا). آنَ الأوانُ للعودةِ إلى كامبريدج مع نيوتن - إذ حصلَ على منحةٍ دراسيّةٍ سنة 1667م وأكملَ تطويرَ حسابِ متناهياتِ الصّغر وانشغلَ، أيضًا، بالبصريّات. 

תחת עץ תפוח כמובן | מקור: ROYAL INSTITUTION OF GREAT BRITAIN / SCIENCE PHOTO LIBRARY
أفكارٌ علميّةٌ خارقة. رسمٌ يظهرُ فيه نيوتن يجلس تحت شجرةٍِ من التّفّاح، وكيف لا؟ ومعه كتابٌ في العلوم | المصدر: ROYAL INSTITUTION OF GREAT BRITAIN / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

المعارك حول متناهيات الصّغَر

ألّفَ نيوتن سنة 1669م كتابَه المخطوط بيدِه "التّحليل بواسطةِ المتوالياتِ متناهيةِ الصّغَر"، وصفَ فيه حسابَ التّفاضلِ والتّكامُل الّذي يبحثُ في وتيرةِ تغيُّرِ الأشياءِ بخطواتٍ صغيرةٍ جدًّا. وتيرةُ تغيّرِ مكانِ تواجدِ العربةِ مثلًا (أو أيّ جسمٍ متحرّكٍ آخر) هي سرعتُها، ووتيرةُ تغيُّرِ السّرعةِ هو التّسارع. 

أتمّ نيوتن بعد عاميْن تأليفًا مُنقّحًا اسمُه "أساليبُ المتوالياتِ والفلكسيونات" (الفلكسيون = المُشتقّةُ حسب الزّمن). اِقتصر وصولُ مخطوطاتِ هذيْن المُؤلّفَيْن في هذه المرحلةِ على دائرةٍ صغيرةٍ من معارفِ نيوتن، ومرّ أكثر من عشرين عامًا حتّى صدورِ الصّيغةِ الأولى من مُؤلّفاتهِ الرّياضيّة سنة 1693م.

طوّرَ الرّياضيُّ الألمانيُّ جوتفريد لايفنتس في سبعينيّات القرن السّابع عشر هو الآخر حساباتِ متناهياتِ الصِّغر دون علمٍ، على ما يبدو، بما عملَه نيوتن. لم يسارع لايفنتس بنشرِ عملِه وفعلَ ذلك سنة 1684م.

ولّدَ الفرقُ بين موعدِ النّشرِ وزمن الدّراساتِ والتّطوير واحدةً من أعنفِ وأطولِ الخصوماتِ في تاريخ العلوم. دارت بين نيوتن ولايفنتس حربٌ شعواءٌ شبيهةٌ بمعاركِ التّغريدات على التّويتر في أيّامنا حولَ حقِّ الأولويّةِ في تطويرِ حسابِ التّفاضُلِ والتّكامل. 

بدأَ هذا الصّراعُ كما في كثيرٍ من الحالاتِ على نارٍ هادئةٍ دون أنْ يحاولَ أيٌّ من ذوي الشّأن إثارةَ المَلحمة. زار لايفنتس لندن مرّتَيْن في سنوات السّبعين ولكنّه لم يلتقِ بنيوتن. تراسلَ مع معارفِ نيوتن من لندن، وقد تكونُ رسائلُ المكاتبة بينهم حوت رموزًا تشيرُ إلى تقدّمِ نيوتن في تطوير حسابِ التّفاضلِ والتّكامُل. تشيرُ بعضُ الدّلائلِ إلى أنّ كِلا العالِمَيْن عاشَ بسلامٍ مع الآخر في هذه المرحلةِ كما أنّهما لم ينفيا إمكانيّةَ أنَّ كلًّا منهما طوّرَ حساباتِ التّفاضلِ والتّكاملِ على حِدة، ولم يتّهمْ الواحدُ منهم الآخر بانتحال أفكارِ الآخر. 

حصل الانعطافُ الأوّلُ في مجرياتِ الأمورِ سنة 1696م عندما نشرَ الرّياضيُّ السّويسريّ يوهان برنولي تحدّيًا رياضيًّا مُعقّدًا "لنوابغِ الرّياضياتِ في العالَم". نشر لايفنتس حلًّا للمسألةِ ادّعى فيه "أنَّ من يعرفُ حسابِ التّفاضلِ والتّكامل 'خاصّتنا' فقط يمكنه حلّ المسألة" - وقد بدا من مقولة لايفنتس هذه، حسب رأي البعض، أنّ لايفنتس يرى في حسابِ التّفاضلِ والتّكاملِ تطويرًا خاصًّا به. سألَ برنولي لايفنتس بعدها، من خلال رسالةٍ شخصيّةٍ بعثها له، فيما إذا كان من المحتمل أن يكون نيوتن طوّرَ حسابَ التفاضلِ والتّكامل بعده وذلك في أعقاب المراسلةِ الّتي جرت بينهما قبل بضعِ سنين. 

بقيَ نيوتن هادئًا في هذه المرحلةِ رغمِ غضبِ معارفِه لهذه التُّهمة. تصاعدَ الخصامُ تدريجيًّا وبلغ أوجَه سنة 1710م عندما نشر جون كيل (Keill)، وهو أحد تلاميذ نيوتن مقالًا في مجلة "Philosophical Transactions" ("معاملات فلسفيّة") من إصدارِ الجمعيّةِ الملكيّةِ البريطانيّة، مقالًا ادّعى فيه أنّ لايفنتس هو الّذي انتحل عملَ نيوتن وغيّرَ الاسمَ وطريقة كتابةِ التّعابيرِ الرّياضيّة. ثارت ثائرةُ لايفنتس وطالبَ الجمعيّةَ الملكيّةَ البريطانيّة أنْ تُلزِمَ كيل بالاعتذار العلنيّ. أمّا نيوتن، الّذي كان قد عُيّنَ رئيسًا للجمعيّة، فوقفَ إلى جانب كيل. نشرَ كيل في نهايةِ الأمرِ صيغة أقلَّ حدّةٍ لادّعائه لكنّه لم يُغيّر موقفََه. ردّ لايفنتس على ذلك وادّعى أنّه الوحيد والدُ (موجِد) حساب متناهياتِ الصِّغر، واستمرّ الجدالُ حتّى وفاتِه سنة 1716م.

كانَ من ضمن الأسباب التي أدّت إلى نشوءِ هذا الجدال أنّ التّحديثاتِ العلميّة لم تُنشَر دائمًا في ذلك الوقت على المنصّاتِ العامّةِ المكشوفة للجميع. فقد كانت الأفكارُ تُنشر عن طريق مخطوطاتٍ يدويّةٍ قليلةِ الانتشار ومن خلال محاضراتٍ تُلقى أمامَ جمهورٍ مُصغّر، الأمرُ الّذي جعلَ من الصّعوبةِ بمكان الإقرارَ بهُويّة الشّخصِ الّذي بادرَ إلى تطويرِ فكرةٍ ما. يتّفقُ المٌؤرّخون اليومَ على أنّ نيوتن ولايفنتس طوّرا حسابَ التفاضلِ والتّكاملِ كلٌّ بمعزلٍ عن الآخر، بالتزامن، فاتحين بذلك بوّابةً للتّقدّم العظيم في جميع مجالات العلوم، إذ ما زالت حسابات متناهياتِ الصّغر حتّى يومنا هذا تُشكّلُ أساسَ الكثيرِ من التّطوّرات الّتي تقف في واجهةِ العلوم والتّكنولوجيا، مثل الفيزياء والرّياضيّات والهندسةِ والإلكترونيّاتِ والاقتصادِ وسلوك سوقِ الأوراق النّقديّة (البورصة) والأرصادِ الجويّة. تعتمدُ كلُّ هذه، بشكلٍ أو بآخر، على الأدواتِ الّتي طوّرها نيوتن ولايفنتس قبل أكثر من ثلاثمئة عام. 

لم تقتصر الخصومةُ بين نيوتن ولايفنتس على حقِّ الأولوية في حساب التّفاضل والتّكامل. اِختلفَ نيوتن ولايفنتس في مسألةٍ أكثرَ مبدَئيّةٍ - كيفَ تُؤثّرُ الأجسام بقوّةٍِ في بعضِها؟ سادَ في أوروبا آنذاك المفهومُ الّذي نادى به لايفنتس وأيّده بأنَّه يمكن للأجسامِ أن تُؤثّرَ في بعضها إذا حصلَ تلامسٌ بينها فقط. أمّا نيوتن فقد ادّعى أنّ القوّةَ المُؤثّرةَ بين جسمَيْن تعملُ دون تلامسِهما، وطوّرَ هذا المفهوم في نظريّةِ الجاذبيّةِ.

לייבניץ וכריכת מכלול עבודותיו | מקור: SHEILA TERRY / ROYAL ASTRONOMICAL SOCIETY / SCIENCE PHOTO LIBRARY
واحدةٌ من أكبر الخصومات في مجال العلوم. لايفنتس والمُغلّف الّذي الذي يحتوي على مُجملِ أعماله. | المصدر: SHEILA TERRY / ROYAL ASTRONOMICAL SOCIETY / SCIENCE PHOTO LIBRARY 

 

الازدواجيّة موجة - جُسيم: معركتان

قضى نيوتن وقتًا طويلًا في دراسةِ البصريّات جنبًا إلى جنب مع تطويرِ حسابِ متناهيات الصّغر، وألقى سلسلةً سنويّةً من المحاضراتِ تركّزت على اكتشافاتِه في مجالِ البصريّات، في جامعة كامبريدج بعد أن عُيّنَ أستاذًا للرّياضيّات فيها سنة 1669م. كانت ماهيّةُ الضّوء هي القضيّة الرّئيسة الّتي أشغلَتْه في هذا السّياقِ. كان المفهومُ الرّائجُ آنذاك، والّذي كان ديكارت من ضمن من نادى به، أنّ الضّوءَ يعتمدُ على إعاقةٍ تحدثُ في وسطٍ مُعيّنٍ فتؤدّي إلى تكوينِ موجةٍ مثلما تتكوّنُ أمواجُ البحر. اِدّعى نيوتن مقابلَ ذلك أنّ الضّوءَ مكوّنٌ من جُسيماتِ لها كتل مختلفة، وأن لكلّ لونٍ كتلتُه الخاصّةُ به. 

كان بالإمكان تفسيرُ ظاهرةِ انكسار الضّوء عند عبورهِ من حيّزٍ -كالهواء- إلى آخر -كالماء-، بالاعتماد على مفهوم أنّ الضّوءَ مُكوّنٌ من جسُسيمات. كما مكّن هذا المفهومُ تفسيرَ ظاهرةِ انعكاسِ الضّوء عند اصطدامه بالمرآة. ما لم يكن بالإمكان تفسيرها حسب نظريّةِ نيوتن كانت ظاهرةُ انكسارِ جزءٍ من الضّوءِ وانعكاس الجزءِ الآخر في بعض الحالات الّتي يمرُّ فيها الضّوء من مادّةٍ إلى مادّةٍ أخرى. 

كان العالِمُ الهولنديّ كريستيان هويجنز من أبرزِ العلماء الّذين اتّبعوا وناصروا المفهومَ الموجيّ للضّوء في زمن نيوتن، حيث ادّعى هويجنز سنة 1690م أنَّ الضّوءَ يتكوّنُ من أمواجٍ تجري في الحيّز. نجحت نظريّةُ الأمواج الّتي صاغها هويجنز في تفسيرِ ظواهرَ الانكسارِ والانعكاسِ الجزئيّ للضّوء عِوضًا عن تفسير ظواهر الانكسار والانعكاس بشكلٍ عامّ، بينما لم تلقَ هذه الظّواهر تفسيرًا بواسطةِ نظريّةِ نيوتن الجسيميّة. ساد الرّأيُ على مدارِ سنين كثيرةٍ بصلاحيّةِ النّظرةِ الجُسيميّةِ رغم أنّ النّظريّةَ الموجيّةَ عرضت تفسيرًا أفضلَ لقسمٍ من السّلوكيّاتِ المعروفةِ للضّوء. ويبدو أنَّ المكانةَ الّتي حظيَ بها نيوتن كعالِمٍ كبير بفضلِ قوانينِ الحركةِ والجاذبيّةِ الّتي نشرها لعبت دورها في ذلك.

ניוטון חוקר את טבעה של קרן אור | מקור: SCIENCE SOURCE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
بذلَ نيوتن جهودًا كبيرةً في مجالِ البصريّات. نيوتن وهو يدرُسُ طبيعةَ شُعاعٍ من الضّوء | المصدر: SCIENCE SOURCE / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

اِستمرّ النقاشُ حولَ ماهيّةِ الضّوءِ مئاتِ السّنين. أجرى العالِم الإنجليزيّ توماس يانغ (Young) سنة 1801م تجربَةً دعمت القولَ إنَّ الضّوءَ ظاهرةٌ موجيّة. أرسلَ يانغ في هذه التّجربةِ شُعاعًا من الضّوء عبرَ شقّيْن وتتبّعَ ما تكوّنَ على حائطٍ بعيدٍ عنهما. إذا كان الضّوءُ مُكوّنًا من جُسيماتٍ فإننا نتوقّعُ أن نشاهدَ نقطتين مضيئتين لا غير على الحائط مقابلَ الشّقّين. لكنّ ما شاهده يانغ كان إطارًا دوريًّا من الخطوط المضيئةِ والمُعتمةِ على التّتالي، الأمر الّذي لا يمكن تفسيرُه إلّا بأنّ الضّوء مُكوّنٌ من أمواجٍ ينجمُ عن تداخلها هذا الإطار. 

اِكتشفَ ألبرت أينشتاين بعد حوالي مئةِ عامٍ، سنة 1905م، من خلالِ تجربته حولَ التّأثير الضّو-كهربائيّ أنَّ الضّوء مُكوّنٌ من حصصٍ متفرّدة، أو "كْوَنتات"، تُسمّى فوتونات في أيّامنا. حازَ أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء على هذا الاكتشاف الّذي حَسمَ النّقاشَ حولَ طبيعةِ الضّوء بأنّه "يعاني" من إعاقةٍ ثنائيّةِ الأقطاب: يوجد له سلوكٌ مزدوج - فهو يتصرّفُ كالموجةِ تارةً وكالجُسيم تارةً أخرى، ودعمَ أينشتاين بذلك مشاهدات نيوتن. وقد قامَ أينشتاين بعملٍ مشابهٍ بما يتعلّقُ بالجاذبيّةِ إذ طوّر النّظريّةَ النّسبيّةَ العامّة.

بعد أن أدركَ نيوتن أنّ الضّوءَ مُكوّنٌ من ألوان مختلفة، استنتج أنَّ التّكبيرَ الّذي يمكن الحصولُ عليه من التّلسكوب الّذي يعتمدُ على المرايا أفضلُ من التّلسكوب الّذي يعتمدُ على العدسات. يعودُ ذلك إلى أنّ المرآة تعكسُ جميعَ الألوانِ انعكاسًا متطابقًا، بينما تعملُ العدسةُ على انكسارٍ مختلفٍ للألوان المارّةِ من خلالِها. ينجمُ عن ذلك أنّه كُلّما زادت قوّةُ العدسة فإنّ تركيزَ جميعِ ألوانِ الضّوء بواسطتها على نقطةٍ واحدة يكون أمرًا أكثر صعوبة.

بنى نيوتن أوّلَ تلسكوب مرايا سنة 1668م بالاعتمادِ على هذا المفهوم. حظيَ هذا الجهازُ بمكانةٍ عاليةٍ بين جمهورِ العلماء البريطانيّين بفضلِ الدّعوةِ التي حصلَ عليها نيوتن من الجمعيّةِ الملكيّةِ في لندن لعرضِ تلسكوبِه الحديثِ بحضور الملك تشارلز الثّاني. تمّت دعوةُ نيوتن، في أعقابِ ذلك، لكتابةِ مقال يعرضُ فيه أفكارَه ومفاهيمَه حولَ البصريّات. 

أثارت المقالات الّتي نشرها نيوتن حولَ البصريّات في السنتين 1672 و 1675م انتقاداتٍ بين جمهور العلماء. وقفَ العالِمُ الإنجليزيّ هوك (Hooke)، الّذي كان يعتقدُ أنَّ الضّوء ظاهرةٌ موجيّةٌ، على رأس معارضي نيوتن. تراسلَ هوك، الّذي كانَ مسؤولًا عن العروض التّجريبيّةِ من طرف الجمعيّةِ الملكيّة، مراسلةً مثيرةً مع نيوتن حول هذه المسألة. أُصيبَ نيوتن بغصّةٍ وأعياه هذا الجدال في مرحلةٍ معيّنةٍ وقطعَ علاقتَه مع بيئتِه المحيطةِ لبضع سنين. ولم يَصدُر كتابُه "البصريّات" إلّا بعدَ مرورِ عامٍ على وفاةِ هوك سنة 1704م.

ניוטון חוקר את טבעה של קרן אור | מקור: SCIENCE SOURCE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
اِختراقٌ في مجالِ علمِ الفلك. التّخطيط الّذي رسمه نيوتن لتلسكوب المرايا الّذي طوّره وبناه. | المصدر: SCIENCE SOURCE / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

القوانين العالميّة

نشرَ نيوتن سنة 1687م واحدًا من أهمّ الكتبِ العلميّةِ في التّاريخ: "المبادئ الرّياضيّة في فلسفة الطّبيعة" المعروف باسمه اللّاتينيّ المختصر "برينسيبيا الرّياضيّات" ويُسمّى أحيانًا ببساطة "برينسيبيا" (مبادئ). عرّفَ نيوتن في لُبِّ هذا الكتاب قوانين الحركة الثلاثة. كان الهدفُ من هذه القوانين اختبارَ إمكانيّةِ تحديدِ المبادئ الّتي يمكنها أن تفسّر المنطقَ الرّياضيّ والفلسفيّ الّذي تنصاعُ له حركةُ جميع الأجسامِ في الكون. لذا صاغَ نيوتن قانونَ الجاذبيّةِ العالميّ الّذي يُفسّرَ حركةَ الأجسامِ في الفضاءِ، ولم يكتفِ بصياغةِ قوانينِ الحركةِ الّتى تصفُ حركةَ الأجسام على سطحِ الكرةِ الأرضيّة. كتبَ نيوتن الكتابَ باللّغة اللّاتينيّةِ الّتي استخدمها ذوو العلمِ والمعرفةِ في ذلك العصرِ ليتيح المجالَ لكلِّ مثقّفٍ في كلّ أنحاءِ أوروبا فهمَ ما وردَ فيه. 

ينصُّ قانونُ الحركةِ الأوّل على أنّ أيّ جسمٍ يبقى ساكنًا أو أنّه يواصلُ التّحرّكَ بسرعةٍ ثابتةٍ بخطٍّ مستقيمٍ ما لم تؤثّرُ فيه قوّةٌ خارجيّة. يُعرَفُ هذا القانون بقانونِ "القصور الذّاتيّ". التّجديدُ في هذا القانونِ ليس مفهومًا ضمنًا، إذ ضمّ نيوتن السّكونَ والحركةَ بسرعةٍ ثابتة في قالبٍ واحد. 

ينصُّ قانون نيوتن الثّاني على أنّ حاصلَ ضربِ وتيرةِ التّغيّرِ في السّرعةِ بالكتلة (يُسمّى هذا المقدار بقوّة الدّفع) يساوي القوّةَ الّتي تؤثّرُ في الجسمِ في الاتّجاه نفسه. تنصُّ الصّياغةٌ الأكثر معروفةً للقانون على أنّ القوّةَ الّتي تؤثّرُ في الجسمِ تساوي حاصلَ ضربِ كتلةِ الجسمِ بتسارعِه. يُمكنُ، بالاعتماد على هذا القانون أن نحسبَ، على سبيلِ المثال، السُّرعةَ الّتي تصلُ بها تفّاحةٌ سقطت عن الشّجرةِ سطحَ الأرض. 

ينصُّ قانونُ نيوتن الثّالث على أنّه إذا أثّرَ جسمٌ (أ) بقوّةٍ في جسمٍ آخر (ب)، يؤثّرُ الجسمُ الآخر (ب) بقوّةٍ مُساويةٍ في مقدارِها ومعاكسةٍ في اتّجاهها في الجسمِ الأوّل (أ). يعني ذلك، أنّه إذا ضربنا الحائطَ بلكمةٍ باليد سيُؤلمنا ذلك لأنّ الحائطَ "يُرجِعُ لنا اللّكمةَ" بالشّدّة نفسها. أعطى نيوتن مثلًا أقلّ عنفًا من ذلك: عندما يجرُّ الحصانُ العربةَ فإنه يُؤثّرُ بقوّةٍ في العربة ويشدّها إلى الأمام، لكنّ العربةُ تُؤثّرُ بقوّةٍ في الحصان وتشدُّهُ إلى الخلف. 

اِتّجهَ نيوتن نحو تفسيرِ حركةِ الأجرامِ السّماويّةِ بالاعتمادِ على قوانينِ الحركةِ الثلاثة هذه. لم يرِدْ في مُخيّلةِ أحدٍ حتّى ذلك الحين أنّ تلكَ القوانين تنطبقُ على حركةِ الأجسامِ على سطحِ الكرةِ الأرضيّة وعلى حركةِ النّجومِ والكواكبِ أيضًا. اِعتقدَ أرسطو أنّ النّجومَ تتحرّكُ في دائرةٍ محمولةٍ على كراتٍ شفّافةٍ تُسمّى "عجلات" أو "أجسام كُرويّة" تدورُ حولَ الكرةِ الأرضيّة. اِعتبرَ يوهانس كيبلر، الّذي كان قد عرفَ أنّ الأرض تدورُ حولَ الشّمس، الشّمسَ مغنطيسًا كبيرًا يجذبُ إليه الكواكبَ ويجعلُها تجري في مسارٍ بيضويّ. لم يلاحظ كيبلر العلاقةَ بينَ حركةِ الكواكبِ وبين قوّةِ الجاذبيّة الّتي تجعلُ الأجسامَ تسقطُ على الأرض. 

أشغلت محاولةُ تفسيرِ حركةِ الأجرامِ السّماويّة العلماءَ كثيرًا مع بدايةِ الثّورةِ العلميّةِ، ويبدو أنّ نيوتن قد فكّرَ بهذه المسألةِ قبلَ وقتٍ طويلٍ من "سقوطِ التّفّاحة". كانت الفكرةُ المركزيّةُ في تفسيرِه لحركةِ الأجرامِ السّماويّةِ أنّه يمكنُ أن ننسبَ حركةَ الكواكبِ السّيّارةِ في مساراتها البيضويّةِ إلى القوّةِ الّتي يضعفُ مقدارُها بتناسبٍ عكسيٍّ مع مُربّع المسافةِ بين الكوكبِ السّيّارِ وبين الشّمس. صاغَ نيوتن، بالاعتمادِ على ذلك، قانونَ الجذبِ العامِّ الّذي ينصُّ على أنّه تعمل قوّةُ تجاذبٍ بين مركزَيْ كُتلِ أيِّ جسمين. يضعفُ مقدارُ قوّة التّجاذب بتناسبٍ عكسيٍّ مع مربّعِ المسافةِ بين الجسمين، ولكنّه يزدادُ بتناسبٍ طرديٍّ مع كتلتيهما. 

يُفسّرُ القانونُ، بهذه الطريقةِ، حركةَ القمرِ حولَ الكرةِ الأرضيّةِ مثلًا. فللقمرِ سرعةٌ ثابتةٌ بشكلٍ مُعامدٍ للكرةِ الأرضية. كان القمرُ سيجري على مسارِ بخطٍّ مستقيم، حسب قانون نيوتن الأوّل، ويختفي في أعماقِ الفضاءِ فيما لو لم تُؤثّرُ الكرةُ الأرضيّةُ فيه بقوّةِ الجاذبيّة. لكنّ قوّةَ الجاذبيّةِ الّتي تُؤثّرُ بها الكرةُ الأرضيّةُ في القمر تعملُ على جذبِ القمرِ إليها. يؤدّي الدّمجُ بين سرعة القمرِ الثّابتةِ وبين قوّةِ جاذبيّةِ الكرةِ الأرضيةِ إلى دورانِ القمرِ بمسارٍ بيضويّ. يُؤثّرُ القمرُ هو الآخر بقوةِ جذبٍ في الكرةِ الأرضيّةِ، ولكنّ تأثيرَ هذه القوّةِ في مسارِ الكرةِ الأرضيّة تأثيرٌ مُهملٌ لأنّ كتلةَ الكرةِ الأرضيّةِ أكبر بكثير من كتلةِ القمر.

حاولَ البعضُ أن ينسبوا اكتشافِ قانون الجذبِ العامّ إلى أنفسِهِم مثلما حصلَ في النّقاش الّذي دارَ حول حقّ الأولويّة في تطويرِ حسابِ متناهياتِ الصَّغر. تراسلَ نيوتن كثيرًا مع هوك في الوقت الّذي صاغَ فيه نيوتن قانونَ الجذبِ العامّ. ذكرَ هوك خلال هذه المراسلات إمكانيّةَ أنّ الحركةَ البيضويّةَ للكواكبِ السّيّارةِ تنجمُ عن قوّةٍ يتناسبُ تأثيرها عكسيًّا مع البُعدِ بين جرمَيْنِ سماويّيْن. لا يمكن لادّعاء هوك في حقِّ الأولويّةِ على اكتشافِ الجاذبيّةِ أن يصمد. السّببُ الأوّل هو أنّ نيوتن فكّر بهذه الفكرةِ قبلَ حوالي عشرةِ أعوامٍ من ذكرِ هوك لها في رسالتِه. والسّببُ الثّاني هو أنّ هوك استعانَ بحِسِّه فقط، بينما قامَ نيوتن بتحليلِ حركةِ الكواكبِ السّيّارةِ كمّيًّا، واعتمدَ، من ضمن ما اعتمدَ عليه، على قانون كيبلر الثّالث الّذي نصّ على أنّ سرعةَ الكواكبِ السّيّارةِ تقلُّ مع ابتعادِ مسارِها عن الشّمس. 

نُشرَ مُؤلّفُ نيوتن على الملأ وتُرجِمَ إلى لغاتٍ عدّة. كان من الصعب لعلماء عصرِه أمثال هويجنز ولايفنتس قبولُ ما جاءَ به من تجديد، والّذي يمكن للأجسام حَسبَه أن تُؤثّرَ بقوّةٍ في بعضها دون أن يحصلَ تلامسٌ بينها. في المقابل، لاحظَ العلماءُ الشّبابُ النّبوغ (العبقريّة) في قوانين نيوتن الّذي حظيَ خلال فترةٍ وجيزةٍ بمكانةٍ رفيعةٍ كأحدِ العلماءِ المرموقين في ذلك العصر.

הסבר מדעי ראשון למסלוליהם של כוכבי הלכת. מסלולי הפלנטות במערכת השמש | איור: MARK GARLICK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
أوّلُ تفسيرٍ علميّ لمساراتِ الكواكبِ السّيّارة. مساراتُ كواكبِ المجموعةِ الشّمسيّة. | تخطيط: MARK GARLICK / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

علمُ اللّاهوت والمعاملات المصرفيّة والسّياسة

صرفَ نيوتن جزءًا كبيرًا من وقته وجهودهِ على علومِ اللّاهوتِ المسيحيّةِ وذلك بعد نشرِ "برينسيبيا الرّياضيّات". تحتفظُ الجامعةُ العبريّةُ في القدسِ بكثيرٍ من كتاباته في علومِ اللّاهوت. خاضَ نيوتن في تأويلِ الكتبِ المقدّسةِ ووصْف المعبدِ وبيتِ المقدسِ في القدسِ وفي حسابِ نهاية الكون. حاولَ نيوتن على سبيلِ المثال، ضمنَ جهودِه الّتي بذلها لفكّ رموزِ شكلِ هيكلِ سليمان، تحويلَ وحداتِ القياسِ التّوراتيّةِ مثلَ الذّراع والقصبة إلى الوحداتِ المُتّبعةِ في عصره.

تمَّ انتخابُ نيوتن سنة 1689م للبرلمانِ البريطانيّ، وعُيّنَ بعد بضعِ سنين رئيسًا لدار السّكِّ الملكيّة في لندن. حاربَ نيوتن ضمن وظيفته هذه موجةَ التّزييفِ العارمة الّتي ألحقت ضررًا فادحًا بقيمةِ العملةِ البريطانيّةِ، وبدّلَ القطعَ النّقديّة المصنوعةِ من الفضّة بقطعٍ من الذّهب. اِعتادَ المحتالون والنّصّابون كشْطَ فتاتِ الفضّةِ من أطرافِ القطعِ النّقديّةِ وبَيْعَها مقابلَ ثمنٍ باهظ. قامَ نيوتن، في محاولةٍ منه للحدّ من هذه الظّاهرة، بسكِّ قطعٍ نقديّةٍ من الذّهب لها شقوقٌ في أطرافِها بهدفِ الكشفِ عن القطعِ النّقديّةِ المخدوشة.

انتُخِبَ نيوتن سنة 1699م عضوًا في أكاديميّة العلوم الفرنسيّة وانشقّت الطّريق سنة 1703م، مع وفاةِ روبرت هوك، لتعيينه رئيسًا للجمعيّةِ الملكيّةِ في لندن. نَشرَ نيوتن في هذه الفترةِ نُسَخًا منقحة من مؤلّفاتِه عن البصريّاتِ وقوانينِ الحركةِ، كما توفّرَ له الوقتُ الكافي لمواصلةِ حربِه مع لايفنتس على حقِّ الأولويّةِ في تطوير حسابِ متناهياتِ الصَّغر. تُوفّيَ نيوتن في الحادي والثلاثين من آذار سنة 1727م وقد بلغَ الخامسةَ والثّمانين، ودُفِنَ في كنيسةِ وستمنستر. 

ניוטון בכס הנשיא של החברה המלכותית הבריטית | מקור: OXFORD SCIENCE ARCHIVE / HERITAGE IMAGES / SCIENCE PHOTO LIBRARY
لم يكن نيوتن عالمًا فحسب، وإنّما كان سياسيًّا أيضًا. نيوتن يجلسُ على كرسيِّ رئيسِ الجمعيّةِ الملكيّةِ البريطانيّة. | المصدر: OXFORD SCIENCE ARCHIVE / HERITAGE IMAGES / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

على أكتافِ العمالقة

أثمرَ تبادلُ الرّسائلِ مع هوك عن واحدٍ من أكثرِ أقوالِ نيوتن شهرةً، قولًا لا يمسُّ نظريّةً علميّةً بشكلٍ مباشر، لكنّه مثيرٌ للتّفكير بما يتعلّقُ بمكانته على منصّةِ التّاريخ. كتبَ نيوتن في رسالةٍ كان بعثَها إلى هوك سنة 1675م: "ما فعله ديكارت كان خطوةً جيّدة. أنتَ أضفتَ بعضَ الطّرقِ خاصّةً بما يتعلّقُ بألوان الألواح الدّقيقة. كََوْني أبعدتُ النّظرَ أكثرَ من الآخرين يعودُ إلى أنّني وقفتُ على أكتافِ العمالقةِ ليس إلّا". 

تقفُ وراء هذا القولِ الشّهيرِ فكرةُ أنَّ المعرفةَ تتطوّرُ بالتّدريج، وأنّ أكثرَ العلماءِ موهبةً في عصرهم لا بُدّ أنْ يعتمدوا على ما فعله الّذين سبقوهم في نهايةِ المطاف. حتّى هذه الجملةَ لمْ يأتِ بها نيوتن من لدُنه. كان الفيلسوفُ الفرنسيّ برنارد من شارتريس تفوّهَ بأقوالٍ مُشابهة خلالَ القرنِ الثّاني عشر الميلاديّ.

يمكن أن نجدَ قولًا مشابهًا إلى حدٍّ ما حتّى في خزنةِ الكتبِ العبريّةِ، ويعودُ الفضلِ، بشكلٍ صريحٍ، للفلاسفة. تُنسبُ الأقوال التّاليةُ، مثلًا، للحكيمِ اليهوديّ الإيطاليّ الرّابي يشعيا دتراني الّذي عاشَ في القرن الثّاني عشر الميلاديّ: "سمعتُ أنَّ حكماءَ الفلاسفةِ سألوا كبيرَهم: ألا نُقرُّ أنّ أوائلَ الحكماءِ كانوا أكثرَ منّا ذكاءً وعِلمًا وأنّنا نتحدّثُ عنهم ونناقضُ أقوالَهم في مواضعَ كثيرةٍ والحقيقة حليفتنا؟ كيف لمثل ذلك أن يحدث؟ أجابَ كبيرُ الحكماء وقالَ: من ذا الذي ينظرُ بعيدًا؟ هل هو العملاقُ أم القزم؟ يعني ذلك أنّ عيني العملاقِ تنظران من مكانٍ أعلى من عينَي القزم. وإذا ركبَ القزمُ على أكتافِ العملاق فمن ينظرُ أبعد؟ إنّه القزم الّذي أصبحت عيناه الآن أعلى من عيني العملاق. وها نحن الآن أقزامٌ نقفُ على رقابِ العمالقة".

رافقَ هذا التّبصّرُ، أنّنا لسنا إلّا أقزامًا نركبُ على أكتافِ العمالقةِ الّذين سبقونا، علماءَ وحكماءَ الشّريعة سويًّا على مدى مئاتِ السّنين، إلّا أنّ نيوتن بشكلٍ خاصّ شذّ عن هذه القاعدة إذ كانت تجديداتُه العلميّةُ في مجالِ البصريّاتِ والجاذبيّة انقلابًا ليس إلّا. كأنّه يمكنُ القولُ إنّ نيوتن رفسَ رؤوسَ العمالقةِ بعد أن وقف على أكتافِهِم فأرداهم أرضًا وظلّ يُراقبُ العالمَ من الأعالي وحده فأمسى أكبرَ العمالقة. 

تطرّقَ أهمّ تجديد لنيوتن، الّذي يتعلّقُ بالمفهومِ الجُسيميّ للضّوء وبنظريّةِ الجاذبيّةِ، إلى كيفيّةِ قدرةِ جسمَيْن على التّأثيرِ الواحدِ في الآخر. كان المفهومُ السّائدُ آنذاك، حتّى مجيء نيوتن، أنّه يمكنُ لجسمٍ أن يُؤثّرَ في جسمٍ آخر إذا حصلَ تماسٌّ بينهما. ينجمُ عن ذلك أنّه لا يمكن أن يكون هناك فراغٌ في الكونِ، وأنّ كلَّ ما يبدو لنا فارغًا ما هو إلّا حيّزٌ مليءٌ بوسطٍ غيرِ مرئيٍّ يُدعى الأثير. لقد آمن هوك وهويجنز أنّ أمواجَ الضّوء تتحرّكُ عبرَ هذا الوسط. كان تجديدُ نيوتن أنّه يوجد فراغ، وأنّه يمكن للأجسامِ أنْ تُؤثّرَ في بعضِها دون حاجةٍ لتلامسٍ فيما بينهما، أي أنْ يُؤثّرَ الجسمُ بقوّةٍ في الجسمِ الآخر. هل تتذكرون التّفّاحةَ الّتي سقطت في فناءِ منزلِ نيوتن؟

أحدثَ نيوتن خلالَ الخمسةِ والثّمانين عامًا الّتي عاشها تغييرًا جذريًّا في أسلوب تفكيرِ العلماءِ حولَ الضّوء، وطوّرَ أدواتٍ رياضيّةً حديثةً وثبّتَ قوانينَ الحركةِ والجاذبيّة العامّة. لا تقتصرُ مساهمةُ نيوتن الهائلةُ في تقدّمِ العلومِ على التّجديداتِ المميّزةِ الّتي جلبها. تبرزُ فوق كلّ ذلك جهودُه -ولا سيّما نجاحه- في صياغةِ منظومةٍ رياضيّةٍ مُحدّدةٍ ومُختصرةٍ لقوانينَ يمكنها تفسيرَ ظواهر على نطاقٍ واسع. يمكن اختبارُ القوانين والنّظريّاتِ المُصاغةِ بهذه الصّورةِ عن طريقِ التّجاربِ، ومن ثمَّ التّحقّقُ من صِحّتها أو نقضها. 

بمثلِ هذا الأسلوب تسيرُ العلومُ إلى الأمام. لم تحدث غالبيّةُ الاكتشافاتِ العلميّةِ بفضلِ ومضةٍ في حوضٍ أرخميديٍّ (منسوب إلى أرخميدس)، أو بفضلِ تُفّاحةٍ سقطت على رأسِ أحدِهم. حدثت معظمُ الاكتشافات بعدَ عملٍ دؤوبٍ ومُضنٍ مقرونٍ بالصّبرِ والكثيرِ من حالاتِ الفشل. علّمنا نيوتن الكثيرَ عن التّفكيرِ العلميّ، سواء كانَ عملاقًا حقيقيًّا أو أنّه وقفَ على أكتافِ العمالقة. من الواضحِ أنّ نيوتن كانَ إنسانًا يتحلّى بالغرورِ ومواطنَ الضّعف كسائرِ البشر، وأنّه امتازَ بتفكيرِهِ اللّامعِ غير العاديّ.

 

0 تعليقات