بدون أيّ دليلٍ تجريبيّ، لكن مع رُؤىً بعيدةِ الأمد، أصبحت نظريّةُ الأوتار (String Theory) في العقود الماضية أحد الآمال العظيمة للفيزياء. فهل فعلًا ستتحقّق هذه النظريّة؟

تُعدّ نظريّة الأوتار أحد مجالات البحث الرئيسة في الفيزياء النّظريّة في السنوات السّتين الماضية. خلال هذه الفترة، واجهتِ النظريةُ انتقاداتٍ حادّة -كانت في أغلب الحالاتِ مبرّرة- ومرَّت بتقلّبات، وأدّت إلى ابتكاراتٍ هامّة في عالَميِ الفيزياء والرّياضيات، وأصبحت أحد أعظم آمال الفيزياء النّظريّة. لكن ما زالت الحاجة مُلحّةً للتّغلّب على أهمّ عقبة ستنقلها من حالة تمرينٍ فِكريّ رائع إلى حقيقةٍ علميّة راسخة: تجربةٌ ناجحةٌ من شأنها أن تؤكّد ذلك!

في الخمسينات من القرن الماضي، كانت "نظريّة الحقل الكموميّ" هي النّظريّةُ الرّائدةُ المستخدمة لوصف أصغر المقاييس في العالم. وُلدت هذه النّظريّة، الّتي بدأ العلماء في صياغتها منذ حوالي قرنٍ ماضٍ، من محاولة دمج النّظريّة الكموميّة مع النّظريّة النّسبيّة لألبرت أينشتاين.

بدايةً، علينا أن ندرك أنّه عندما يتحدث الفيزيائيّون عن المجال، فإنّهم يشيرون إلى جوهرٍ رياضيّ يُعطي قيمةً لكلّ نقطةٍ في المحيط. على سبيل المثال، مجال درجة الحرارة: في كل نقطة في الكون هناك عددٌ يشير إلى درجة الحرارة فيها. قد يكون وصف المجالات الأُخرى، على سبيل المثال المجال الكهرومغناطيسيّ، أكثر تعقيدًا من النّاحية الرياضيّة، لكن المبدأ هو نفسه.

وفقًا لنظريّة المجال الكموميّ، يُوصفُ العالَمُ بأنّه مجموعةٌ من الحقول الّتي تتوافق مع جميع أنواع الجسيمات. توجِدُ التّفاعلاتُ بين هذه المجالات، في النّهاية، الظّواهرَ الفيزيائيّة الّتي نراها من حولنا. إنَّ نظريّة المجال الكموميّ معقّدة بالفعل، وتتطلّب العديد من الابتكارات الرياضيّة، لكنّها كانت وما زالت واحدةً من أكثر النّظريّات نجاحًا في الفيزياء الّتي تمّ التّحقّق من تنبُّؤاتها بدقّةٍ غير مسبوقة.

תורת היחסות הכללית | איור מושגי: Richard Jones, Science Photo Library
نظريّة الحقل الكموميّ غير كاملة وتجد صعوبة في وصف القوّة الأساسيّة الرّابعة - الجاذبيّة. نظريّة النّسبيّة العامّة | صورة توضيحيّة: Richard Jones, Science Photo Library

لنكمل اللّوحةَ كاملةً 

على الرّغم من نجاحها الكبير، فإنَّ نظريّة المجال الكموميّ غير مكتملة. تصفُ النّظريّةُ ثلاثًا من القوى الأساسيّة الأربعة في الطّبيعة: القوّة الكهرومغناطيسيّة، والقوّة النّوويّة الشّديدة والقوّة النّوويّة الضّعيفة. أمّا القوّة الرابعة وهي الجاذبية، فإنّ أحدث تعريفٍ لها هو النّسبيّة العامّة.

تكمن المشكلة في صعوبة ربط هذه النّظريّات ببعضها. وقد أدّت معظم محاولاتِ الربطِ إلى تطوير نظريّات غير فيزيائيّة. يعني ذلك، أنه على الرّغم من أنّها دقيقة رياضيًّا، فإنّه لا يُمكنها أن تصف العالم الماديّ الّذي نعرفه. ترتبط هذه الصعوبة جزئيًّا بحقيقة أنَّ النّظريّة النّسبيّة العامّة تواجه صعوبةً في وصف حالةٍ تتركّز فيها الكتلة والطّاقة في نقطةٍ مكانيّة واحدة. من جهةٍ أخرى، وفقًا لنظريّة الحقل الكموميّ، فإنَّ الجسيمات الأوّليّة في الطّبيعة هي بحجم النّقطة، أي أنّها بلا أبعاد. عندما نحاول الجمع بين النّظريّات، نحصل على نتائج غير منطقيّة ولانهائيّة.

تحاول نظريّة الأوتار سدّ هذه الفجوة من خلال تغيير الطّريقة الّتي تصفُ بها الجسيمات. فبدلًا من أن تكون الجسيماتُ نقطةً بلا أبعاد، تصف نظريّة الأوتار الجسيماتِ بأنّها أوتار. هذه الأوتار ذات بُعدٍ واحد فقط - هو الطّول، وهو أيضًا صغيرٌ للغاية: حيث النّسبة بين طول وترٍ واحد وحجم ذرّة واحدة مماثلة للنّسبة بين حجم ذرّة واحدة وحجم الكون المُلاحَظ. طول الأوتار صغير جدًّا لدرجة أنّه في أيّ سياقٍ آخر قد نتعامل معها على أنّها مجرّد نقطة، لكن في إطار نظرية الأوتار، من الممكن أن ننسب إليها خصائص كائن ذي بُعد واحد، على سبيل المثال وتر مفتوح أو وتر لولبيّ مغلق.

تنعكس الاختلافاتُ بين الجسيمات في اختلاف طريقة اهتزاز الأوتار، كأوتار آلةٍ صوتيّةٍ تهتزّ بشكل مختلف وتُنتج أصواتًا مختلفة. صيغت هذه النّظريّة في الأصل في السّبعينات، ومنذ ذلك الحين تغيّرت وتطوّرت. اليوم، هناك العديد من نظريات الأوتار المختلفة، التي تشترك في الفكرة الأساسيّة حول طبيعة الجسيمات الأوّليّة، لكنّها تختلف عن بعضها في التّفاصيل الرياضيّة.

معظم نظريّات الأوتار المقبولة في الوقت الحاضر، هي في الواقع نظريّات "الأوتار الفائقة" (SuperString)، أو بالاسم الكامل "نظريّات الأوتار فائقة التّناظر". وهي مرتبطة بنظريّة فيزيائيّة أخرى تسمّى "التّناظر الفائق"، الّتي تقدّم إضافاتٍ إلى النّموذج القياسيّ للجسيمات المقبولة اليوم في الفيزياء. وفقًا للنّموذج القياسيّ، تنقسم الجسيماتُ في الكون إلى نوعيْن يختلفان عن بعضهما في خصائصها الكموميّة: جسيمات المادّة، المعروفة أيضًا باسم الفرميونات - على سبيل المثال الإلكترون؛ والجسيمات الحاملة للقوّة، وتسمّى البوزونات - على سبيل المثال الفوتون. تفترض نظريّاتُ التّناظر الفائق أنَّ لكلّ فرميون جسيمًا مماثلًا بهيئة بوزون، والعكس صحيح.

وفي الوقت الذي قدّمت فيه نظريّاتُ الأوتار الأصليّة وصفًا مادّيًا للبوزونات فقط، فإنّ نظريّات الأوتار الفائقة تستخدمُ أدواتِ التّناظر الفائق لوصف كلّ من الفرميونات والبوزونات، وبالتّالي فإنها تقدّم تفسيرًا مادّيًا أكثر اكتمالًا. في غضون خمس سنوات منذ ظهور الفكرة لأوّل مرّة فقط، طغت نظريّاتُ الأوتار الفائقة بشكل شبه كامل على النّظريّاتِ السّابقة، وتحوّلت معظمُ الأبحاث والمشاركة النّظريّة في هذا المجال إلى التّركيز عليها.

في التّسعينات، أظهر الفيزيائيّ إدوارد ويتن (Witten) أنَّ نظريّاتِ الأوتار الفائقة العديدة والمتنوّعة الّتي تعامَلَ الفيزيائيون معها في ذلك الوقت، كانت مرتبطة رياضيًّا ببعضها، وأنّ كل واحدة منها ليست أكثر من حالة خاصّة لنظريّةِ سقفٍ واحد (أي نظرية شُموليّة)، عُرِفت باسم M-Theory. مع ذلك، ما زالت هناك نُسخ مختلفة من نظريّات الأوتار، تختلف عن بعضها في سؤالٍ متعدّدِ الأبعاد.

תורת המיתרים | איור: SAKKMESTERKE, Science Photo Library
محاولة سدّ الفجوة بين النّظريّات من خلال وصف الجسيمات كنوع من الأوتار. نظريّة الأوتار | صورة توضيحيّة: SAKKMESTERKE, Science Photo Library

كم بُعدًا للواقع؟

لاتّساق نظريّات الأوتار رياضيًّا، عليك أن تتطلب من العالم أن يشملَ أكثر من الأبعاد الأربعة التي اعتدنا عليها، وهي أبعاد الفضاء الثّلاثة - الطّول، العرض والعمق - وبُعد الزمن. في حال كان هذا محيّرًا لك، فكِّر في الأبعاد على أنّها "كم عدد الأرقام التي تحتاجها للإبلاغ عن مكاني؟" بينما نحتاجُ في الحياة اليوميّة إلى أربعة أرقام، ثلاثة منها تشير إلى مكاننا والرّابع يشير إلى الوقت، فإنّه في المشاكل الفيزيائيّة الأكثر تعقيدًا، قد نحتاج إلى المزيد من الأرقام - بالتّالي فإنَّ النّظريّات الّتي تخوض فيها لها أبعاد أكثر.

تطلّبت الصّيغ الأولى لنظريّة الأوتار 26 بُعدًا، لكنّ نظريّات الأوتار الفائقة الشّائعة اليوم قلّ عددها إلى عشرة أو أحد عشر بُعدًا. ثم يُسأل، أين تختفي هذه الأبعاد؟ لماذا لم نرها قط؟ الحلّ الّذي تقدّمه النّظريّة هو أنَّ الأبعاد الإضافيّة صغيرة للغاية، لدرجة أنّه من غير المحتمل أن نتمكّن من رؤيتها. على سبيل المثال، خيط الصّيد بالنّسبة لنا رفيع جدًّا وضيّق لدرجة أنّه أحاديّ البُعد تقريبًا - له طول فقط. وفي المقابل، قد يبدو الخيطُ لنملة صغيرة سِلكًا يُشبه الاسطوانة، ويمكنها السّير على طوله والدوران حوله.

المشكلة هي أنّه في واقعنا المادّيّ، علينا استخدامُ طاقاتٍ عالية جدًّا لمراقبة الأشياء الصّغيرة إلى هذا الحدّ. عندما يتعلّق الأمر بنظريّة الأوتار، فإنَّ هذه الطّاقات أعلى بكثير من الطّاقات الّتي نعرف تسخيرها لخدمتنا اليوم. وفي غياب القدرة على ملاحظة هذه الأبعاد المُقدَّرة، لا يستطيع الفيزيائيّون اليوم تأكيدَ النّظريّة أو دحضها أو الاختيار بين النُسخ المختلفة.

في الواقع، تُعدّ الأبعادُ الإضافيّة أحدَ الاختلافات الرئيسة بين العديد من النّظريّات الّتي تُشكّل نظريّة الأوتار: فهي تختلف عن بعضها في الطّريقة الّتي تصف بها الأبعادَ الإضافيّة، بطريقةٍ تتوافق مع الواقع رباعيّ الأبعاد الّذي نعرفه. لفهم هذا بدقّة، يجب أن تخوض في رياضيّات نظريّة الأوتار؛ لذا يكفي أن نقول إنّه في بعض الأحيان يمكن وصف الظاهرة نفسها باستخدام أدواتٍ رياضيّة تبدو مختلفة، لكلٍّ منها مزايا وعيوب، وكلّ منها يقدّم وجهة نظر مختلفة.

תאוריית מיתרים על-סימטרית | איור: Nicolle R. Fuller, Science Photo Library
تتعامل نظريّات الأوتار الفائقة اليوم مع عشرة أبعاد أو أحد عشر بُعدًا صغيرًا جدًّا لن نراها على الأرجح. نظرية الأوتار فائقة التناسق | الصورة: Nicolle R. Fuller, Science Photo Library

فرضيّات يصعُب إثباتها

إذن، فإنَّ نظريّة الأوتار اسمٌ عامّ لعائلة من النّظريّات التي تضع الأوتارَ محلّ الجسيمات والحقول - اللّبنات الأساسيّة للفيزياء التي نعرفها-. أنماطُ تذبذب هذه الأوتار هي الّتي توجِدُ -على ما يبدو- الحقولَ والجسيماتِ الموصوفة في النظريات المقبولة اليوم.

قد تنجحُ نظريّة الأوتار يومًا ما في توحيد نظريّة المجال الكموميّ مع النّسبيّة العامّة. ولكن، من أجل ذلك، على العلماء وضع بعض الافتراضات غير مفهومة ضِمنًا بأنه ليس هناك في المستقبل المنظورِ طريقةٌ تجريبيّة للتّحقّق أو لرفض وجود أبعاد إضافيّة، مثلًا.

يتوزَّع السّعي العلميّ لنظريّة الأوتار حاليًّا بين عدّة نقاط، بما في ذلك تطويرُ الأدوات الرياضيّة للنّظريّة، وإنشاء تنبّؤات جديدة وتحديد الطّرق المحتملة للتّحقّق من النّظريّة تجريبيًّا. على الرّغم من عدم وجود أيّ دليل على صحّة النّظريّة، وأنّ العديد من الفيزيائيّين يشكّون في صحّة نظريّة الأوتار، فإنّها ما تزال تُعتبر الاتّجاه الرّائد لتوحيد النّسبيّة العامّة ونظريّة المجال الكموميّ، ووصف الجاذبيّة على المستوى الكموميّ.

 

0 تعليقات