لماذا يكتب الأطفال الصِّغار كتابةً معكوسةً وكيف يرتبط هذا بالدّماغ؟
تخيّل أنّك جالس في سيارة أجرة في يوم بارد وممطر. يتراكم البخار على النافذة وستجد فجأة أنّ الفتاة التي تجلس في السيارة المجاورة لك هي فتاة أحلامك، أو ربّما صديق قديم لم تقابله منذ سنوات. تحاول أن تتواصل معهم وتمنحهم رقم هاتفك أو عنوان بريدك الإلكتروني على النافذة. وحتّى تكون الرسالة قابلة للقراءة، يجب عليك استعمال الكتابة المعكوسة. هل ستصل الرسالة قبل أن تتغيّر إشارة المرور وستفقد الفرصة الذهبيّة إلى الأبد؟
تتمّ الكتابة المعكوسة بطريقة تتناقض مع الكتابة العاديّة، حيث تُكتب الحروف في الاتّجاه المعاكس، والّتي يمكن قراءتها بسهولة عند استخدام المرآة. يمكن أن تكون هذه الكتابة طوعيّة، على سبيل المثال، استخدم ليوناردو دا فينشي، الكتابة المعكوسة في ملاحظاته الشخصيّة، أو لا إراديًا في حالات إصابة مناطق معيّنة في الدماغ، وأمراض التنكّس العصبيّ، ومشاكل النموّ - وأيضًا عند الأطفال الصغار والأصحّاء خلال خطواتهم الأولى في الكتابة.
كتابة معكوسة في قوائم ليوناردو دافنشي | الصورة مأخوذة من ويكيبيديا
كيف يمكن أن تكون الكتابة المعكوسة إمكانيّة قائمة؟ ولماذا تشيعُ هذه الظاهرة بشكل خاصّ لدى الأطفال؟ هل ترتبط الظاهرة مرتبطة بالإدراك المعاكس للحروف، أم أنّ الإدراك بالاتجاه الصحيح لكن المشكلة تكمن في التنفيذ الحركيّ أو التّطبيقيّ للكتابة؟
التّفسير الحسّيّ
وفقًا لهذا النهج، يتمّ تمثيل وتخزين كلّ كلمة أو صورة نتعرّف عليها في الجزء المسيطر من الدماغ حيث تتواجد مراكز النطق واللغة لدينا (معظم الناس هم نصف الكرة الأيسر، أي الجانب الأيسر من الدماغ)، بينما يتمّ تمثيل الشّكل المعاكس لتلك الكلمة على الجانب الآخر من الدماغ. في معظم الحالات، يكون التمثيل المعاكس مكتئبًا ولا يؤثّر على عملنا، إلّا في الحالات التي تكون فيها آلية قمع التمثيل المعاكس ضعيفة نتيجة للإصابة أو المرض. ويمكن أن يحدث نفس الشيء عندما لا يكون الرقم هو المهيمن، مثلًا لدى الأطفال الذين لم يتم بعد تحديد الهيْمنة في عقولهم.
الفصّان الدماغيان للخروف | الصورة مأخوذة من ويكيبيديا; أُنشئت من قبل aaronbflickr
التّفسير الحركيّ
يتعلّق هذا النّهج بالأساس الحركيّ (الحركة) لعمليّة الكتابة. لكلّ حرف، كلمة وجملة نكتبها برنامج حركيّ دقيق يتضمّن تعليمات تشغيل العضلات المختلفة في التوقيت والاتّجاه الصّحيحيْن. للأشخاص المهيمنين على اليد اليُمنى برنامج حركيّ للكتابة العاديّة في الجانب الأيسر من الدماغ، بينما يتواجد برنامج الكتابة المعاكسة على اليمين.
عادةً ما يكون الجانب الأيسر من الدماغ هو الذي يُملي الحركة الّتي تتعلّق بالكتابة بينما يكون الجانب الأيمن غير فعّالًا، لذلك يتمّ تطبيق البرنامج الحركيّ على الكتابة العادية. على غرار النّهج الإدراكيّ، حتى هنا عندما تكون آلية القمع ضعيفة أو عندما يكون هناك قصور في الجانب الأيسر، فإنّ الجانب الأيمن من الدماغ يتولّى هذه المهمّة وينشّط برنامج الحركة العكسيّة المسؤول عن الكتابة المعكوسة.
وفقًا لهذا التّفسير، عند الأطفال الصغار، الّذين لم تتحكّم هيمنتهم بعدُ في أذهانهم، يكون برنامج الحركة العكسيّة الذي يسيطر عليه الجانب الأيمن من الدماغ ممكنًا في بعض الأحيان، لذلك فإنّ الكتابة المعكوسة منتشرة جدًا لديهم.
يعتمدُ التفّسير الحركيّ أيضًا على افتراض أنّ الحركات الّتي نقوم بها من منتصف الجسم إلى الخارج، أي من الضّلوع الخارجيّة، أكثر راحةً ودِقّةً لنا من الحركات التي نقوم بها في الاتّجاه المعاكس. أي أنّه، تنتقل اليد اليُمنى عادةً من اليسار إلى اليمين (من وسط الجسم إلى الخارج) وتتحرّك اليد اليُسرى من اليمين إلى اليسار (من وسط الجسم إلى الخارج أيضًا).
وفقًا لهذا المبدأ، يمكن تفسير سبب أنّ الّذين يكتبون الكتابة المعكوسة في الدّول الغربيّة يساريّين إلى حدّ كبير. تُكتب اللغات الغربيّة، مثلًا اللّغة الإنجليزيّة، من اليسار إلى اليمين، لكن عند استخدام اليد اليُسرى، من الطّبيعي أن تكتب في الاتّجاه المُعاكس - من اليمين إلى اليسار. حتى يتمكّنوا من كتابة رسالة قابلة للقراءة، فإنّ اليساريّين لا يفعّلون هذا الاتّجاه الطّبيعيّ ويعتادون على الكتابة مثل اليمينيّين، من اليسار إلى اليمين.
في المقابل، عند الأطفال الصغار الذين يخطون خطواتهم الأولى في الكتابة، فإنّ مهارة كبح الميل الطبيعيّ للحركة ليست متطوّرة بشكل جيّد. حيث لا يشعرون بالأمان باتّجاه الكتابة بعدُ، وفي العديد من الأحيان يحاولون أن يكتبوا باليد غير المهيمنة. لذلك، يميلون في بعض الأحيان إلى البدء في الكتابة بالاتجاه المعاكس ومتابعة الكتابة المعكوسة دون تصحيح أنفسهم.
وماذا يحدث باللّغات السّاميّة المكتوبة بالعكس - من اليمين إلى اليسار؟ باللّغتين العبريّة والعربيّة، على سبيل المثال، تتمّ الكتابة باليد اليًمنى من الخارج إلى مركز الجسم، على عكس الحركة الطبيعيّة والمريحة. هل هناك فرق في أداء الكتابة المعكوسة بين اللّغات الساميّة والغربيّة؟
لسوء الحظ، البحث في هذا المجال محدود للغاية ويصعب الإجابة عليه. تشير بعض الدراسات إلى أنّ الكتابة المعكوسة أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين يكتبون بلغات من اليمين إلى اليسار، بسبب الحاجة إلى القيام بحركة تتعارض مع الحركة الطبيعيّة من وسط الجسم إلى الخارج. نُشر من قبل حدث مثير للاهتمام لرجل كتب في اليد اليمنى في الكتابة المعكوسة باللغة العبريّة وليس الفرنسيّة، لكن هذه الحالة فريدة من نوعها.
عندما يتعلّق الأمر بالكتابة المعكوسة عند الأطفال، يجب دحض الأسطورة الشائعة. في الماضي تمّ التعرّف على مثل هذه الكتابة مع تأخير في النموّ العقليّ والحركيّ. تظهر الدراسات الحديثة أنّه لا توجد فروق في الذكاء بين الأطفال من نفس العمر الذين يكتبون الكتابة الطبيعيّة و الذين يكتبون الكتابة المعكوسة. في معظم الحالات، يكون هذا في طريق التّطوير السّليم، كجزء من اكتساب قدرات الكتابة، كمرحلة انتقاليّة بين عدم معرفة الكتابة والقراءة إلى الكتابة الصّحيحة.
عندما يتعلّم الطفل استخدام الصنبور، فإنّه يتعلّم في نفس الوقت العمليّة وعكسها -فتح وإغلاق الصنبور- أي عمليّتان أساسيّتان. بالتّالي، في اكتساب مهارة الكتابة كذلك، هناك مجال لكلا النموذجين: الكتابة العاديّة والكتابة المعكوسة. أمّا الفرق فهو أنّ في الكتابة نقوم بالتواصل مع البيئة، والشّكل المعاكس لا فائدة له وغير مستعمل، بالتّالي يتمّ التّخلّي عنه بعد أن يتعلّم الطفل كلا الشّكلين ويدرك أنّ عليه استخدام النموذج المعتاد في المجتمع الذي يعيش فيه.
بوميرانج - نعود لك
تشير الدراسات إلى أنّ الأشخاص الذين يكتبون الكتابة المعكوسة يمكنهم أيضًا قراءته بسرعة. أيّ من التفسيرات الموصوفة تتّفق مع هذه الظاهرة؟
بالنَّجاح.
ملاحظة لمتابعي النَّصّ
إذا كنت تعتقد أنّ التّفسيرات ليست واضحة بما فيه الكفاية أو إذا كانت لديك أسئلة متعلّقة بالموضوع، فلا تتردّد في نشرها في المنتدى وسنتناول تعليقاتك. اقتراحات للتّحسين والنّقد البنّاء هي دائمًا موضع ترحيب.