ابتكرت مجموعة من علماء الفيزياء في القرن العشرين معادلات وأساليب حسابيّة تتيح للكيميائيّين فهمًا أفضل للفيزياء الكامنة وراء الكيمياء
ما هو الفرق بين الكيميائيّين والفيزيائيّين؟ يُنظر عادةً إلى الكيميائيّين وهم منهمكون بعلومهم داخل المختبر، في حين ينشغل الفيزيائيّون بالنظريّات، بحوزتهم أوراق وقلم رصاص أمام السبورة. أخذت الحدود الفاصلة بين الكيميائيّين والفيزيائيّين بالتلاشي شيئًا فشيئا منذ صدور نظرية الكم (الكوانتم) في أوائل القرن العشرين، وبدأ ازدهار الكيمياء النظرية.
تسعى الكيمياء النظريّة إلى فهم الفيزياء الكامنة وراء الديناميكيّات الكيميائيّة، والطاقة الكامنة في المادّة والمرافقة للتفاعلات، وفهم تأثير الديناميكيّات الكيميائيّة على العمليّات التي تجرى في العالم الحيّ وتلك التي تحدث في الغلاف الجوّيّ. يزداد تعقيد معادلات نظريّة الكمّ مع ازدياد أعداد الجسيمات، وتزداد معها الحاجة الى موارد حسابيّة كثيرة جدًّا لحساب صفات تبدو سهلة لأوّل وهلة مثل درجة الحرارة والضغط، ذلك لدرجة قد يصبح فيها إجراء مثل هذه الحسابات مستحيلًا. زوّدنا الأسلوب الفريد من نوعه في الكيمياء النظريّة، أسلوب تكاملات المسار لِلديناميكيّات الجزيئيّة، PIMD (اختصار الكلمات Path Integral Molecular Dynamics)، الذي يستمدّ قوّته من الميكانيكا التقليدية، بكمية لا بأس بها من المقالات والتحديثات. سنحاول فهم هذا الأسلوب من خلال هذه المقالة، ربّما ننجح في ذلك.
قطّ شرودنغر الضائع
صاغ الفيزيائيّ إرفين شرودنغر(Schrödinger) سنة 1926 المعادلة الشهيرة المسمّاة على اسمه: المعادلة الموجيّة التي تصف حركة المنظومات الكموميّة (الكوانتية). ساهمت فرضيّة دي برولي (de-Broglie)، التي وُصفَ الإلكترون فيها بالموجة، تمامًا كما يمكن وصف الضوء، الذي هو مَوجة، بأنّه فوتون، وهو في الواقع جسيم، من ضمن أمور أخرى، في انبلاج هذه المعادلة. لقد مهّد هذا التحول النموذجيّ لقدوم الثورة الكموميّة. لعلّ نظريّة الكمّ هي الأكثر دقّة في الفيزياء، وقد تمّ التحقّق من تنبّؤاتها في الكثير من التجارب.
صاغ الفيزيائيّ إرفين شرودنجر المعادلة التي تصف حركة المنظومات الكموميّة سنة 1926. يصف الرسم في الصوره تَقدّم معادلة الموجة | ويكيميديا، Xcodexif
تَفرض شكليّة معادلة شرودنغر، على الرغم من ذلك، قيودًا. يكاد يكون من المستحيل صياغة حركة المنظومات الكموميّة، مثل الجسيمات الواقعة تحت تأثير قوى متعدّدة أو المنظومات كثيرة الجسيمات، بواسطة هذه المعادلة بطريقة تحليليّة، أي بالورقة والقلم.
مرّت ميكانيكا الكمّ بتحوّلات كثيرة مع الزمن، ولا يعتقد غالبيّة الفيزيائيّين اليوم أنّها مثيرة للاهتمام بشكل خاصّ؛ يستخدم الفيزيائيّون شكليّة مختلفة إذا احتاجوا لحساب تطوّر المنظومات الكموميّة: الشكليّة التكامليّة - المسار الذي ابتكره ريتشارد فاينمان (Feynman)، أحد كبار فيزيائيّي القرن العشرين والحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965.
عندما لا يكون فاينمان فقط هو الذي يمزح
تَختبر معادلة شرودنجر دالّة الموجة، أي خواصّ الإلكترون في كل لحظة ونقطة في الحيّز. اقترح فاينمان التطرّق إلى شيء آخر: الناشر أو المُوزّع أو المُروّج (propagator)، ما يشبه الآلة التي تدفع جسيمًا من حالة أوّليّة من نقطة معينة إلى نقطة أخرى في المكان والزمان. يحدّد هذا الناشر ديناميكا الجسيم، ويمكن الاكتفاء به لأن حسابه يعادل حساب دالة الموجة في كلّ لحظة ونقطة.
الناشر، وفقًا لفاينمان، هو ترجيح التواريخ المختلفة المحتملة للنظام؛ يُشكّل، مثلًا، كلّ مسار محتمل يمكن لجُسيم منفرد مُتحرّك من نقطة البداية نحو نقطة الهدف أن يسلكه تاريخًا مختلفًا.
اقترح فاينمان شكليّة مختلفة، تتيح الحصول على نتائج تُعادل حل معادلة شرودنجر. يظهر فاينمان على طابع بريديّ للولايات المتّحدة الأمريكيّة | Shutterstock, spatuletail
يمكن حساب الناشر بأساليب شتّى والحصول على نتائج تعادل حلّ معادلة شرودنجر، لكن قد يكون ذلك معقّدًا جدًّا. هنا يأتي التألّق المُسمّى "دَوَران ويك"، على اسم الفيزيائيّ الإيطاليّ جان كارلو ويك: إحلال إحداثيّة درجة الحرارة بدلًا من إحداثيّة الزمن التي تظهر في حساب الناشر. يشبه كلّ مُكوّن من مكوّنات الناشر، بحلّة أخرى، المقدار الثيرموديناميكيّ المعروف بعامل بولتزمان. يعرض عامل بولتزمان احتمال حيازة النظام على مقدار معيّن من الطاقة في درجة حرارة معطاة. مُكوّنات الناشر هي أسسٌ (الدالّة الأسّيّة - أي القُوّة - بشكل أكثر تحديدًا) لعدد مركّب، لكن عامل بولتزمان هو أُسٌّ لعدد حقيقيّ، إذ يتمّ تمثيل الطاقة ودرجة الحرارة بواسطة أعداد حقيقيّة.
لذلك يجب ترجيح عوامل بولتزمان الخاصة بالنظام، بدلًا من ترجيح تواريخه - التي يتعلّق حسابها بالزمن. نحصل بذلك على دالّة التوزيع أو التجزئة (partition function) التي هي بمثابة مجمع معلومات يرمز الى الخواصّ الإحصائيّة للنظام الترموديناميكيّ، وعلى رأسها طاقة هذا النظام. وهكذا، وبفضل الحيلة التي قمنا بها، وبعض الخطوات الجبريّة الأخرى التي لا مجال لذكرها هنا، تمّ استبدال النظام بِنظام فعّال آخر.
تمّ استبدال جميع جسيمات النظام الكموميّ الأصليّ بعدّة نسخ منه سُمّيت بالخرزات (beads) المتّصلة ببعضها بزنبركات. يتحرّك هذا النظام البديل من الخرزات و الزنبركات، المسمّى البوليمر الحلقيّ (ring polymer)، وفقًا لِقوانين الميكانيكا التقليديّة. أتاح هذا النظام البديل للعلماء إدراكًا حدسيًّا غير القائم بالضرورة في النظام الكموميّ الأصليّ. كلّ خرزة هي بمثابة "خطوة درجة الحرارة"، وتمثّل الحلقة الكاملة الماهيةَ الترموديناميكيّة للجسيم. يمكن وصْل الحلقات بأشكال مختلفة، وفقًا للإحصائيّة الكموميّة للجسيمات في النظام.
تمّ استبدال كلّ جسيم من جسيمات النظام الكموميّ بعدد من النسخ المسمّاة خرزات (beads) متّصلة فيما بينها بزنبركات. رسم توضيحيّ لِبوليمر الحلقة | مأخوذ عن المقال Lamaire et al., 2019
الرمز الفعّال
تعذّر تطبيق هذا الأسلوب بواسطة الحسابات لسنين طويلة، إلّا أنّ اقترح الفيزيائيّان ميكيلي بارينيلو (Parrinello) وأنيسور رحمن (Rahman) سنة 1984 أوّل خوارزميّة لاستخدامها في أسلوب PIMD، وهي تدمج بين تكامل المسار وأساليب حسابات الديناميكا الجزيئيّة. يكاد يكون هذا الرابط بين الأمريْن ضروريًّا، ذلك لأنّ أساليب الديناميكا الجزيئيّة، التي تحاكي حركة ركام من الجسيمات، تَستخدم هي الأخرى قوانين الميكانيكا التقليديّة. يضاهي قِدم هذه الأساليب قِدمَ تكاملات المسار التي اقترحها فاينمان، وقد ابتكرها كلّ من إنريكو فيرمي (Fermi)، وجون باستا (Pasta)، و ستانيسلاف أولام (Ulam) الذين عملوا معًا في مشروع مانهاتن. حظيت الأساليب من هذه العائلة بالاهتمام المتجدّد عندما فاز آريه وارشيل و مارتن كاربلوس و مايكل ليفيت بجائزة نوبل في الكيمياء عام 2013.
واجهت الخوارزميّة الأصليّة صعوبةً في محاكاة الجسيمات بواسطة الإحصائيّات الكموميّة، إلّا أنّها جلبت بشرى كبيرة لعالَمَيْ الكيمياء النظريّة والكيمياء الحسابيّة. أخذ تطبيق الخوارزميّة في مجالات الدراسات الأساسيّة بالانتشار منذ أن عُرضت، وهي تُستخدم في تفسير خواصّ الموادّ السائلة والصلبة، وحساب وتيرة التفاعلات الكيميائيّة وحتّى في فهم بعض الأمور المتعلّقة بالنقاط الكموميّة. لا يصف أسلوب PIMD التغيّر الحقيقيّ للنظام مع الزمن، وإنّما يصفه بمصطلحات درجة الحرارة: تُحسب الخواصّ الإحصائيّة، مثل الطاقة والضغط واللزوجة بالاستعانة بـِ PIMD، ذلك خلافًا للحسابات الديناميكيّة في الزمن الحقيقيّ، أي كيفيّة تحرّك الجسيمات. مع ذلك، توجد نسخة من PIMD تتيح حساب التغيّر في المنظومات الدينامية مع الزمن، ولا تقتصر على خواصها الإحصائيّة.
اقترح الدكتور باراك هيرشبرغ من جامعة تل أبيب في السنوات الأخيرة خوارزميّة تصلح فعاليّتها للبوزونات (وهي جسيمات ذات عدد لَفّ مغزليّ - سْبين - صحيح، مثل نواة ذرّة الهيليوم)، الأمر الذي أتاح، من بين أمور أخرى، تنبّؤ وجود مواد كموميّة جديدة وغريبة. تنبأ هيرشبرغ، على سبيل المثال، بأنّه يمكن أن يتمتّع الديوتيريوم، وهو نظير (ايزوتوب) لعنصر الهيدروجين، في ظروف معيّنة، بخواصّ المواد فائقة الصلابة، وهي موادّ ذات هيكل منتظم ثابت، إلّا أنّها تجري دونما أيّ احتكاك. شارك هيرشبرغ موقع ديفيدسون من خلال مقابلة أجريت معه وجهة نظره تجاه هذه الطريقة بقوله: "تتيح هذه الطريقة وصف إحدى خواص الجُسيم الكموميّ الأكثر أهمّيّة - وهي حقيقة عدم تواجده في نقطة محدّدة في الحيّز في زمن معيّن، وذلك وفقًا لمبدأ الرّيْبة (اللايقين). يتناسب نصف قطر البوليمر، فعليًّا، تناسبًا طرديًّا مع طول الموجة الخاصّة بالجسيم الكموميّ. كماتتيح هذه الطريقة إدراج التأثيرات الكموميّة، مثل النفق الكموميّ، ضمن عمليّات المحاكاة الكلاسيكيّة، وهذه ميزة أخرى من مزاياها المميزة".
يظهر الفيديو التالي نسخة من PIMD:
هَبيني قطرة من الحظّ أيّتها الخوارزميّة
يعتبر الفيزيائيّ الأمريكي ديفيد سيبيرلي (Ceperley) واحدًا مِمّن اقترحوا، بتزامن مع تطور PIMD، طريقة PIMC (اختصار الكلمات Path Integral Monte Carlo). يتم، وفقًا لما تقترحه هذه الطريقة، رصد عيّنات من الإعدادات العشوائيّة - الترتيبات العشوائيّة - لحلقات البوليمر. كثيرًا ما تتيح "القرعة" التي تُجرى على مثل هذه الإعدادات توفير الجهود الحسابيّة، وتتقارب في النهاية وتعطي نتيجة فيزيائيّة حقيقيّة.
إنّه سحر في أوج فاعليّته! لم تكتسب الطريقة اسمها عبثًا: مدينة مونت كارلو معروفة بدور الكازينو التي يسيطر فيها الحظّ والعشوائيّة. أساليب مونت كارلو مُتّبعة ومعروفة في الفيزياء الحسابيّة أيضًا، وقد طوّرها فيرمي وباستا واولام، جنبًا إلى جنب مع زملائهم من مشروع مانهاتن: جون فون نويمان (von Neumann) ونيكولاس متروبوليس (Metropolis) الذين أكسَبوها اسمها.
فرق الأبحاث التي تستخدم صندوق أدوات أسلوب تكامل المسارات كأداة علميّة بالغة الفاعليّة آخذة بالتزايد؛ تطبيقات هذه الأساليب متنوّعة، وهي تتقدّم بفضل الدمج بين فاعليّتها الحسابيّة وخوارزميّات من مجال التعلّم الآليّ. تتيح هذه الأساليب تشخيص ظواهر كيميائيّة وفيزيائيّة على الكرة الأرضيّة، وتشخيص ظواهر على مجموعات النجوم البعيدة وفي ظروف متطرّفة، وكل ذلك بتكلفة متواضعة من الحسابات المصحوبة بالحدس نادر الوجود.
شكري مقدّم لصديقي يعقوب حيجار على التوضيحات التي قدّمها للمقالة