ينبع نشاط البروتينات، وهي الآلات الصغيرة المسؤولة عن وظائف الخلايا، من قدرتها على التطوّي بالشكل الصحيح. كيف تطوّى البروتينات، وماذا يحدث عندما يطرأ خلل في هذه العمليّة؟

تتمكّن الخلايا الّتي يتكوّن منها جسمنا، وجميع الكائنات الحيّة الأخرى، من القيام بوظائفها كما يجب بفضل عشرات الآلاف من الجزيئات الّتي تُسمَّى البروتينات. تعتبر البروتينات آلات جزيئيّة صغيرة تؤدّي وظائف عديدة ومتنوّعة: فهي تنقل الموادّ من مكان إلى آخر، تندمج في بنية الخليّة، تسرّع العمليّات الكيميائيّة، بل وتشارك في تفاعلات الخليّة مع البكتيريا والفيروسات.

تعلَّمنا منذ الصغر أن نتأكّد من استهلاك البروتينات في نظامنا الغذائيّ. السبب في ذلك هو أنّه عندما تتحلّل البروتينات في الجهاز الهضميّ، يتمّ امتصاص لبِنات البناء الأساسيّة الخاصّة بها من قبل الجسم، والّتي  يتمّ استخدامها مجدّدًا في بناء بروتينات جديدة تلعب أدوارًا حيويّة في العديد من العمليّات في جسمنا.

تُدعى هذه اللبِنات بالأحماض الأمينيّة، والّتي لها بنية خاصّة بحيث يوجد في أحد جانبيها حمض كربوكسيليّ (–COOH) وفي الجانب الآخر توجد منطقة تُسمَّى "الطرف الأمينيّ" (–NH2) والّتي تحتوي دائمًا على ذرّة أوكسجين. بالإضافة إلى ذلك، توجد أيضًا مجموعة جانبيّة تشبه "الذيل"، والّتي تزوّد كلّ حمض نوويّ ببنية فريدة ومميّزة عن غيره. بالمجمل، هناك عشرون نوعًا تقريبًا من الأحماض الأمينيّة المختلفة في الطبيعة. لكلّ مجموعة جانبيّة منها خصائص كيميائيّة فريدة: على سبيل المثال، بعضها مشحون بشحنة كهربائيّة موجبة أو بشحنة سالبة، والبعض الآخر غير مشحون على الإطلاق. كذلك، بعض الأحماض الأمينيّة محبّة للماء، ما يعني أنّها تنجذب إلى جزيئات الماء، والبعض الآخر كارهة للماء، أي أنّها تنفر من جزيئات الماء.


على اليمين يوجد الحمض الكاربوكسيليّ، وعلى اليسار مجموعة أمينيّة. ويشير R إلى المجموعة الجانبيّة، والّتي تكون فريدة في كلّ حمض أمينيّ. البنية العامّة للأحماض الأمينيّة | ويكيبيديا، YassineMrabet

ما الّذي يحدّد بنية البروتين؟

ترتبط الأحماض الأمينيّة ببعضها البعض وتشكّل سلسلة طويلة تشبه الخيط. كلّ سلسلة من هذه عبارة عن بروتين منفصل، له تسلسل فريد من نوعه من الأحماض الأمينيّة. تعمل قوى فيزيائيّة وكيميائيّة بين الأحماض الأمينيّة خلال عمليّة بناء البروتين، وأيضًا بعد ذلك. تتسبّب هذه القوى في انجذاب بعض الأحماض الأمينيّة في تلك البعيدة عنها على طول السلسلة. بعد ذلك، تطوى السلسلة إلى بنية ثلاثيّة الأبعاد. في هذه العمليّة، عادةً ما تطوّى الأحماض الأمينيّة الكارهة للماء على نفسها، في داخل البروتين، حيث تنعزل عن السائل داخل الخلايا، والّذي يتكوّن في الغالب من الماء. وعلى العكس من ذلك، تتواجد الأحماض الأمينيّة المحبّة للماء على سطح البروتين، حيث تكون محاطة ببيئة مائيّة.

في نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي، تمكّن الكيميائيّان ماكس بيروتز (Max Perutz) وجون كيندرو (John Kendrew) من فكّ رموز البنية ثلاثيّة الأبعاد للبروتين لأوّل مرّة، وهذا يعني فَهْم مكان وجود كلّ حمض أمينيّ نسبةً للبقيّة. لتحقيق ذلك، استخدموا علم البلّورات بواسطة الأشعّة السينيّة (X-ray crystallography)، وهي طريقة تتيح اكتشاف البنية الجزيئيّة للبلّورة بناءً على الأنماط الّتي تنشئها الأشعّة السينيّة عندما تمرّ عبرها. عقب هذا الاكتشاف، حصلا على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1962. توجد اليوم طرق أخرى لفكّ رموز بنية البروتينات، مثل الرنين المغناطيسيّ النوويّ (Nuclear Magnetic Resonance أو باختصار NMR) أو بواسطة المجهر الإلكترونيّ فائق البرودة (Cryogenic electron microscopy أو باختصار cryo-EM). في الآونة الأخيرة، تمّ استخدام أداة حسابيّة تعتمد على الذكاء الصناعيّ، تُسمَّى "ألفا فولد 2" AlphaFold2، ما يجعل تنبّؤ بنيتها ثلاثيّة الأبعاد ممكنًا، و باحتماليّة عالية بشكل خاصّ.

تنقسم البنية ثلاثيّة الأبعاد للبروتينات إلى أربعة مستويات. تتحدّد البنية الأوّليّة وفقًا لتسلسل الأحماض الأمينيّة، أي عدد الخرزات الموجودة في السلسلة ومكان وجود كلّ منها؛ تشير البنية الثانويّة إلى مجموعة من الهياكل المحليّة الّتي تتكوّن من روابط هيدروجينيّة، وهو نوع شائع من الروابط الكيميائيّة، بين الأحماض الأمينيّة المتجاورة، ويعتبر لولب ألفا (α-Helix) وصحيفة بيتا (β-sheets) الأكثر شيوعًا من بين البنى الثانويّة؛ تُشكّل البنية الثالثيّة  للبروتين البنية النهائيّة- ثلاثيّة الأبعاد- والّتي تنتج عن التفاعلات الكيميائيّة بين الأحماض الأمينيّة البعيدة؛ وأخيرًا، عندما تتشكّل التفاعلات بين بروتينين أو أكثر، فإنّ بنيتها العامّة تعتبر بنية رابعيّة.


تنقسم البنية ثلاثيّة الأبعاد للبروتينات إلى أربعة مستويات. رسم بيانيّ يوضّح هذه المستويات، من البنية الأوّلية إلى الرابعيّة | Shutterstock, Designua

تطوّر تطوّي البروتين

في أوائل الستينيّات، طوّر عالم الكيمياء الحيويّة كريستيان أنفينسن (Christian Anfinsen) فرضيّة الديناميكا الحراريّة، والّتي أوضحت لأوّل مرّة كيف تطوى البروتينات إلى بنية نهائيّة معيّنة. عقب ذلك، حصل أنفينسن على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1972، حيث أظهر في بحثه أنّ البنية الأوّليّة للبروتين، وتسلسل أحماضه الأمينيّة، تحدّدان البنية النهائيّة ثلاثيّة الأبعاد. وفقًا للنظرية، فإنّ البروتينات تطوى تلقائيًّا، وما يحدّد شكل طيّها هو فقط مبادئ كيميائيّة وفيزيائيّة. افترض أنفينسن أنّ البروتينات تحصل على البنية الّتي تحوي  أقلّ طاقة، وبالتالي فهي أيضًا البنية الأكثر استقرارًا لتكوين الأحماض الأمينيّة.

عندما تبدأ عمليّة تطوّي البروتين، يكون هناك عدد كبير من البُنى المختلفة الّتي يمكن أن تتشكّل بشكل عشوائيّ، لأنّ كلّ حمض من الأحماض الأمينيّة الخاصّة به يمكنه ترتيب نفسه في عدّة أشكال مختلفة. على سبيل المثال، إذا افترضنا أنّ كلّ حمض أمينيّ له عشرة تكوينات مختلفة، فإنّ البروتين القصير الّذي يبلغ طوله مائة حمض أمينيّ سيكون لديه 10100 بنية محتملة، والّتي سيستغرق اختيار أحدها للأبد. بينما في الواقع، يتراوح الوقت اللازم لتطوّي البروتين بين بضع دقائق وبضع ساعات.

لذلك، أظهر عالم الأحياء سايروس ليفينثال (Cyrus Levinthal) في أواخر الستينيّات أنّه من المستحيل أن يمرّ البروتين بشكل عشوائيّ عبر عدد كبير من البُنى المحتملة. أثبت ليفينثال ذلك في تجربة فكريّة، والّتي تدعى في يومنا بـ "مفارقة ليفينثال" (Levinthal's paradox)، والّتي تنصّ على أنّ عمليّة تطوّي البروتينات يجب أن تتمّ بطريقة ثابتة ومحدّدة مسبقًا.

وفقًا للوصف المقبول اليوم، عندما تبدأ عمليّة تطوّي البروتين، فإنّه يمرّ بالفعل عبر عدّة بُنًى مختلفة، والّتي لكلٍّ منها طاقة مختلفة. لكن نظرًا لأنّ البنية المفضّلة للبروتين هي صاحبة الطاقة الأدنى، فإنّه يمرّ أثناء التطوّي بعدّة بُنًى، حتّى يصل إلى البنية المفضّلة- ذات الطاقة الأدنى. تشبه عمليّة تطوّي البروتين كرة تتدحرج على سطح يحوي تلالًا ووديانًا. عندما نحرّر الكرة من نقطة عالية، فإنّها لن تتحرّك في المساحة بأكملها، بل ستتدحرج للأسفل حتّى تصل إلى أدنى نقطة.

فيديو من جامعة ستوني بروك في الولايات المتّحدة، يوضّح انخفاض مستويات الطاقة مع طيّ البروتين:

تطوٍّ صحيح- نشاط طبيعيّ 

هناك علاقة وثيقة بين البنية النهائيّة للبروتين ووظيفته. يعتبر البروتين نوعًا من الآلات الّتي تمّ تكييفها لأداء وظيفة معيّنة. يكون البروتين قادرًا على القيام بعمله بفضل شكله ثلاثيّ الأبعاد، والّذي يعمل كـ "مفتاح" بحيث يتناسب شكله مع "القفل" الّذي من المفترض أن يفتحه. إذا لم يتطوَّ البروتين إلى بنيته الصحيحةـ يتغيّر شكل "المفتاح" وتتعرّض وظيفته للخطر.

في بعض الأحيان، لا يكون هذا التغيير ملحوظًا، ولكن في حالات أخرى قد يؤدّي تطوّي البروتين غير الصحيح إلى تطوّر الأمراض، وخاصّة في سنّ الشيخوخة. تنتج بعض هذه الأمراض بشكل مباشر بسبب توقّف البروتين عن القيام بعمله، أو حتّى البدء في القيام بنشاط آخر يضرّ بالخليّة. أمّا في البعض الآخر، فتنتج الأمراض بسبب تراكم تجمّعات البروتين السامّة للخليّة، والّتي تُسمَّى الركام (Aggregates) أو النشوانيّات (Amyloids).

أحد أكثر الأمراض المعروفة الّتي ترتبط بتطوّي البروتينات غير السليمة هو مرض الألزهايمر. خلال تطوّر المرض، تمتلئ البيئة خارج الخلايا العصبيّة للدماغ بتجمّعات من بروتين يُدعى "أميلويد بيتا"- ببتيد بيتا النشوانيّ (Amyloid beta)، بينما تتشكّل داخل الخلايا العصبيّة تجمّعات من بروتين يُسمَّى "تاو"(tau proteins). يفترض العديد من الباحثين أنّ هذه التجمّعات البروتينيّة تلحق الضرر بخلايا الدماغ، بحيث تنخفض قدرتها على التواصل مع بعضها البعض، ما يسبّب ضررًا تدريجيًّا متزايدًا للذاكرة والمهارات العقليّة.

على غرار مرض الألزهايمر، يُلاحظ كذلك في مرض الباركينسون وجود تجمّعات لبروتينات تالفة في الدماغ. تُدعى هذه البروتينات بـ "ألفا سينوكلين" (alpha-synuclein)، والّتي تُسمَّى أيضًا "أجسام ليوي" (Lewy bodies). عندما تتراكم هذه البروتينات في منطقة من الدماغ معروفة باسم المادّة السوداء (substantia nigra)، والّتي تلعب دورًا، من بين أمورٍ أخرى، في تنظيم حركة العضلات، فإنّ نشاط الخلايا العصبيّة يضعف هناك وتموت في النهاية. لذلك، يعاني الأشخاص المصابون بمرض الباركينسون من صعوبات في الحركة، وفي كثير من الحالات، ارتعاشات لا يمكن السيطرة عليها، خاصّة أثناء الراحة.


خلال تطوّر مرض الألزهايمر، تمتلئ البيئة خارج الخلايا العصبيّة في الدماغ بتجمّعات من بروتين "أميلويد بيتا". رسم توضيحيّ للبروتينات- باللّون الورديّ- المتراكمة على الخلايا العصبيّة | Artur Plawgo / Science Photo Library

الملائكة الحارسة للبروتينات

رغم أنّ عمليّة تطوّي البروتينات تُفحَص بشكل أساسيّ في المختبر إلّا أنّ العمليّة تتمّ في الواقع داخل الخلايا، في ظلّ ظروف أكثر تعقيدًا. تعتبر هذه البيئة ديناميكيّة وكثيفة، والّتي تتأثّر فيها عمليّة تطوّي البروتينات بعدّة ظروف، مثل درجة الحرارة، الحموضة، تركيز الأملاح والجزيئات الأخرى القريبة من البروتين. بسبب هذه الظروف المعقّدة، قد تفقد البروتينات بنيتها المناسبة، أو تفشل في التطوّي. إذا رجعنا إلى صورة الكرة المتدحرجة فمن الممكن تصوّرها عالقة في حفرة بحيث لا تنجح في الوصول إلى قاع الوادي.

نظرًا لأنّ التغيّرات في البيئة داخل الخلايا قد تخلّ في عمليّة تطوّي البروتين، فهناك آليّات تعمل على حماية البروتين منها، والسماح له بالتطوّي بشكل صحيح. أثناء التطوّر البشريّ، تطوّر نظام خلويّ مُصمَّم للمساعدة في تطوّي البروتينات، وحتّى إرسال البروتينات الّتي لم تُطوَّ بشكل صحيح للتحلّل وإعادة التدوير.

أحد المكوّنات المهمّة لهذا النظام هي بروتينات الـ "شابرون" (chaperone)- أي المرافقات. مهمَّة "الشابرونات" الأساسيّة هي مساعدة البروتينات الأخرى على الخضوع لعمليّة التطوّي، وتساعد على منع تكوين تجمّعات البروتينات، وتحليل هذه التجمّعات الّتي تشكّلت. تتعرّف "الشابرونات" على المناطق الّتي يوجد بها بروتينات لم تمرّ بعمليّة التطوّي وترتبط بها، بالتالي تمنعها من تكوين تفاعلات غير مرغوب فيها مع الجزيئات المجاورة الّتي يمكن أن تعطّل استمرار عمليّة تطوّيها. في حالة التطوّي غير الصحيح، تسمح "الشابرونات" للبروتينات بالانبساط جزئيًّا وبالتالي منحها فرصة أخرى للتطوّي في بنيتها الصحيحة- كما لو تمّ رفع الكرة مرّة أخرى إلى نقطة أعلى ودحرجتها مرّة أخرى، على أمل أن تصل هذه المرّة إلى النقطة الأدنى وهي القاع.

تشكّل "الشابرونات" لدى البشر حوالي عشرة بالمائة من الكتلة الإجماليّة للبروتينات في الخليّة. تنقسم "الشابرونات" إلى عدّة عائلات، تختلف عن بعضها في البنية والنشاط. يتمّ تنشيط بعضها استجابةً للاضطرابات في وظيفة الخليّة (حالات الإجهاد)، ولكن معظمها تعمل بشكل مستمرّ لأنّ نشاطها ضروريّ لاستمرار الأداء الطبيعيّ في الخليّة. تعمل "الشابرونات" المختلفة جنبًا إلى جنب وتنشئ نظامًا كاملًا يساعد في تطوّي البروتينات بشكل صحيح. لذلك، فهي تحمي البروتينات وتحافظ على صحّة أجسامنا وعملها. 

 

0 تعليقات