توشك منظّمة الصحّة العالميّة الإعلان عن المُحلّي الصناعيّ الشهير كمادّة مسرطنة محتملة. ما مفهوم هذا الإعلان
نُشر هذا الأسبوع في الصحف أنّ الوكالة الدوليّة لأبحاث السرطان (IRAC) التابعة لمنظّمة الصحّة العالميّة، ستُدرج المُحلّي الصناعيّ- الأسبارتام، على أنّه مادّة مسرطنة محتملة، في 14 تموز الجاري. على غرار انتشار الشائعات المقلقة، ينتشر هذا البيان كالنار في الهشيم، حيث تعتمد العديد من المواقع الإخباريّة على نفس المصدر، وكالة رويترز للأنباء، وتثير شكوكًا حول سلامة استهلاك المشروبات المُحلّاة بالأسبارتام.
تستخدم المُحلّيات الصناعيّة على نطاق واسع في الأسواق العالميّة للأغذية والمشروبات. بدأ النقاش بشأن سلامة استهلاكها منذ وقت طويل ومن المحتمل أن يستمرّ في المستقبل. تنتشر من حين لآخر أخبار وتصريحات تنسب مخاطر معيّنة على صحّة الإنسان إلى استهلاك هذه المحلّيات، لكن تجدر الإشارة إلى أنّه حتّى الآن لم يتمّ نشر أيّة دراسة قطعيّة تفيد بأنّ استهلاك معتدل للمحلّيات الصناعيّة قد يؤدّي إلى مخاطر صحّيّة.
وفقًا لاستطلاع أجرته منظّمة الصّحّة العالميّة عام 2022، لم يتمّ العثور على أيّة علاقة بين استهلاك المحلّيات الصناعيّة والإصابة بأنواع مرض السرطان المختلفة، باستثناء سرطان المثانة. وتجدر الإشارة إلى أنّه حتّى في الدراسات الّتي أُجريت على النماذج الحيوانيّة، والّتي تمّ من خلالها تغذية الحيوانات بكميّات كبيرة من الأسبارتام، لم يظهر أنّه مسرطن.
الأسبارتام هو مُحَلٍّ صناعيّ، مصنوع من حمضَين أمينيَّين، ومذاقه أحلى بـ 200 مرّة من السكّر. تمّ اكتشاف الأسبارتام سنة 1965، وكانت المصادقة عليه لأوّل مرّة للاستخدام من قبل إدارة الغذاء والدواء (FDA) في الولايات المتّحدة عام 1974، ومنذ ذلك الحين صودِقَ عليه لعدّة استخدامات. بعد ذلك، تمّ اعتماده كمكمّل غذائيّ آمن في جميع أشكال الطعام في عام 1996. أمّا في الاتّحاد الأوروبيّ، فقد صودِقَ على استخدامه سنة 1994. أُعيدَت المصادقة على الأسبارتام كمادّة آمنة للاستهلاك ضمن عمليّة مراجعة شاملة لجميع المصادقات على المكمّلات الغذائيّة في عام 2013.
كشفت مراجعة من عام 2022 أنّه لا توجد علاقة بين استهلاك المحلّيات والإصابة بالسرطان (باستثناء سرطان المثانة). قناني المشروبات الغازيّة الّتي تحوي مُحلّيات صناعيّة.| Darryl Brooks, Shutterstock
نظام التصنيف
تعتبر الوكالة الدوليّة لأبحاث السرطان أحد أذرع منظّمة الصحّة العالميّة التابعة للأمم المتّحدة، والّتي تصنّف مخاطر الإصابة بالسرطان نتيجة التعرّض لموادّ مختلفة، وفقًا لنظام مؤلَّف من أربع مجموعات:
-
المجموعة الأولى: العوامل المسرطنة للبشر- هناك 126 مادّة أو عاملًا، بما في ذلك فيروس الورم الحليميّ البشريّ (Human papillomavirus - HPV)، الإشعاع المؤيّن، الكحول، منتجات التبغ والتدخين.
-
المجموعة الثانية: تتضمن العوامل الّتي لها نطاق واسع من الأدلّة القويّة إلى حدّ ما حول خطر الإصابة بالسرطان، والّتي تنقسم إلى مجموعتَين فرعيّتَين:
-
المجموعة الثانية أ: العوامل المسرطنة المحتملة للبشر- هناك 94 مادّة من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان، من ضمنها المنشّطات البنائِيّة (Anabolic steroids)، وحتّى مهن معيّنة الّتي تتضمّن، على سبيل المثال، الورديّات الليليّة.
-
المجموعة الثانية ب: العوامل المسرطنة الممكنة للبشر- تتضمّن 322 مادّة قد تكون مسرطنة، مثل الرصاص، "الألوفيرا" والمخّللات الآسيويّة التقليديّة.
-
-
المجموعة الثالثة: العوامل غير المصنّفة على أنّها مسرطنة للبشر- حوالي 500 مادّة غير مصنّفة كموادّ مسرطنة. تشمل هذه المجموعة موادّ ذات معلومات ناقصة أو غير قطعيّة، على سبيل المثال، الضوء الصادر عن مصابيح الفلورسنت.
ومع ذلك، كما هو مذكور في صفحات موقع المنظّمة، فإنّ قائمة الموادّ أو العوامل المصنّفة لا تعكس المخاطر المصاحبة للتعرّض، أو تحدّد ما هي ظروف التعرّض لمادّة معيّنة، بل تعكس فقط قوّة الأدلّة. ما يعني أنّ المنظّمة لا تحدّد ما هي درجة التعرّض الخطيرة للموادّ، وذلك على الرغم من أنّ معرفة هذه المعلومات أساسيّة وضروريّة. من المهمّ أن لا يفهم المتخصّصون في الصحّة العامّة وصنّاع القرار ما إذا كانت مادّة معيّنة مسرطنة للبشر فقط، وإنّما أيضًا مدى احتماليّة أن تكون المادّة مسرطنة- والاختلاف بين هذَين الاحتمالين كبير.
علاوة على ذلك، يمكن أن يكون تصنيف هذه المجموعات محيّرًا، فعلى سبيل المثال، يتمّ تصنيف القهوة في المجموعة الثالثة، ولكنّها تحوي مركّبًا يُسمّى أكريلاميد، والّذي يتدرّج ضمن المجموعة الثانية أ، فهل تُعتبر القهوة آمنة للشرب أم أنّها على الأرجح مسرطنة؟ في الواقع، لا يوجد اعتبار للسياق، طبيعة الاستعمال أو درجة التعرّض، والّتي تعتبر جميعها ذات أهميّة لتقييم المخاطر.
من الصعب حتّى من المستحيل الوصول إلى حدّ الاستهلاك الأقصى غير الآمن للمُحلّى الصناعيّ. جزيء الأسبارتام.| Molekuul, Science Photo Library
ما مدى حقيقة الخطر؟
سنحاول فهم المخاطر الحقيقيّة، وفقًا للأرقام. قامت الهيئة الأوروبيّة لسلامة الأغذية (EFSA) بتحديد الاستهلاك الآمن للأسبارتام في اليوم، وهو ما يعادل حوالي 40 ملغم لكلّ كيلوغرام من وزن الجسم. وجدت دراسة حديثة في أوروبا أنّ تركيز الأسبارتام في المشروبات الغازيّة يتراوح من 30 إلى 527 ملغم لكلّ لتر، ويبلغ حجم علبة المشروب حوالي 355 مل. ما يعني أنّه لكي يعتبر استهلاك الأسبارتام خطيرًا، يجب على الشخص الّذي يبلغ وزنه 75 كغم ويمكنه استهلاك حوالي 3 غرامات من الأسبارتام بشكل آمن يوميًّا، أن يشرب ما يقرب من 7 لترات يوميًّا (حوالي 16 علبة) من المشروبات الغنيّة بالمُحلّيات الصناعيّة، وحتّى أكثر من المشروبات الّتي تحتوي على تركيز منخفض من الأسبارتام. هل يقدر الشخص العادي حقًّا أن يستهلك هذه الكميّة؟ من غير المرجّح، وقد يموت الشخص من تسمّم الماء أو الكافيين قبل وقت طويل من إصابته بالسرطان؟
في السنوات الأخيرة، ساهمت الكثير من المراجعات الأدبيّة في فحص العلاقة بين الأسبارتام والسرطان، وقدّمت نتائج تنفي هذه العلاقة- كان من المستحيل الإشارة إلى وجود علاقة، بدءًا بالأبحاث الّتي فحصت آليّة عمل معالجة الأسبارتام في الجسم، وانتهاءً بالأبحاث الّتي أظهرت أنّ استهلاك الأسبارتام ليس مسبّبًا للسرطان. بالمقابل، نُشِرَت أيضًا العديد من المراجعات الأدبيّة الّتي تقدّر وجود علاقة كهذه، لكن قد تعاني هذه الأبحاث من تحيّزات في الاختيار، أي تشويه في جمع البيانات. على سبيل المثال، فحص مجموعة بحث معرّضة بالفعل لخطر الإصابة بالسرطان، مثل مرضى السكّري، أو الدراسات الرصديّة (observational study) الّتي تعاني من مصادر انحياز تُضعف تحليل النتائج.
هذه في الواقع هي المرّة الأولى الّتي تتعامل فيها الوكالة الدوليّة لأبحاث السرطان مع الأسبرتام، وبالتالي فهي المرّة الأولى الّتي تصنّف فيها المادّة. لا تزال طبيعة التصنيف سريّة وستظلّ كذلك حتّى النشر، وعلينا انتظار الإعلان الرسميّ الّذي سيشمل الأسباب المصاحبة لكي نفهم الأهميّة وما إذا كانت هناك بالفعل معلومات جديدة هنا.
يجب أن نتحلّى بالصبر والقليل من الشكّ- ماذا قد يعني الإعلان؟ ربّما ليس ذات أهميّة كبيرة. وفقًا لطريقة تصنيف المنظّمة، فإنّ تدخين السجائر يعادل شرب البيرة الكحوليّة أو العمل كرجل إطفاء، بغضّ النظر عن جرعة وطبيعة التعرّض لهما. في هذا السياق، من المهمّ أن نذكر الطبيب والكيميائيّ السويسريّ باراسيلسوس الّذي قال "dosis facit venenum"- الجرعة هي الّتي تحدّد فيما إذا كانت المادّة سامّة.