تشير دراسة جديدة إلى أنّ الانتقال إلى الزّراعة والغذاء الطّريّ قد غيّر شكل الفكّ عندنا، وأدخل الفاء و"الڤاء" المخفّفات لفظيًّا على اللّسان إلى العديد من اللّغات
أغلِقوا أفواهكم بحيث تلامس الأسنان العليا الأسنان السّفلى واختبروها: هل تتطابق الواحدة فوق الأخرى تمامًا؟ ليس هذا الحال لدى أغلبيّتنا: تبرز الأسنان العليا قليلًا عن السّفلى، وتسمّى هذه الظّاهرة أوفِر بايت (overbite)، وبالعربيّة العَضّة التّراكبيّة. تشير دراسة جديدة إلى أنّ العضّة التّراكبيّة تنجم عن الانتقال إلى الغذاء الطّريّ الّذي حصل مع تحوّلنا إلى زراعيّين. لم يؤدِّ تغيير عادات الأكل إلى تغيير المظهر الخارجيّ فحسب، وإنّما تغيّرت طريقة حديثنا أيضًا، وأضيفت الأحرف السّاكنة المخفّفة لفظيًّا، الفاء و"الڤاء" (f و- v) إلى اللّغة. يستند الباحثون في هذه الدّراسة إلى أدلّة وشهادات مستقاة من أبحاث الآثار ومحاكاة إنتاج الأصوات ودراسات حول اللّغات في أنحاء العالم.
اللّقيمات وتراكب العضّة
الأوفر - بايت (العضّة التّراكبيّة) والأوفر - جِت (التّراكب الأفقيّ) - بروز الأسنان العليا إلى الخارج بالنّسبة للفكّ - هي ظواهر شائعة لدى الأولاد. غالبًا ما تتقلّص هذه الظّواهر مع تقدّم السّنّ نتيجة الضّغط على عظام الفكّ وتآكل الأسنان عند الأكل، ولكن الأوفر- بايت تبقى موجودة بصورة مصغّرة لدى الكثيرين. يُظهِر فحص جماجم من العصر الحجريّ الأوّل والأوسط، قبل أن بدأ النّاس يعملون في الزّراعة، أنّ أسنان البالغين في تلك الفترة تُغلَقُ على بعضها البعض بدون الأوفر - بايت. فقط في آلاف السّنين الأخيرة، عندما ترك أسلافنا معيشة الصّيد وجمع الثّمار وتحوّلوا إلى الاعتماد على المنتجات الزّراعيّة في معيشتهم، نرى شكل الأسنان الّذي يميّزنا في أيّامنا هذه.
يرى الباحثون أنّ الغذاء الّذي نتناوله أدّى إلى تغيير شكل الفكّ عند الإنسان. في حين أنّ الصّيّادين - جامعي الثّمار يتغذّون على النّباتات البرّيّة واللّحوم، فإنّ المزارعين يتغذّون، بالإضافة إلى ذلك، على الحليب والحبوب ومنتجاتها المصنّعة مثل الأجبان والخبز. هذه مأكولات طرّيّة تؤثّر بضغط أقلّ على الفكّ والأسنان فتؤدّي إلى تقليل التّغيير في تراكب العضّة (الأوفر- بايت) الّذي نولد معه.
تنتج الحروف السّاكنة الّتي تصدر عن الشّفة والأسنان، مثل الفاء و"الڤاء" الخفيفتين، من تلامس الشّفة السّفلى مع الأسنان العليا. فحص الباحثون الجهد اللّازم للنّطق بهذه الأحرف السّاكنة واستعانوا ببرنامج محوسب لمحاكاة ثلاثيّة الأبعاد، ArtiSynth. وجد الباحثون أنّه من الأسهل النّطق بهذه الحروف بوجود تراكب العضّة، لأنّ البعد بين الشّفة وبين الأسنان أصغر. بالإضافة، بوجود تراكب العضّة، هناك احتمال أكبر لنطق الفاء أو "الڤاء" بالخطأ بدل أحرف ساكنة أخرى.
قام الباحثون في المرحلة التّالية بمعاينة مخزن معلومات لأكثر من 2400 لغة ليفحصوا ما هي الحروف السّاكنة الّتي تستعملها الشّعوب الزّراعيّة وما الحروف الّتي يستعملها السّكّان الّذين حافظوا على أسلوب حياة الصّيّادين - جامعي الثّمار. أظهرهؤلاء الباحثون أنّ المجتمعات الزّراعية تستخدم الحروف السّاكنة الشّفويّة - السِّنِّيّة أربعة أضعاف ما تستخدمها مجتمعات الصّيّادين - جامعي الثّمار، ممّا يعني أنّه توجد، حقًّا، صلة بين أصوات اللّغة والطّعام الّذي يتناوله المتحدّثون بهذه اللّغة.
كما وتعقّب الباحثون تطوّر اللّغات الهندو - أوروبيّة، وهي مجموعة اللّغات الّتي تمّت دراستها بشكل أعمق من بين مجموعات اللّغات عامّةً. أظهر الباحثون أنّ أحرفًا ساكنة شفويّة - سِنِّيّة أخرى قد أضيفت إلى هذه اللّغات مع مرور الوقت وحلّت محلّ أحرف ساكنة أخرى في لغات أكثر قِدمًا. مثلًا، كلمة "الأب" في اللّغة الهندو - أوروبيّة القديمة كانت "باتر" بفاء مُشدّدة (patēr)، ثمّ تحوّلت إلى "فادر" بالفاء المخفّفة (faeder) في اللّغة الإنجليزيّة القديمة، وفاذر (father) في اللّغة الإنجليزيّة الحديثة.
تغيُّر موقع الأسنان - الفكّين في العضّة التّراكبيّة (على يمين الرّسم)، مقابل فكّين على نفس الخطّ│الرّسم مأخوذ من: Tímea Bodogán, University of Zurich
الثّورة الزّراعيّة أو الثّورة الصّناعيّة؟
كان استنتاج الباحثين أنّ التّغيّر في أسلوب الحياة خلال الثّمانية آلاف سنة الأخيرة أدّى إلى تغيّر التّغذية، وأدّى ذلك بدوره إلى تغيّر المضغ والضّغط الّذي يؤثّر على عظام الفكّ، وأدّى، في نهاية المطاف، إلى تغيير الطّريقة الّتي نتكلّم بها. كلّما كان تراكب العضّة أكثر شيوعًا، زاد ميل النّاس لإسماع الفاء و"الڤاء" الخفيفة عن طريق الخطأ فزاد اندماج هذه الحروف السّاكنة في اللّغة.
قال الأنثروبولوج (العالِم بعلم الإنسان) روبرت كوروشيني (Corruccini)، والّذي لم يشارك في الدّراسة المذكورة، لموقع Science News إنّ النّتائج والاستنتاجات الجديدة "صحيحة أساسًا" ولكنّه يرى أنّ التّغيّر الأكبر في العضّة التّراكبيّة لم يحدث قبل آلاف السّنين وإنّما حدث في نهاية القرن الثّامن عشر عندما بدأ الغذاء المصنّع والمحفوظ اصطناعيًّا في هذه الفترة بالوصول إلى المزيد من البيوت وذلك على أثر الثّورة الصّناعيّة. ويقول كوروشيني إنّ هناك عاملًا آخر قد يكون له دور في ذلك وهو الشّوكة الّتي لم تكن، حتّى فترات متأخّرة، أداة شائعة لتناول الطّعام. تُمكّن الشّوكة من قطع الطّعام باليدين بدلًا من تمزيقه بواسطة الأسنان - الأمر الّذي كان له، حسب رأيه، تأثير كبير على حِفظ العضّة التّراكبية إلى ما بعد فترة الصِّبا. إذا كان ذلك صحيحًا، فالمثير للاهتمام هو: هل يوجد لهذه التّغيّرات تأثير على طريقة كلامنا في هذه الأيام؟ وما الّذي قد يتمّ اكتشافه في المستقبل على يد دارسي لغات القرنين التّاسع عشر والعشرين.
شاهدوا فيديو لمجلّة Science عن الدّراسة (في الإنجليزية):