عرفه البابليّون بالقيمة فقط، ولم يجد الرّومانيّون من استخدامه فائدة، لكن الهنود بالذّات نجحوا في ذلك وأكمل المسلمون العمل. الصّفر ليس مجرّد رقم مفيد، بل هو الرّقم الوحيد الّذي له تاريخه الخاصّ

صفر. لا شيء. بلا قيمة! ما الّذي نستطيع قوله حقًا عن رقم جوهره لا يساوي شيئًا! ومع ذلك، كان اكتشافه أحد أهمّ نقاط التّحوّل في الفكر البشريّ.

بادئ ذي بدء، يجب علينا أن ندرك أنّ للصّفر دورين مختلفين. الدّور الأوّل هو أن يكون عدّادًا يشير إلى "لا شيء"، على سبيل المثال، صفر تفّاحات. الدّور الثّاني هو أنّه رقم أو يشير إلى مكان في الرّقم. على سبيل المثال، في الرّقم 1023، يشير الرّقم صفر إلى صفر في خانة المئات.

"لا يوجد شيء من هذا القبيل"

في الماضي البعيد، استخدم النّاس الأرقام فقط للإشارة إلى شيء ملموس. عندما يريد شخص ما شراء ثلاثة أغنام في السّوق، كان يقولها فقط، أو يشير إليها بثلاثة أصابع. من هنا ربّما نستطيع أن نفهم لماذا لا يعتبر الصّفر رقمًا إذن - ليس لدينا إصبع يعبّر عن الصفر.

لاحقًا، منذ آلاف السّنين، حلّت العصي ورسومات العصي محلّ الأصابع. عندما أراد شخص أن يكتب الرّقم ثلاثة، على سبيل المثال، قام بنقش ثلاث نقوش في الحجر. هذه هي بالضّبط الطّريقة التّي ميّزنا بها الأرقام بين 1 و 9 في الكتابة الهيروغليفيّة المصريّة، في الكتابة البابليّة القديمة وفي اللّغات القديمة الأخرى. في الصّفر، كرقم، لم تكن لديهم حاجة. علاوة على ذلك، ربّما لم يكن له أيّ معنى بالنّسبة لهم على الإطلاق. حتّى في أيّامنا هذه، عندما نذهب إلى السّوق لشراء الخضار، لا نشتري صفرًا من الطّماطم أو الخيار. وعندما ينفد المال نقول فقط أنّه ليس لدينا ما ندفعه.

من المحتمل أن يكون أصل الصّفر كرقم يشير إلى "لا شيء" في الهند القديمة في القرن السّابع الميلاديّ، إن لم يكن قبل ذلك. يظهر بشكل مؤكّد في كتابات عالم الرّياضيّات الهنديّ براهما غوبتا (Brahmagupta). كتب براهما غوبتا علم الحساب الّذي يظهر فيه الصّفر كرقم، وقد ذكر على سبيل المثال أنّ رقم موجب وصفر آخر يساوي نفس الرّقم الموجب. وينطبق الشّيء نفسه بالطّبع على الأعداد السّالبة أيضًا.

أشكال عديدة للأرقام. مقارنة شكل الأرقام في أنظمة عددية مختلفة - المصدر: ويكيبيديا
أشكال عديدة للأرقام. مقارنة شكل الأرقام في أنظمة عددية مختلفة - المصدر: ويكيبيديا

صفر مكان

كان البابليّون أوّل من اخترع طريقة قائمة على الموقع لكتابة الأرقام. على عكس اليوم، لم تكن هذه الطّريقة مبنيّة على عشرة أرقام، بل على ستّين رقمًا. بما أنّ البابليّين لم يكن لديهم أيّ علامة على الرّقم صفر، فقد ميّزوا بين الأرقام مثل 204 و 24 فقط من خلال السّياق. إذا كان هذا يبدو مضحكًا بالنّسبة لكم، لاحظوا أنّه حتى اليوم ما زلنا نفعل شيئًا مماثلًا في اللّغة المحكية. على سبيل المثال، عندما نسأل سائق حافلة عن تكلفة تذكرة السّفر داخل المدينة ويجيب "خمسة وتسعين"، فإنّنا نفهم لوحدنا أنّه يعني خمسة شيكل وتسعين أغورة ولا نعتقد أنّه يقصد السّعر الباهظ بخمسمائة وتسعين شيكلًا.

منذ بداية القرن الرّابع قبل الميلاد، بدأ البابليون في تحديد حقيقة أنّه لم يكن هناك آلاف، مئات أو عشرات بمساعدة اثنين أو ثلاثة أسهم صغيرة (نوع من الأوتاد). مع ذلك، بالرّغم أنّهم لم يشيروا إلى هذه العلامة الجديدة على أنّها رقم، وبالتّأكيد ليست رقمًا منفردًا - لقد كانت ببساطة علامة متّفق عليها تقول "ليس هناك آلاف" (أو مئات، أو عشرات) من الأساليب المماثلة الّتي تمّ تطويرها على مرّ السّنين أيضًا عند شعوب المايا في أمريكا الجنوبيّة والصّين في الشّرق الأقصى.

عندما غزا الجنرال اليونانيّ الإسكندر المقدوني الأكبر مدينة بابل عام 331 قبل الميلاد، تبنّى الطّريقة البابليّة المبنيّة على الموقع، واستخدم علامة الدّائرة لإظهار عدم وجود رقم في أحد الأماكن في الرّقم. اعتمدت هذه الطّريقة من قبل العلماء اليونانيّين، وخاصّة علماء الفلك - على سبيل المثال بطليموس. هم أيضًا، مثل البابليين، أشاروا إلى هذه العلامة على أنّها تعني كلمة "غياب" وليست علامة على الرّقم صفر.

أول صفر تمّ العثور عليه كان في الجدول الهنديّ. رسم لعالم فلك هندي من القرن التاسع عشر | المصدر: ويكيبيديا، المشاعات العامة
أول صفر تمّ العثور عليه كان في الجدول الهنديّ. رسم لعالم فلك هندي من القرن التاسع عشر | المصدر: ويكيبيديا، المشاعات العامة

الطّريقة الهنديّة العربيّة

ماذا حدث منذ ذلك الحين حتّى جمع الهنود الرّقم صفر والخانة صفر في اصطلاحٍ واحد؟ لا نعلم. من الممكن أن يكون الهنود قد اكتشفوا ذلك بأنفسهم، وربما أدّى التقاء الثقافات، اليونانيّة المسيحيّة الأولى، تليها المسيحيّة الهنديّة، إلى انتقال المعرفة. الواضح أنّ أوّل اكتشاف أثريّ يظهر فيه الرّقم صفر هو لوح يعود إلى عام 876 بعد الميلاد من منطقة غولي أور في الهند. هناك الأرقام مكتوبة بطريقة عشريّة بناءً على الموقع - وتظهر الخانة صفر، وفقًا للبنية العشريّة الّتي نعرفها اليوم.

من الهند انتقل النّظام العشريّ إلى الدّول العربيّة المجاورة المعروفة بحكمتها. كان المركز الخصب بشكل خاصّ عبارة عن مبنى كبير، كالجامعة، يسمّى بيت الحكمة، أقيم في بغداد. أحد علماء الرّياضيات البارزين الّذين عملوا هناك وطوّروا الرّياضيات بشكل كبير، خاصّة الجبر، كان أبو جعفر محمّد بن موسى الخوارزميّ، الّذي اشتقّ اسمه لاحقًا من كلمة "الخوارزميّة". أعاد العرب رسم الأرقام الهنديّة العشرة، والّتي ظلت محفوظة بهذا الشكل حتّى يومنا هذا، بما في ذلك الصّفر الّذي تمّ تمييزه في نقطة صغيرة وأطلق عليه الاسم "صفر". أطلق الهنود على هذا الرّقم اسم "سونيا"، وهي كلمة تعني "شاغر" أو "ناعم". يُعرف النّظام العشريّ اليوم أيضًا بالنّظام الهنديّ العربيّ.

نقل إلى العالم العربيّ النّظام الهنديّ. تمثال الخوارزميّ في جامعة طهران للتّكنولوجيا- تصوير: ويكيبيديا، M. Tomczak
نقل إلى العالم العربيّ النّظام الهنديّ. تمثال الخوارزميّ في جامعة طهران للتّكنولوجيا- تصوير: ويكيبيديا، M. Tomczak

الصّفر يغزو العالم

مع تقدّم الهنود والعرب بشكل كبير في أبحاثهم الرّياضيّة، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى الطّريقة العشريّة واختراع الصفر، ظلّ علماء الرّياضيّات الأوروبيّون في المؤخّرة واستمرّوا في استخدام طريقة العدّ الرّومانيّة القديمة. في هذه الطّريقة، ترمز الرّموز: I و V و X و L و C و D و M إلى الأرقام 1 و 5 و 10 و 50 و 100 و 500 و 1000 على التّوالي. على سبيل المثال، كُتب الرّقم 126 على النّحو التّالي: CXXVI. استخدمت الطّريقة الرّومانيّة في جميع أنحاء أوروبا في العصور الوسطى، وكما ذكرنا سابقًا، لم يكن لها أيّ علامة للصّفر، لا كرقم ولا كإشارة مكان.

نحن مدينون بإحضار طريقة العدّ الهنديّ العربيّ إلى أوروبّا للفيلسوف، العالم والحاخام اليهودي أبراهام بن عزرا. ولد عام 1089 في مدينة تطيلة بإسبانيا وسرعان ما اكتشف قدرته العالية في مجالات الفلسفة، الرّياضيّات، العلوم والتّفسير التّوراتيّ. لقد هرب من إسبانيا من إرهاب الحكام المسلمين المتطرّفين، وذهب في تجوال في جميع أنحاء أوروبا، مصر وإسرائيل. أثناء أسفاره، تعرّف على طريقة العدّ الهنديّة العربيّة، وتبنّاها بسعادة، بل وكتب عنها في كتابين للرّياضيات: "الكتاب الواحد" و "كتاب الرّقم". لقد وضع في كتبه علامة على الصّفر بدائرة صغيرة وأطلق عليها "العجلة" بالعبريّة.

بعد ستّ سنوات من وفاة ابن عزرا عام 1164، وُلد ليوناردو فيبوناتشي، أحد أعظم علماء الرّياضيّات في العصور الوسطى، في بيزا بإيطاليا. كُتبت العديد من الكتب حول فيبوناتشي ولا يكاد يوجد مجال في الرّياضيّات لم يتطرّق إليه، لكنّه اليوم مشهور أوّلاً وقبل كل شيء بفضل سلسلة الأرقام المعجزة الّتي سُميت على اسمه، والّتي يساوي فيها كل رقم في السّلسلة مجموع العددين السّابقين.

سافر فيبوناتشي أيضًا في شبابه في جميع أنحاء شمال إفريقيا وأوروبّا، ولكن ليس خوفًا من الموحّدين بل على العكس - لمساعدة والده بوناتشي في التّجارة معهم. مثل ابن عزرا، تعرّف على طريقة العدّ الهنديّة العربيّة وتعلّم أسرار طرق الحساب العشريّ من علماء الرّياضيات العرب البارزين في عصره. نُشر كتابه "ليبري أباتشي" "Liber Abaci"، الّذي وصف فيه طريقة الحساب الجديدة، في جميع أنحاء أوروبا واكتسب شهرة كبيرة، حتّى أنّه كان يعتبر أب النّظام العشريّ في أوروبا، وليس ابن عزرا الّذي سبقه، لكنّه كتب بالعبريّة.

على الرّغم من ذلك، لم يكن العلماء الأوروبيّون في عجلة من أمرهم للتّعوّد على الطّريقة العشريّة والخانة صفر واستمرّوا في استخدام الطّرق القديمة لفترة طويلة، حتّى القرنين السّادس عشر والسّابع عشر.

أحدهم كان سبّاقًا والآخر نال التّقدير. ابن عزرا (من اليمين) و فيبوناتشي - المصدر: ويكيبيديا، Science Photo Library
أحدهم كان سبّاقًا والآخر نال التّقدير. ابن عزرا (من اليمين) و فيبوناتشي - المصدر: ويكيبيديا، Science Photo Library

الصّفر هو أيضًا كلمة

ولماذا "صفر"؟ كانت الكلمة العربيّة الّتي تمّ اختراعها للصّفر هي "صفر"، وهذا أيضًا أصل كلمة "ספרה/خانة" بالعبريّة. انتقلت نفس الكلمة مع تغييرات طفيفة على اللّغات الأوروبيّة أيضًا - على سبيل المثال Zero باللّغة الإنجليزيّة. إذن من أين يأتي صفرنا؟

تظهر كلمة صفر في التّوراة، على سبيل المثال عندما يعود الجواسيس من مهمتهم لاستكشاف الدّولة يدعون،  "אפס כי עז העם היושב בארץ..." (الصحراء 13:28). أيّ أنّ الكلمة تظهر في التّوراة ولكن عادة بمعنى "لكن" أو "فقط". مع ذلك، هناك أماكن في الكتاب المقدّس يستخدم فيها الصّفر للإشارة إلى الغياب أو النّقص. على سبيل المثال، عندما كان يوسف مسؤولًا عن كنوز فرعون، وكانت المجاعة شديدة في مصر، يطلب منه المصريّون أن يعطهم خبزا لأنّ أموالهم نفذت: وقال النّبي إشعياء: "יהיו כאין וכאפס אנשי מלחמתך" (إشعياء 21:12).

كان الصّفر بالفعل اكتشافًا مذهلًا، وفاز بالشّهرة العالميّة بحقّ، لأنّه الرّقم الوحيد من بين الأرقام العشرة الّذي لديه تاريخ خاصّ به. من يدري، ربّما عندما يناديك شخص ما بـ "صفر" فهو يقصد مدحكم؟

 

0 تعليقات