إنّه لمنَ المثير اكتشافُ العلاقات بين المجالات المختلفة في الرّياضيّات، فأحيانًا يكونُ مِنَ الصّعب رؤية العلاقة للوهلةِ الأولى. مِنَ المثير أن نكتشفَ أيضًا، كيف تظهر الرّياضيّات في الطّبيعة، وأيّة استخدامات يصنعها بنو البشر فيها في المجالات المختلفة.

ليوناردو فيبوناتشي (1170 - 1250)، كانَ عالم رياضيّات إيطاليًّا، أثّر كثيرًا على الرّياضيّات في الغرب، ولعمَلِهِ تطبيقاتٌ عديدةٌ ومتنوّعة. أَحدُ إسهاماته المشهورة في الرّياضيّات، هي متوالية أعداد سُمّيت باسمِهِ، "متوالية فيبوناتشي"، وفيها كلّ عددٍ يساوي مجموع العَدَدَيْنِ اللَّذَيْن يسبقاه.

ليوناردو فيبوناتشي | الصّورة: ويكيبيديا.

متوالية فيبوناتشي هي متوالية تراجعيّة ( متوالية فيها يتمّ تحديد الحدّ ال- n اعتمادًا على حدود سابقة)، والمعرّفة بواسطة الصّيغة العامّة التّالية:  $F_{\;n}=F_{\;n-1}\;+\;F_{\;n-2}$,حيثُ إنّ- $F_\;n$ هو الحدّ ال$n$ في المتواليةتكونُ الصّيغة ملائمة عندما يكون $n>2$, ولذلك فَمِنَ المتّبع تعريف  $F_\;1$ و - $F_\;2$ على أنّهما-0و 1-على التّوالي

النّسبة بين حدودٍ متتالية في المتوالية

لحدود المتوالية، والّتي تسمَّى "أعداد فيبوناتشي"، توجد عدة ميزات مثيرة للاهتمام. ترتبطُ إحدى هذه الميزات بالنّسبة بين الحدود المتتالية في المتوالية، أي لناتجِ القسمة $\dfrac{F_\;n}{F_{\;n-1}}$. لو نظرنا إلى الحدّ الأقصى لناتج القسمة هذا   $\lim_{\; n\to\infty\;}{\;\dfrac{F_n}{F_{n-1}}}$(بما معناه، إلى أيّ عدد يقتربُ ناتج القسمة عندما يقترب -$n$ مِنَ اللاّنهاية), نحصل على عدد غير نسبيّ$\dfrac{1+\sqrt{\;5\;}}{2}\;$.  يسمّى هذا العدد "النّسبة الذّهبية" أو "العدد الذّهبيّ"، ومِنَ المتّبع الإشارة إليه بالحرف اليوناني "في" ورمزها $\phi$.

عالم الرّياضيّات الّذي اكتشف الحدَّ الأقصى للمتوالية هو يوهانس كابلر (1630-1571)، لكنّ العددَ نفسَهُ تمّ اكتشافه قَبلاً في اليونان القديمة على يد أحد تلاميذ فيثاغورس.

بالرّغم من أنّ الحدّ الأقصى للمتوالية هو "العدد الذّهبيّ"، إلاَّ أنّه لا يوجد في المتوالية حدٌّ وحدٌّ آخرُ يليه، يكون ناتجُ قسمتهما مساويًا "للعدد الذّهبيّ" تمامًا. فلماذا؟ بما أنّ أعداد فيبوناتشي هي أعدادٌ صحيحة، لذا فناتجُ قسمتها هو عددٌ نسبيّ، و"العدد الذّهبيّ" هو عدد غير نسبيّ. ومع ذلك، يمكن الحصول على تقريبٍ جيّد "للعدد الذّهبيّ" في مرحلة مبكرة من المتوالية: في الحدّ ال- 16 تصلُ الدّقّة إلى مستوى خمس منازل بعد الفاصلة العشريّة:    $\dfrac{F_{\;16}}{F_{\;15}}=1.61803$.

لقد تمّ اكتشافُ "العدد الذّهبيّ" كما ذُكر فيما قبل في اليونان القديمة، ومنذ ذلك الحين، يثيرُ هذا العددُ الاهتمام في الكثير مِنَ المجالات العلميّة، والرّياضيّات، وحتّى الفنّ والهندسة المعماريّة. أحدُ الأشياء المهمّة والمتعلّقة به هو ظهوره في مجالات مختلفة في الرّياضيّات. لقد رأينا أنّه ظهر بالفعل في سياق المتواليات، والآن سنرى علاقته بالهندسة، والجبر، والمتواليات الأخرى.

"المستطيلُ الذّهبيّ"

كي نرى "العدد الذّهبيّ" في الهندسة، نعود مجدّدًا إلى "أعداد فيبوناتشي". لكلّ عدد من أعداد المتوالية (ما عدا العدد الأول، 0) نلائِمُ مربّعًا، للحدّ ال-n في المتوالية، نلائم مربّعًا طول ضلعِهِ   n سم مربع


متوالية المربّعات الّتي أطوال أضلاعها مساوية "لأعداد فيبوناتشي" | تخطيط: ويكبيديا

نقوم بتوصيل المربّعات ببعضها بالطّريقة التّالية: نضع المربّعَيْنِ الأوّلَيْنِ، واللّذين طول ضلع كلّ واحدٍ منهما 1 سم، بجانب بعضهما البعض. يكوِّنُ المربعانِ مُستطيلاً أبعاده 1×2,ولذلك يمكن توصيلُ المربّع الّذي طول ضلعه 2 سم بالضّلع الطّويلة للمستطيل النّاتج، والّذي طولها 2سم أيضًا. نستمرّ هكذا، بحيث إنّ كلّ مربّع طول ضلعه n يتمّ توصيله على طول ضلع المستطيل الناتج من المربّعات الّتي أبعادها n1 و-n2. هكذا يُرى المستطيل الّذي يتمّ الحصول عليه في بداية البناء:


"المستطيلُ الذّهبيّ" في بداية البناء | تخطيط: ويكبيديا

لو نظرنا إلى النّسبة بين أضلاع كلّ مستطيل في كلّ مرحلة بناء، لاكتشفنا أنّ هذه هي النّسبة بين الحدود المتتالية في متوالية فيبوناتشي تمامًا، ولذلك فالنّسبة بين أضلاع المستطيلات النّاتجة تقتربُ هي أيضًا "للعدد الذّهبيّ". يُسمّى المستطيل الّذي تكونُ النّسبة بين أطوال أضلاعه هي النّسبة الذّهبيّة "المستطيل الذهبي"، ويُعتبر المستطيل المثاليّ مِنَ النّاحية الجماليّة. استخدم العالمُ اليونانيّ أبعادَ هذا المستطيل في تخطيط المباني،كما في البارثينون في أثينا، وهكذا فعلوا أيضًا في الهندسة المعماريّة الإسلاميّة في القرون الوسطى. هناك مَن يدّعي أنّ هذه الأبعاد استُخدِمَت في الهرم الكبير في الجيزة في مِصر. ويظهرُ أيضًا في لوحات فنيّة عديدة من عصر النّهضة، وحينها التزمَ العديد مِنَ الفنّانين باستخدام هذه النِّسَب في رسوماتهم.


البارثينون في أثينا مع رسم "المستطيل الذّهبيّ" للتّوضيح | صورة وتخطيط: Wpopp، ويكبيديا 

يمكنُ إيجادُ "المستطيل الذّهبيّ" في الطّبيعة أيضًا. في كلّ واحد مِنَ المربّعات الّتي تكوّن المستطيل، نرسمُ رُبعَ دائرةٍ تَمَسُّ ضلعين متجاورتَيْن. توصيل أرباعِ الدّوائر ببعضها البعض، يكوِّنُ اللَّولبيّة التّالية، والّتي تُسمَّى "لولبيّة فيبوناتشي":


لولبيّة فيبوناتشي" | تخطيط: Dicklyon، ويكبيديا 

يتّضح أن لولبيّات متعدّدة في الطّبيعة تشبه هذه اللّولبيّة، كما في قواقع حلزونات كثيرة، أو في الصّنوبر، أو في الأزهار الّتي تكونُ بذورها مرتّبة في لولبيّات فيبوناتشي.


صنف من نبات الصّبّار | صورة: Just Chaos، ويكبيديا 


زهرة عبّاد الشّمس | صورة: L. Shyamal، ويكبيديا

"النِّسبة القُصوى والمتوسِّطة"

نعودُ إلى عالم الرّياضيّات. يمكنُ الوصول إلى "العدد الذّهبيّ" مِنِ اتّجاه آخر، والّذي يدمج أدواتٍ هندسيّة وجبريّة: لننظرْ إلى القطعة المستقيمة ABونبحث عن نقطة C تقسّمه بحيث يتحقَّق: $\dfrac{AB}{AC} = \dfrac{AC}{BC}$.

إذا تحقّقت هذه النّسبة، نقولُ إنّ النّقطة C تُقسّم القطعة بـِ "النّسبة الذّهبيّة". 

كي نجِدَ هذه النّقطة نستخدمُ أدواتٍ جبريّة. نرمز إلى القطعة AB على أنّها وحدة طول 1, وإلى $\dfrac{AB}{AC}\;\;$  نرمز بـِ - xبما أنّ مجموع أطوال  ACو BC مساويانِ لطول  AB, ، والّذي يساوي  1, نحصل على:   $BC=1-\dfrac{1}{x}$. ذلك فالنِّسبة بين القطع هي "النّسبة الذّهبيّة"، إذا تحقّقت المعادلة التّالية$x= \dfrac{\dfrac{1}{x}}{1-\dfrac{1}{x}}$أي أنّه$x=\dfrac{1}{x-1}$ هذه المعادلة تكافئ المعادلة التّربيعيّة  $x^2-x-1=0$,  والّتي حلّاها هُما$x= \dfrac{1\pm \sqrt{\;5\;}}{2}$. الحلّ الموجب لهذه المعادلة هو "العدد الذّهبيّ".

اِقترح عالم الرّياضيّات اليونانيّ إقليدس التّعريف التّالي: "يتمّ وصف خطٍّ مستقيم وكأنه تمّ تقسيمه بنسبةٍ قصوى ومتوسطة إذا كانت (نسبة) كلّ الخطّ إلى القطعة الكبيرة، هي مثل (نسبة) الكبيرة إلى الصّغيرة".

مِنَ الجبر إلى المتواليات 

نستخدمُ الآن الأدواتِ الجبريّة الّتي وصفناها كي نعود إلى عالم المتواليات. رأينا أنّ "العدد الذّهبيّ" الّذي  رمزنا له  -$\phi$, هو الحلّ الموجب للمعادلة $x^{\tiny 2}-x-1=0$نحنُ نعرف أنّ المعادلة  $\phi^{\tiny 2}-\phi-1=0$ صحيحة، ولذلك يمكن أن نجريَ عليها عمليّات عدّة.

هنالك إمكانيّة واحدة، وهي أن نأخذ الجذر التّربيعي لكلا الطّرفين. فنحصل على:  $\phi= \sqrt{\;\phi+1\phantom{xx}}= \sqrt{\;1+\phi\phantom{xx}\;}$ 

يمكنُ الاستمرار في تعويض التّعبير مرّةً بعد الأخرى. وهكذا نحصلُ على التّعبير التّالي: 

يمكنُ تمثيل هذه الصّيغة الجبريّة كمتوالية تراجعيّة:

$a_{\;1} = 1$

$a_{\;n+1} = \sqrt{\;1+a_n\quad\;\;}$

هذه متوالية تصاعديّة ومحصورة (بواسطة العدد 2، مثلاً). يمكن أن نبرهن أنّ الحدّ الأقصى للمتوالية هو "العدد الذّهبيّ".
إمكانية أخرى هي الرّجوع إلى المعادلة التّربيعيّة، وقسمة الطّرفَيْن على
-$\phi$ (والّذي مِنَ الواضح أنّه يختلف عن الصِّفر، ولذلك فيُسمَحُ القسمة عليه). نحصل على:  $\phi= 1+ \dfrac{1}{\phi}$.

هنا أيضًا، نستمرّ في التّعويض مرًة تلوَ الأخرى. نحصلُ على التعبير:

$\phi= 1+ \dfrac{1}{\phi}= 1+ \dfrac{1}{1+ \dfrac{1}{\phi}}= 1+ \dfrac{1}{1+ \dfrac{1}{1+ \dfrac{1}{\phi}}}$

نستطيعُ الآن تعريفَ المتوالية التّراجعيّة التّالية، والّتي يكونُ حدّها الأقصى هو "العدد الذّهبيّ" أيضًا:

$b_{\;1} = 1$

$b_{\;n+1} = 1+\dfrac{1}{b_\;n}$

تسمّى الكسور على هذه الصُّورة "كسورًا مستمرّة"، ولها أهمّيّة كبيرة في مجال نظريّة الأعداد وفي مجال التّحليل العدديّ، حيثُ تُستخدَمُ هناك لتقريب الثّوابِت والدّوالّ المختلفة.

انتبهو الى المعادلة $\phi^{\tiny 2}-\phi-1=0$ حصلنا على خاصتين  $\phi$:الاولى هي ان تربيعه يساوي نفسة + 1, اي:  $\phi^{\tiny 2}=\phi+1$,والثانية هي ان مقلوبة يساوي نفسة - 1, اي $\phi - 1 = \dfrac{1}{\phi}$

رأينا بعض استعمالاتِ متوالية فيبوناتشي وَ "العدد الذّهبيّ"، والمرتَبِطَيْنِ أحدهما بالآخر. ما أروعَ أن نعرف أنّه هنالك ما هو أكثر لرؤيته، في عالم الرّياضيّات وخارِجَهُ.

0 تعليقات