يُعتبر مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد أحد الأمراض الخطيرة، فماذا نعرفُ عن هذا المرضِ الخطيرِ، وكيفَ يمكنُ أن نتعامل معه؟ وهل هناك احتمالٌ أن يتمّ تطوير تطعيم له؟

يواجه جهازُ المناعةِ لدينا بشكل يوميّ وبنجاحٍ، الالتهاباتِ التي تهدّد أجسامنا، والخلايا التي حصل خَللٌ في نشاطها. عادةً ما يكون عمل هذا الجهازِ مفيدًا جدًّا لنا، لكنْ عند بعض الأشخاص، قد يُشخّص هذا الجهاز وجودَ خطأٍ في الخلايا الطبيعيّة في الجسم، أنّه عاملٌ غريبٌ عنه. في مثل هذه الحالات، يقومُ الجسمُ بتفعيل الآليّات نفسها التي تحارب العوامل الضارة بالجسم، وبالتالي فإنها تسبّبُ له ضررًا كبيرًا. تسمّى هذه الحالة "مرض المناعة الذاتيّة".

يُعتبر مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد (Multiple Sclerosis) أحد أمراض المناعة الذاتيّة، إذ يهاجم الجسم فروعَ الخلايا العصبيّة في الدماغ، ويُحدِث التهابًا موضعيًا مزمنًا حولها. بسبب هذا الالتهاب، يتضرّر غلاف الخلايا العصبيّة في الدماغ والحبل الشوكيّ، وهو مادّة بيضاء معزولة تسمى المايلين. 

يساعد المايلين في عمليّة النقل السريع للرسائل والإشارات العصبيّة، بما في ذلك الرسائل التي يرسلها الدماغ إلى العضلات، عندما يتوجّب عليها الانقباض أو الاسترخاء. لذلك، عندما يتضرّر غلاف المايلين، تحدث اضطراباتٌ كبيرة في عمليّة نقل الرسائل بين الدماغ وأعضاء الجسم. لذا، قد يواجه مرضى التصلّب العصبيّ المتعدّد صعوباتٍ في حركة أعضاء جسمهم، ومهارات التفكير ووظائفهم الحسيّة. يتشكّل نسيجٌ ندبيٌّ صلب في الأماكن التي يتضرّر بها المايلين، في عملية تسمّى التصلّب.

צילום במיקרוסקופ אלקטרונים סורק של תאי מיקרוגליה (עגולים) תוקפים תאי עצב | מקור: PROFESSOR JOHN ZAJICEK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
اضطرابات في عمليّة نقل الرسائل من الدماغ. صورة للخلايا الدبقيّة الصغيرة (المستديرة) بواسطة المجهر الالكترونيّ وهي تهاجم الخلايا العصبيّة | المصدر: PROFESSOR JOHN ZAJICEK / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

ليسَ شائعًا ومتعدّدًا فعليًّا

مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد ليس مرضًا شائعًا بشكل خاصّ. يبلغ معدّلُ انتشاره عالميًّا حوالي 36 مريضًا لكلّ مائة ألف شخص (حوالي 0.04 بالمائة). لا توجد علاقة بين كلمة "متعدّد" في الاسم العربي للمرضِ ومدى انتشاره، إنّما لانتشار الندبات المتصلّبة المتواجدة في جميع أنحاء الجهاز العصبيّ المركزيّ.

ينتشر المرض بشكلٍ أساسيّ بين جيل 20 وَ40، ومعدل إصابة النساء به أكبر بمرّتين مما هو لدى الرجال. كما أنّ القُرب العائليّ من مريضٍ مشخّصٍ بمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد يزيد من احتماليّة الإصابةِ به. بالإضافةِ إلى العوامل الوراثيّة، قد تؤدّي فإن العوامل البيئيّة قد تؤدي لازدياد تفشّي المرض. والعامل الرئيس بينها هو الإصابة بفيروس إبشتاين بار (Epstein-Barr Virus, أو مختصرًا بـ EBV). 

لهذا المرض أعراضٌ كثيرة، منها صعوبةُ على الأطراف،والشعور بالضعف والتنميل، وصعوبة الكلام، وأحيانًا ضعفٌ في البصر. يختلف مدى صعوبة الأعراض ونوعها من شخص إلى آخر، حسب الضرر الذي يلحق بالجهاز العصبيّ. في بعض الحالات، تتدهور حالة المرضى إلى عجز وصعوباتٍ في الوظائف اليوميّة.

هناك أربعة أنواع رئيسة معروفة في مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد. يعاني %85 من المرضى من التصلّب العصبيّ المتعدّد متكرّر الانتكاس والمُهاوَدة (RRMS). وهو النوع الأكثر شيوعًا، يتميّز بنوباتٍ يشتدّ فيها واحدٌ أو أكثر من الأعراضِ لِفترة معيّنة، ومن ثمّ تخمد أو تختفي. يُصاب لاحقًا قسم من هؤلاء المرضى من هذا النوع بالتصلّب المتعدّد المتفاقم الثانويّ (SPMS)- وهو مرضٌ يتميّز بِتفاقمٍ مستمرٍ للأعراضِ من نوبةٍ إلى أخرى. في بعض الحالات، يمكن للعلاج الدوائيّ أن يوقف التدهور من المرض من النوع الانتكاسيّ إلى النوع التقدميّ.

يعاني حوالي عشرة بالمئة من مرضى التصلّب العصبيّ المتعدّد المتفاقم الأوليّ (PPMS). يحدث التدهور في حالة المرضى الذين يعانون من هذا النوع من التصلّب تدريجيًا من لحظة ظهوره وما بعدها، بدون وجود نوبات مرضيّة تَتْبَعها فترات من الهدوء في الأعراض. وأخيرًا، يعاني أقلّ من خمسة بالمئة من المَرضى من نوعِ المَرَضِ الأقلّ انتشارًا وأكثرَ شدّة وهو: التصلّب العصبيّ المتعدّد التدريجيّ المتفاقِم (PRMS). يعاني المرضى في هذا النوع من تفاقمٍ مستمرّ للأعراضِ، بالإضافة إلى النوبات المتكرّرة.

אישה בכיסא גלגלים | צילום אילוסטרציה: tobe24, Shutterstock
ينتشر المرض بشكل رئيسيّ بين سنّ 20 إلى 40، تصاب النساء بشكل مضاعف مقارنةً مع الرجال. إمرأة على كرسيّ متحرك| تصوير توضيحيّ: tobe24, Shutterstock 
 

تاريخ المرض

رغم أنّ مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد يرافق البشريّة منذ سنواتٍ عديدة، إلّا أنّهم في الماضي لم يعرفوا كيفيّة تشخيص المرض، ناهيك عن طرقِ علاجِه. لقد كانت لِيدوينا المقدّسة من هولندا أوّل مريضة موثّقة بهذا المرض، والتي سقطت في شبابها أثناء التزلّج على الجليد، ومنذ ذلك الحين ساءَت حالتها تدريجيًا إلى شَلَلٍ جسديّ. يعتبرها المسيحيّون الكاثوليك قدّيسةً تَحمي المتزلّجين على الجليد. وُثِّقت أعراضها في سيرةٍ ذاتيّة كتبت عنها قريبًا من وفاتها سنة 1433م، ومن غير الممكن أن نعرف منها بثقةٍ تامّة أنّها كانت مصابة بالفعل بمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد.

تمّ توثيق مريض مشهور آخر في سنة 1822م، حيث وَصَفَ أوغسطس داستا، حفيد الملك جورج الثالث ملك بريطانيا، في مذكراته أعراض مرضه، والتي تضمّنت تدهورًا في بصرِه. 

في البداية، لم يكن هناك علاج لمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد، وازدادت أعراض المرض سوءًا بشكل تدريجيّ. في سنة 1868م، وصفَ طبيب الأعصاب الفرنسيّ جان مارتن شاركو لأوّل مرّةٍ العلاقة بين أعراضِ مرضاه، والخلل في نقل الإشارات في الجهاز العصبيّ، وعرّف لأوّل مرّة مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد. أشار الطبيب الفرنسيّ إلى ثلاثةِ أعراضٍ منتشرةٍ لهذا المرض- رعشة أثناء الحركة، رأرأة في العين لا إراديّة وصعوبة في الكلام- وميّزَهُ أيضًا عن مرضٍ تنكسيّ آخر له أعراضٌ مشابهة، والذي سيطلق عليهِ فيما بعد "مرض باركنسون".

رغم محدوديّة الأدوات المتوفّرة لديه، إلّا أنّ بعض استنتاجات شاركو لا تزال سارية المفعول إلى اليوم، وتستخدم لتشخيص المرض. يعتمد التشخيص بالأساس على وصف الأعراض، وفحص الجهاز العصبيّ وفحوصات مساعدة أخرى. تحسّنت القدرة على التشخيص بشكل كبير جدًّا، منذ البدء باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسيّ (MRI)، وهي أداة غير اجتياحيّة توفّرُ للأطباء القدرة على اكتشاف الندبات في الجهاز العصبيّ بسهولة.

في الماضي، استُخدم "اختبار الحمام الساخن" لتشخيص المرض، حيث كان يتم غمس المرضى في حوض ماءٍ ساخنٍ٬ ومن ثمّ مراقبة ردّة فعلهم لهذه العمليّة. استندت طريقة التشخيص هذه على تشخيص أعراض المرض، التي تميل إلى التفاقم في درجاتِ الحرارة المرتفعة. قبل بضع سنواتٍ، وجد باحثون تفسيرًا محتملًا لهذه الظاهرة، عندما أظهروا أنّ درجات الحرارة ونسبة الملوحة المرتفعة تغيّران من التركيب الجزئيّ للمايلين.
 

علاجٌ وأدوية 

حتّى يومنا هذا، يُعتبر مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد مرضًا عُضالًا. يرتكز علاج المرض على إبطاء تقدّمه، والتركيز على أعراضه والخطوات اللازمة لتحسين جودة حياة المرضى.

من المُتّبع علاج النوبات الشديدة بمساعدة الستيرويد، الذي يؤدي لتحسّنٍ سريعٍ في الأعراض، ويُسّرّع من وتيرة الشفاء من النوبة. يقوم الستيرويد بقمعِ جهاز المناعة، ويقلّل من العمليّة الالتهابيّة التي تحدث في منطقة العَصَبِ المصاب. كان هذا العلاج هو الأداة الرئيسة للتخفيف من أعراض المرض في سنوات الـ 90، لكنّه لم يؤثّر في التعافي من الهجوم، أو في سيرورة المرض على المدى البعيد.

اكتشفوا لاحقًا أنّه يمكن إبطاء تقدّم المرض بمساعدة إنترفيرون بيتا. وهو بروتين يُفْرَز بشكل طبيعيّ في الجسم، ويساعد في مراقبة عمل جهاز المناعة. ليس من الواضح بشكل دقيق حتّى الآن، ما هيَ آليّة العمل التي يساعد بها انترفيرون بيتا مرضى التصلّب العصبيّ المتعدّد، لكن وَجدت التجارب أنّه يبطئ من وتيرة تقدّمه، ويقصّر النوبات ويقلّل من وتيرتها.  

دواء شائعٌ آخر يُعطى لمرضى التصلّب العصبيّ المتعدّد هو كوباكسون. يعتمد الدواء على تركيبة مركّبة من أربعة أحماض أمينيّة تحاكي بُنْيَةَ المايلين. على غرار انترفيرون بيتا، لا يوجد لدى كوباكسون أيّ عوارض جانبيّة يمكنها أن تضرّ في عمل الكبد. مع ذلك، فإنّ كلّ من هذه الأدوية انترفيرون بيتا وكوباكسون يتمّ تقديمها للمرضى عن طريق الحقن، ما يجعل من الصعب استخدامها بشكل منتظم. يُمكن اليوم الحصول على الأدوية عن طريق الوريد بتسريبٍ بطيء، وهناكَ أيضًا أدوية لمرضى التصلّب العصبيّ المتعدّد تُعطى عن طريق الفم.

נגיף אפשטיין-בר, הגורם למחלת הנשיקה | איור: ARTUR PLAWGO / SCIENCE PHOTO LIBRARY
يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد. فيروس إبشتاين بار، المسبّب إلى داء التقبيل | رسم توضيحيّ: ARTUR PLAWGO / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

 التصلّب العصبيّ المتعدّد وداء التقبيل

تُسلِّط دراسة كبيرة نشرها باحثون من جامعة هارفارد في الولايات المتّحدة في بداية سنة 2022م الضوءَ على ظروف تطوّر المرض. استخدم الباحثون قاعدة بيانات طبيّة لمجنّدين سابقين في الجيش الأمريكيّ، لمتابعة صحّة حوالي 10 ملايين جنديّ سابق على مدار عشرين عامًا. خلال هذه الفترة، تمّ تشخيص 955 من المفحوصين بمرضِ التصلّب العصبيّ المتعدّد. أظهرَ الفحص الدقيق للأجسام المضادّة التي في دمائهم نتيجةً مفاجئة لكنّها مُؤكّدة، وهي وجود علاقة واضحة بين الإصابة السابقة بفيروس إبشتاين بار، وتفشّي مرض التصلّب العصبيّ المتعدّد في وقت لاحقٍ من الحياة. في الواقع، ربّما يكون هذا الفيروس أهمّ سبب لتفشّي المرض، ويزيد بمقدار 32 مرّة من خطر الإصابة به.  

يُعدّ فيروس إبشتاين بار، الذي يعتبر أحد الأسباب الرئيسة لِداء التقبيل، فيروسًا شائعًا جدًا، وقد تعرّض له أكثر من 90 بالمائة من الأشخاص البالغين في وقتٍ ما في حياتهم. مع أنّ معظم المصابين به لن يصابوا بمرض التصلّب العصبيّ المتعدّ، لكن على ما يبدو، فإن له دورًا هامًّا في العمليّة التي تؤدي إلى تطوّر المرض. يرفع هذا الاكتشاف إلى حدّ كبير من أهميّة الجهود المبذولة اليوم لتطوير لقاح فعّال ضد EBV، والذي يركّز اليوم على تقنيّة لقاح mRNA المألوفة لدينا من فيروس كورونا. 

وفي الواقع، فقد بدأت شركة الأدوية مُوديرنا في المرحلة الأولى من التجارب السريريّة لهذا اللّقاح.  

رغم ما ذُكر سابقًا، وهو عدم وجود علاج حقيقيّ حتّى الآن لمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد، إلّا أنّنا نتعلم المزيد عن طبيعة عَمَلِهِ، ونكتشف طرقًا أكثر نجاعةً لِعلاجه وَتشخيصه في مراحلهِ الأولى. من خلال نظام غذائيّ متوازن، وعلاج دوائيّ والمحافظة على السلامة النفسيّة، يستطيع العديد من المرضى تحسين جودة حياتهم، والحفاظ على وتيرة حياة طبيعيّة. إنّ اكتشاف أنّ فيروس إبشتاين بار ربّما يكون هو سبب المرض الرئيس، يعزز الأمل في تطوير لقاحات وعلاجاتٍ وقائيّة لِمرض التصلّب العصبيّ المتعدّد، وإنجاز المزيد من التقدّم في إيجاد طرقٍ جديدة وفعّالة لعلاج المرض، أو تحسين تعاملنا ومواجهته. 

0 تعليقات