كان من الممكن أن يبدو تاريخ الجريمة المنظّمة مختلفًا لولا اكتشاف العلاج النّهائيّ لمرض البحّارة القاتل- الحمضيّات

كان ذلك الدّاء مصدر رعب للبحّارة الأوروبيّين على مدار عدّة قرون. إذ تشير التّقديرات إلى أنّه لمدّة 300 عام تقريبًا، منذ اكتشاف أمريكا حتّى بداية القرن التّاسع عشر الميلاديّ، أودى داء الأسقربوط بحياة ما يقارب مليونَي بحّار. في النّهاية، تمّ القضاء على المرض بشكل شبه كامل عندما اكتُشِف أنّ استهلاك الحمضيّات يمنعه، ولكن تبيّن اليوم أنّ هذا الحلّ كان أحد العوامل الّتي ساعدت في ظهور نوع آخر من الرّعب- المافيا الصقليّة. 

داء الأسقربوط، الّذي يعود سببه كما نعلم اليوم لنقصٍ في فيتامين C، كان لسنواتٍ عديدة أحد الأسباب الرّئيسة للوفاة في الرّحلات البحريّة. يبدأ بضعفٍ وإرهاق، عادة بعد شهر إلى ثلاثة أشهر من الإبحار، ويتطوّر إلى صعوبةٍ في التّنفّس وآلامٍ في العظام حتّى الإصابة بمرض الروماتيزم. وسرعان ما تنتشر الكدمات في الجسم وترتخي الأسنان. هذه الأعراض تكون مصحوبةً بتغيّرات حادّة في المزاج، وجفافٍ في الفم والعينين، وفي النّهاية تلف في الكبد، واستسقاء، وتشنّجات، ويكون مصير المرضى الموت. 

كان هذا هو الحال حتّى سنة 1747م، وهو العام الّذي انطلق فيه الطبيب البريطانيّ جيمس ليند (Lind) في رحلة إلى البحر الأبيض المتوسّط على متن السّفينة ساليسبري. بعد حوالي شهرَين، أُصيب 12 بحّارًا بمرض الأسقربوط، وكان ليند أوّل من تعامل مع المشكلة بنظرةٍ علميّة. يُعرَف ما فعله اليوم كأوّل تجربة إكلينيكيّة في تاريخ الطّب الحديث. 

قسّم ليند المرضى إلى ستّة أزواج، وأعطى كلّ مجموعة علاجًا مختلفًا، بما في ذلك مريضَين لم يتلقّيا أيّ علاج وكانا بمثابة مجموعة مراقبة. أظهر أحد الزوجين، الّذي حصل على برتقالتَين وحبّة ليمون واحدة يوميًّا، تحسّنًا كبيرًا حتّى نفدت الفاكهة بمرور ستّة أيّام. استنتج ليند أنّ الحمضيّات لها بعض المكوّنات الّتي تعالج الأسقربوط. وبعد عقود من الزّمن، وفي سنة 1932م فقط، أُثبِت أنّ هذا المكوّن هو فيتامين C، وأنّه ضروريّ لإنتاج بروتين الكولاجين الضروريّ لتكوين الأنسجة والعظام.

واجهت هذا الاكتشافَ معارضةٌ كبيرة، حيث وجد النّاس صعوبة في تصديق أنّ مثل هذا المرض الخطير يمكن علاجه بسهولةٍ عن طريق كأس صغير من عصير اللّيمون. كان الكابتن جيمس كوك من أوائل الّذين تبنّوا هذا الاكتشاف، حيث حرِص على تقديم ثمار الحمضيّات للبحّارة في رحلاته الطويلة بين الجزر الجنوبيّة، وخفّض معدّل الوفيات لديهم جرّاء مرض الأسقربوط إلى الصّفر تقريبًا. في تسعينيّات القرن التّاسع عشر الميلاديّ، تبنّت البحريّة البريطانيّة أخيرًا سياسة إلزام كلّ سفينة بحريّة حمل شحنة كبيرة من الحمضيّات أو عصير اللّيمون، ما أثّر ليس فقط في صحّة البحّارة، وإنّما أيضًا في اقتصاد جزيرة كبيرة في جنوب إيطاليا.

​הניסוי הקליני המבוקר הראשון בהיסטוריה גילה תרופה קשה למחלה איומה. ג'יימס לינד | מקור: ויקיפדיה, נחלת הכלל
اكتشفت التجربة الإكلينيكيّة الأولى تحت السّيطرة في التّاريخ علاجًا صعبًا لمرضٍ رهيب. جيمس ليند | المصدر: ويكيبيديا، المجال العامّ 

 

جنّة من الحمضيّات

تُعتبَر صقلية، لعدّة أسباب، واحدةً من الأماكن المثاليّة لزراعة أشجار الحمضيّات. فالحمضيّات نباتات حسّاسة للغاية وتحتاج إلى مناخ معتدل ودافئ ودرجة حرارة مئويّة بين 13-30 درجة. نظرًا لكون درجة الحرارة في جزر البحر الأبيض المتوسّط تتراوح بين 10-22 درجة، فهي مناسبة جدًّا لزراعة الحمضيّات. إنّ المناطق المفضّلة للبساتين في الجزر موجودة في السّهول القريبة من السّاحل، حيث تكون التّغيّرات في درجات الحرارة صغيرة نسبيًّا. 

وصلت فاكهة اللّيمون الأولى إلى صقلية في القرن العاشر الميلاديّ على يد المسلمين، وتمّ استيعابها بشكلٍ جيّد هناك. كما أسهمت التّربة الخصبة في الجزيرة بدورها في ازدهار اللّيمون، وبمساعدة نظام الرّي المتفرّع للأشجار الّتي تحتاج إلى إمداد دائم بالماء على مدار السّنة. نمت البساتين في صقلية لعدّة قرون بشكلٍ أساسيّ على الاستخدام المحليّ، لكنّ الاكتشاف الجديد حوّلها في غضون بضعة عقود إلى مصدر صناعة مربح للغاية. 

وفقًا للتقديرات، فإنّه خلال العشرين سنة الأولى من إدخال الإرشادات الجديدة وحتّى سنة 1814م، استهلكت البحريّة البريطانيّة 7.3 مليون لتر من عصير اللّيمون، وصل الجزء الأكبر منها من صقلية. وكانت هذه البداية فقط. فخلال 15 سنة، من سنة 1835م إلى 1850م، قفز العدد السنويّ لبراميل عصير اللّيمون المُصدَّر من ميناء ميسينا من 740 برميلًا فقط إلى أكثر من عشرين ألفًا. وفي سنوات الخمسين من القرن الماضي، كان في الجزيرة حوالي 80 ألف دونم من بساتين اللّيمون الّتي أنتجت نحو 750 ألف صندوق للتصدير. وفي غضون ثلاثين عامًا، ازدادت الكميّة ثلاثة أضعاف إلى ما يقارب من 270 ألف دونم، ما أدّى إلى إنتاج 2.5 مليون صندوق من الحمضيّات.

מ-740 חביות ל-2.5 מיליון תיבות תוך קצת יותר ממאה שנה. פרדס בסיציליה | צילום: Shutterstock
من 740 برميلًا إلى 2.5 مليون صندوق في أكثر من قرن بقليل. بستان في صقلية | تصوير: Shutterstock

 

جنّة للمجرمين

لسوء الحظ، كانت صقلية في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ أيضًا موطنًا مثاليًّا للجريمة، ولعبت صناعة الحمضيّات دورًا مهمًّا في ذلك. ارتبطت الأرباح الكبيرة من الصّادرات بضعف الحكومة الإيطاليّة الجديدة الّتي احتلّت الجزيرة في سنة 1861م من آل بوربون من أجل توحيد إيطاليا لأوّل مرّة في ظلّ حكومة واحدة. يُضاف إلى ذلك التّقليدُ الإقطاعيّ الّذي لا يزال قائمًا بطبيعة الحال في الأجزاء الفقيرة من الجزيرة، وهو ما مكّن من تطوير مجموعة كبيرة من الجريمة المنظّمة- المافيا.

أدّت الحروبات الّتي مزّقت إيطاليا في القرن الثامن عشر الميلاديّ إلى ظهور العديد من المليشيات في مناطقها المختلفة، وخاصّة الجنوبيّة. كان جيش جوزيبي غاريبالدي، الّذي قاد تحرير صقلية، يتألّف إلى حدّ كبير من متطوّعين، بعضهم مجرمون، نظّموا أنفسهم عند عودتهم إلى ديارهم في جمعيّات سريّة مسلّحة. نظرًا لكون الحكومة الإيطاليّة الجديدة في صقلية ضعيفة في مجال فرض القانون، اضطُرّ رّ مزارعو الحمضيّات إلى توظيف هذه الجمعيّات لحماية محاصيلهم والتوسّط بينهم وبين التجّار. يُسمَّى هذا الأمر في لغة اليوم بالحماية أو الخاوة "بروتكشن". 

ومع ذلك، لم يكن نموّ المافيا نموًّا واحدًا في الجزيرة، فقد ازدهرت في مناطق أكثر من أخرى. كشفت دراسة في سنة 2017م أجراها باحثون من إنجلترا وإيرلندا والسّويد أنّ صناعة الحمضيّات تمركزت في هذه المناطق، وحاولت الدراسة تفسير سبب ذلك الأمر. 

استند الباحثون إلى استطلاع أجراه النائب في البرلمان الإيطاليّ أبيلا دامياني (Damiani) في ثمانينيّات القرن التّاسع عشر الميلاديّ، وكان من بين الأمور الّتي تضمّنتها البياناتُ أبعاد الجريمة في مناطق مختلفة من الجزيرة وأنواع الجرائم فيها. استخدم الباحثون بيانات الجريمة في صقلية كتقديرٍ لوجود المافيا في مقاطعات مختلفة في الجزيرة، ثمّ قارنوها مع البيانات المتعلّقة بحجم إنتاج اللّيمون في كلّ موقع. لمزيد من الاختبارات، استخدموا بيانات من تقرير الجريمة الّذي كتبه الشّرطيّ أنطونيو كوتريرا (Cutrera) من باليرمو في سنة 1900م، الّذي ركّز فقط على شرق صقلية وعلى البلدات ذات الوجود البارز للمافيا بها، فلذلك كانت هذه البيانات جزئيّة فقط. 

بناءً على تلك البيانات، يبدو أنّ هناك بالفعل علاقة قويّة بين وجود المافيا وزراعة الحمضيّات؛ إذ رفعت محاصيل الحمضيّات من احتماليّة وجود المافيا في البلدة بنسبة 54%، بينما لم يتمّ العثور على علاقة مماثلة في صناعات التصدير الرئيسة الأخرى في الجزيرة، بما في ذلك الزّيتون والعنب والكبريت، لذلك كما يبدو فإنّ النّشاط الاقتصاديّ للمافيا تمركز بالفعل حول سوق الحمضيّات. 

يقول جون ديكي (Dickie)، الّذي نشر في سنة 2004م كتابًا عن المافيا في صقلية: "لا شكّ أنّ المافيا تطوّرت حول تجارة الحمضيّات"، ويضيف: "كلّ زعماء المافيا الأوائل الّذين نعرفهم في باليرمو في القرن التّاسع عشر كانوا تجّار ليمون، أو أصحاب بساتين أو حرّاس بساتين". 

מחלה שקטלה מיליוני ימאים. איור ממחברתו של רופא בצי הבריטי במאה ה-19 | מקור: ויקיפדיה, נחלת הכלל
 مرض قتل ملايين البحّارة. رسم توضيحيّ من دفتر ملاحظات لطبيبٍ في البحريّة البريطانيّة في القرن التّاسع عشر | المصدر: ويكيبيديا، المجال العامّ

ابتزاز العصير

جعلت بعضُ صفات الحمضيّات زارعيها معرّضين بشكلٍ خاصّ للتهديدات والابتزاز. كانت المحاصيل الحسّاسة معرّضة جدًّا للتلف داخل قنوات الرّي، كما احتاجت الأشجار إلى خمس سنوات من أجل أن تثمر منذ لحظة زراعتها- وهو الوقت الّذي يحتاج له المزارعون من أجل التمويل. وإذا لم يكن ذلك كافيًا، كان من السّهل جدًّا القدوم إلى البستان في جوف اللّيل وسرقة جزء كبير من الفاكهة مباشرة عن الأشجار. احتاج المزارعون للحماية كثيرًا، وَمَن أفضل من المتحرّشين أنفسهم للقيام بذلك؟ يوضّح ديكي: "كانت هناك قائمة طويلة من الأماكن الّتي كان بإمكان رجال العصابات أن يمارسوا الابتزاز فيها". 

ومع ذلك، يحذّر الباحثون من أنّه لا ينبغي استخلاص استنتاجات بعيدة المدى من النّتائج الّتي توصّلوا إليها؛ لأنّ التّاريخ والاقتصاد مجالان مركّبان ولا يمكن اختزالهما في مكوّن واحد فقط، مثل التّجارة باللّيمون. ما يمكن تحديده هو أنّ عصير اللّيمون كان أحد العوامل الّتي أسهمت في تطوّر الجريمة المنظّمة. 

على مرّ السّنين، اختفى مرض الأسقربوط تمامًا، وأصبح اليوم مرضًا نادرًا يصيب بشكل خاصّ الأشخاص الّذين يعانون من نقص غذائيّ حادّ. فقدت صقلية أيضًا موقعها البارز في سوق اللّيمون العالميّ، ولكن أصبحت المافيا الآن منظمّة إجراميّة عالميّة مرعبة. لخّص ذلك مسؤول حكوميّ إيطاليّ بعد كشفِهِ لتقارير عن الأفعال الّتي سيطرت بها المافيا على بساتين صقلية: "بعد قراءة العديد من القصص عن الجرائم الّتي ارتكبها هؤلاء الأشخاص، بدأت رائحة أزهار الحمضيّات تذكّر برائحة الجثث". 

 

0 تعليقات