ألْزهايْمِر، باركنسون، والخَرَف بجميع أنواعه-. بعضُ الأمور الّتي تُخيفنا أكثر مّما قد يحدث عندما يتوقّف دماغنا عن العمل.
الخَرف (التّدهورالعقليّ أو العُتاه الشّلليّ)، هو مصطلحٌ عامٌّ لفقدانٍ شديدٍ للذّاكرة والقُدرات العقليّة الأخرى، إلى الحدّ الّذي يتسبّب بإحداث الضّرر بنمط حياة الفرد واستقلاليّته. تتطوّر هذه المجموعة من الأمراض نتيجة التّغييرات الّتي تحدث في الدّماغ، وتُسبِّب الضَّرر للخلايا العصبيّة. هناك مناطق مختلفة من الدّماغ مسؤولة عن وظائف مختلفة، وعند حدوث ضررٍ في منطقةٍ ما، يُصبح من الصّعب عليها أداء وظيفتها كما يجب. تبدأ العديد من أنواع الخَرَف بشكلٍ طفيف وتتفاقم تدريجيًّا. مع تقدُّم المرض، تموت المزيد والمزيد من خلايا الدّماغ وتتْلَف شبكة الرّوابط بينها. تتعلّق طبيعة المرض وأعراضه بمكان الإصابة، وبمدى علاقة المنطقة المصابة بتصرّفات المريض، قدرة تواصله، تفكيره، ومشاعره.
تتنوّع أعراض الخرَف بشكلٍ كبيرٍ؛ ولكن من أجل تشخيصه، يجب أن تتأثر اثنتان على الأقلّ من الوظائف الرّئيسيّة التّالية: الذّاكرة، التّواصل، اللُّغة، التّركيز، الحُكم، عُمق النّظر في الاشياء، والإدراك البصريّ. في المراحل المبكِّرة، يمكن أن يعاني المرضى من تغيُّرات في السُّلوك والشّخصيّة، كالتّهيُّج، التّوتّر والاكتئاب. قد تتوسّع الأعراض لاحقًا لتشمل العِدائيّة، الغضب، القلق، الضّغظ العاطفيّ، اندفاعات جسديّة ولفظيّة، الأرق، الهلوسة ومشاكل النّوم.
أنواع الخَرَف
تقع العديد من الأمراض تحت مظلَّةِ ما يُسمّى "بالخرَف". في كثير من الأحيان، يصعُب التّمييز بينها بسبب التّشابه في الأعراض. يَظهر الخَرَف عادةً في سِنّ الشّيخوخة؛ ولكن هناك أيضًا ظواهر وراثيِة الّتي من الممكن أن تؤدّي إلى أمراض تنكُّسِيّة في الدّماغ في سنٍّ مبكِّرة.
الأمراض التَّنكُّسيّة هي أمراض تتراجع فيها وظيفة أو بُنية الأنسجة أو الأعضاء المصابة، وتسير نحو الأسوأ مع مرور الوقت.
المرض الأكثر شُهرةً وشُيوعًا هو بالطّبع مرض ألْزهايْمِر، والّذي يُصيب 60-80 بالمائة من مرضى الخَرَف. يتميّزُ المرض بفُقدانٍ تدريجيٍّ للذّاكرة، التّفكير، والقدرة على الحكم. في أغلب الأحيان، يصيب الضَّررُ منطقة الحصين "الهيبوكامبوس" في البداية، وهي المنطقة المسؤولة عن التّعلُّم والذّاكرة في الدّماغ. لذا، غالبًا ما يكون فقدان الذّاكرة هو أحد الأعراض الأُولى لمرض ألْزهايْمر. تبدأ التّغيُّرات في الدّماغ قبل ظهور الأعراض الأولى بسنوات.
يختلف تطوُّر المرض من شخصٍ لآخر، وعادةً ما ينقسم إلى ثلاثة مستويات من الخطورة. يعيش المريض في المتوسِّط من أربع إلى ثماني سنواتٍ بعد التَّشخيص، لكن هناك من يعيش ما يقارب العشرين عامًا. يتعرّض الأشخاص المصابون بمتلازمة داون بشكلٍ أكبر لخطر الإصابة بالخَرَف المُشابه لمرض ألْزهايْمِر.
ثاني أكثر أنواع الخَرَف شُيوعًا هو الخَرَف الوِعائيّ (vascular dementia)، والّذي يتطوّر
كَنتيجةٍ للسّكتة الدِّماغيّة. يتكوَّنُ الخرَف الوعائيّ عند الانسداد الكامل أو الجُزئيّ لأحد الأوعية الدّمويّة في الدّماغ، ممّا يُؤدّي إلى تجويع الخلايا العصبيّة وموتها.
يُعدُّ مرض الْباركنسون أيضًا نوعًا شائعًا جدًّا من الخَرَف الدِّماغي، والّذي يتجلّى -من بين أمورٍ أخرى- في ضعف التّفكير والقُدرة على الحُكم. تبدأ إصابة الدّماغ في المناطق المسؤولة عن الحركة، وتتجلّى بالرُّعاش اللّاإراديّ وأعراض أخرى؛ ولكن مع تقدّمها، قد تؤثِّر أيضًا على القُدرات العقليّة كالذّاكرة، والانتباه.
يُلاحَظ نوعٌ آخرٌ من الخَرَف في أمراض الْبريون كمرضِ "كروتزفيلد جاكوب"، المعروف أيضًا باسم "جنون البقر". نشأ الاسم من النّسخة المُشابهه للمرض في الماشية، والمعروفة باسم "اِلْتهاب الدِّماغ الإسفنجيّ البقريّ"، والّتي تؤثِّر على سلوك الماشية. ينتُج المرض عن خللٍ في طيّ بروتين يُسمّى "بريون"، والّذي تتراكم نسخته المَرَضيّة في الدِّماغ؛ ممّا يُضعِف نشاط الْبريونات الأُخرى، ويتسبّب بقتل الخلايا العصبيّة. المرض نادرٌ، ويؤدّي إلى تدهوُرٍ في التّفكير، الحركة اللّاإراديّة، الارتباك، صعوبة المشي وتغييرات في المزاج.
نوعٌ مُماثلٌ من الانتكاس الدّماغيّ يحدث بسبب أجسام ليوي، ممّا يؤدّي إلى اِنخفاضٍ في القُدرات التّفكيريّة، القدرة على الحكم والأداء المستقلّ. تُعتبر الجُسيْمات بمثابة تراكماتٍ مجهريّة للبروتين، والّتي تُدمّر الدِّماغ مع مرور الوقت عند 10-25 بالمائة من مرضى الخرَف. غالبًا ما تتواجد نفس الأجسام في أدمغة الأشخاص الّذين يُعانون من أنواع أخرى من الخرَف، كألزهايمر والباركنسون.
تنجُم أمراض أخرى عن أسباب وراثيّة أو بيئيّة واضحة. على سبيل المثال، مرض هنتنغتون، وهو مرض وراثيّ يسبِّب تغيّرات في المناطق الدِّماغيّة المسؤولة عن الحركة، التّقلّبات المزاجيّة والقدرة على التّفكير. في حين أنّ متلازمة كورساكوف، والّتي تُضعِف الذّاكرة، تنتُج عن نقصٍ حادٍّ في فيتامين- B1 الأساسي لإنتاج الطّاقة في الخلايا العصبيّة. غالبًا ما تُلاحَظ المُتلازمة عند مدمني الكحول، ولكنّها قد تتطوّرأيضًا بسبب الإيدز، سوء التّغذية، الاِلتهابات المزمنة وغير ذلك. يُواجِه المرضى صعوبةً في تعلِّم معلومات جديدة، وتذكُّر الأحداث الأخيرة، بحيثُ يُمكنهم إجراء محادثةٍ كاملةٍ مع شخص ما، ونسيانها بعد بضع لحظات.
متلازمةٌ نادرةٌ أخرى هي اِستسقاء الدّماغ (Hydrocephalus)، والّتي تحدث نتيجةً لتراكم السّائل الدِّماغيِّ الشّوكيِ في بُطيْنات الدّماغ (التّجاويف الدِّماغيّة)، وضغطه على الأنسجة الدّاخليّة؛ ممّا يُسبّب مشاكل في التّفكير والقدرة على الحُكم، إلى جانب صعوبةٍ في المشي وفقدان السّيطرة على المثانة.
بالطّبع هناك العديد من أنواع الخَرف الأخرى، كالخَرَف الصِّدغيّ الجبهيّ (Fronto-temporal Dementia) الّذي يُؤدّي إلى انتكاسٍ في الجزء الأماميّ من الدّماغ، انتكاس القشرة الخلفيّة الّذي يُركّز على الجانب الخلفيّ من الدّماغ، والخَرف المُختلط الّذي يجمع بين عدّة أنواع. بالإضافة إلى ذلك، تظهر أعراض الخَرف لدى الأشخاص الّذين يعانون من الاكتئاب ويتعاطون المخدرات أو الكحول. مشاكل الغُدّة الدّرقيّة ونقص الفيتامينات من الممكن أن تُضعف بدورها أيضًا التّفكير والذّاكرة.
التّشخيص
لتشخيص مرض ألزهايمر وأنواع الخَرف الأخرى، هناك حاجة لإجراء اختبارات شاملة، والّتي تشمل اختبارات للشّخصيّة، اختبارَ الوظائف العقليّة، فحص التّاريخ الطِّبيّ للعائلة، اختبارات بدنيّة، اختبارات عصبيّة، وتصوير الدّماغ ووظائفه. كما يشمل التّشخيص تحاليل الدّم والبول، والّتي تهدف إلى استبعاد الأمراض الأخرى الّتي قد تُسبِّب ارتباكًا، كالسُّكري، فقر الدّم وسوء التّغذية.
يتمّ استعمال التّصوير بجهاز الرّنين المغناطيسيّ (MRI) أو التّصوير المقطعيّ المحوسب للدّماغ (CT) لاستبعاد الحالات الأخرى الّتي تتطلَّب علاجًا مختلفًا، مثل: الأورام، السّكتة الدِّماغيّة، تراكم السّوائل أو أيّ إصابة دماغيّة أخرى. وجد باحثون أنّ أدمغة مرضى ألزهايمر تتقلّص مع تقدُّم المرض، ولكن لم يتمّ بعد تحديد قيمٍ معياريًة، والّتي يمكن على أساسها بناء التّشخيص بناءً على حجم الدّماغ.
يمكن لمثل هذه الاختبارات اكتشاف ما إذا كان الشّخص مصابًا بالخرف، ولكنّها تواجه صعوبة في اكتشاف السّبب أو تشخيص نوع الخَرَف. على سبيل المثال، لا يوجد حاليّا مُؤشّر بيولوجيّ يّشخِّص بشكلٍ قاطعٍ ما إذا كان الشّخص يعاني بالفعل من مرض ألزهايمر.
العلاج
بخلاف الجلد المصاب أو المخدوش، لا تستطيع الخلايا العصبيّة في الدِّماغ عادةً أن تتجدَّد، لذا، عند تلف الخليّة العصبيّة وموتها، لا يتمّ استبدالها بخلايا أخرى. لذلك، يستمرّ الضّرر القائم، ويمكن فقط محاولة منع الضّرر من التّفاقم.
يمكن أن يحافظ التّشخيص المبكِّر والعلاج الدّاعم على جودة حياة المريض. كلّما تمّ اكتشاف المرض مبكِّرًا أكثر، كلّما زادت اِحتماليّة تقليل الأعراض والحفاظ على نمط حياة مستقلٍّ لفترةٍ أطول. يتمّ تحديد العلاج وِفقًا لنوع الخرف وسببه. في حالات وجود مشاكل أيضيّة، أو غيرها من المشاكل القابلة للحلّ، يمكن علاج سبب المشكلة. ومع ذلك، لا يمكن علاج معظم حالات الخرف.
في الوقت الحاليّ، لا يوجد علاج لمرض ألزهايمر، ولا طريقة لتأخير تطوّره؛ ولكن هناك علاجات من شأنها أن تخفِّف الأعراض أو تُثبِّطها. هناك -على سبيل المثال- أدويةٌ تُعالج التّغيُّرات في دورة النّوم وتحسِّن الذّاكرة وما شابه. في المتوسِّط، يمكن لهذه الأدوية تأخير تفاقم الأعراض لمدّة نصف عام إلى عا،, بالنسبة لنصف المرضى الّذين يتناولونها. كما توجد علاجات سلوكيّة أو بديلة، والّتي تُخفِّف عن المريض نفسيًّا وجسديًّا دون استخدام الأدوية.
بعض الأرقام
وفقًا لتقديرات جمعية ألزهايمر، يعاني 5.7 مليون شخصٍ في الولايات المتّحدة وحدها من مرض ألزهايمر، وبحسب التّقديرات، سيرتفع عددهم إلى 14 مليونًا بحلول عام 2050. يُضاف إليهم الملايين من المرضى الّذين يُعانون من أنواع أخرى من الخرف. يموتُ واحدٌ من كلّ ثلاثة بالغين في نهاية المطاف من الخرف -أكثر من سرطان الثّدي وسرطان البروستاتا مُجتمعين. مرض ألزهايمر هو السّبب السّادس الأكثر شيوعًا للوفاة للمرضى فوق سِنّ 65 عامًا، وهو أيضًا المرض الوحيد الّذي لا توجد له خُطّة وقاية أو علاج. من بيانات منظّمة الصِّحّة العالميّة، يبدو أنّه في عام 2015، كان هناك 50 مليون مريض مصابٍ بالخرف في العالم، ومن المتوقّع أن يتضاعف عددهم ثلاثة أضعاف بحلول عام 2050.
على الرُّغم من هذه الأرقام القاتمة، فقد أظهر بحثٌ أنّ صحّة الدّماغ لدى عامّة النّاس قد تحسّنت بين عامي 2000 و 2012. حتّى اليوم، ما زلنا لا نعرف جميع العوامل الاجتماعيّة، السُّلوكيّة والطِّبِّيّة الّتي ساهمت في هذا التّحسُّن؛ ولكن من المحتمل أن تكون مرتبطةً بزيادة مستوى الذّكاء ومُراقبة عوامل الخطر لأمراض القلب والأوعية الدّمويّة بشكلٍ أفضل.
بالإضافة إلى ما ذُكر سابقًا، فإنّ مرض الخرف يتسبَّبُ في خسائرَ اقتصاديّة فادحة. بحيث يضطر المرضى إلى التَّخلّي عن مصدر رزقهم، رخصة قيادتهم، واستقلاليّتهم؛ كما ويتعيّن على أفراد أُسرهم إعالتهم نفسيًّا ومادِِّيًّا. في المراحل المتقدّمة من المرض، يتطّلب وضع المرضى العنايةَ والمُرافقةَ الدّائمة.
حتّى على المستوى العامّ، فإنّ الثّمن الاقتصاديّ ثقيل، ومن المتوقّع أن يزداد سوءًا. التّكلفة الاقتصاديّة لعلاج مريضٍ في مُستوى خطورة متوسِّطة أو شديدة أكبر بـ 1.4 مرّةٍ أو مرّتين على التّوالي من الاستثمار المطلوب بمريض حالته بسيطة. نظرًا لأنّ تكلفة علاج مريضٍ مصاب بالخرف تزداد مع تقدُّم المرض، فإنّ العلاج الّذي يؤخِّر تطوُّر المرض، ويُحافظ على وظيفة المريض، من شأنه أن يوفّر الكثير من الموارد. تُشير التقّديرات إلى أنّ التّشخيص المبكِّر والدّقيق يمكن أن يوفّر ما يصل إلى 7.9 تريليون دولار من تكاليف العلاج في الولايات المتّحدة وحدها. وتقدِّر منظّمة الصِّحَّة العالميّة أنّ تكاليف علاج مرضى الخرف تبلغ حاليًّا 800 مليار دولار سنويًّا، وسيتضاعف المبلغ 2.5 مرّة مع نهاية العقد المقبل.
كيف نُقلّل من خطر الإصابة بالخرَف؟
هناك عدد كبيرٌ من العوامل المعروفة الّتي تزيد من خطر الإصابة بمرض ألزهايمر. بعضها لا يُمكِننا التّأثير عليه، مثل: العمر، تاريخ العائلة والوراثة. ومع ذلك، هناك عوامل أخرى لا تزال تحت سيطرتنا.
بشكلٍ عامٍّ، الحفاظ على نمط حياةٍ صحِّيِّ مع تقدُّمنا في العمر، من شأنه أن يحافظ أيضًا على صحّة الدِّماغ، وقد يُقلِّل من خطر الإصابة بمرض ألزهايمر. القاعدة تقول: إنّ ما هو جيِّدٌ للقلب جيّدٌ للدّماغ أيضًا؛ ولم يفت الأوان أبدًا للبدء بالاعتناء بهما. يؤدّي ارتفاع الكوليسترول، ارتفاع ضغط الدّم، السُّكري والسُّمنة إلى زيادة مخاطر الإصابة بالنّوبات القلبيّة والسّكتات الدماغيّة، بالإضافة إلى الخرف في وقتٍ لاحقٍ من الحياة؛ لذلك يُنصَح بالحفاظ على نظامٍ غذائيٍّ صِحّيّ ومتوازنٍ.
تُحفّز المشاركة في المناسبات الاجتماعيّة الدّماغ، وتقلِّل من خطر الإصابة بالخرف أو الاكتئاب. إذا كانت هذه الأحداث تنطوي أيضًا على نشاطٍ بدنيّ، فذلك جيّدٌ جدًّا.
ونصيحة أخيرة- إذا قمتم بتحدّي الدّماغ بواسطة إضافة مُحفِّزات جديدة، فإنّ الرّوابط بين الخلايا العصبيّة تصبح أقوى. هذا قد يبطّئ من تدهور قدرات التّفكير. أظهرت الدّراسات أنّ معرفة لغة أخرى قد تُؤخّر تطوّر الخرف بخمس سنوات. يؤدّي حلّ ألغاز السّودوكو والمنطق أيضًا إلى تدريب الذّاكرة العاملة وتأخير تدهوُرها. لذا، اِجمعوا أصدقاْءكم وعائلتكم، واجلسوا لحلّ اختبارات غسيل الدّماغ، فهذا سيعود عليكم بالفائدة.
محتوى المقال لا يُشكّل بديلا للاستشارة الطبيّة لدى مختصين.