يرتبط الدوبامين بمرض باركنسون ولكنّه يرتبط أيضًا بالفصام، ويشارك في عمليّات التعلّم والحركة ويحدّد ما نشعر تجاهه بالرضا وما الّذي ندمن عليه. وسيط الدماغ متعدّد الوظائف

الدوبامين هو ناقل عصبيّ (neurotransmitter)، أي مادّة كيميائيّة تستخدم للتواصل بين الخلايا العصبيّة. يتكوّن دماغنا من الكثير من الخلايا العصبيّة، ولكن ليست جميعها تتواصل مع بعضها البعض. لكي يكون هناك اتّصال بين خليّتين، يجب أن يتشكّل بينهما تقاطع عصبيّ أحادي الاتّجاه، يُسمَّى أيضًا المشبك العصبيّ (synapse)- وهو عبارة عن مساحة ضيّقة بين الخلايا، تفرز فيها الخليّة العصبيّة ناقلًا عصبيًّا لتستقبلها خليّة عصبيّة ثانية بمستقبلات معيّنة وتتفاعل وفقًا لذلك. على الرغم من أنّ عدد الخلايا العصبيّة الّتي تنتج وتفرز الدوبامين ليس مرتفعًا، وتتركّز في مناطق شديدة التركيز في الدماغ، إلّا أنّ الدوبامين المفرز يصل إلى أجزاء كبيرة من الجهاز العصبيّ المركزيّ ويؤثّر في مجموعة واسعة من المواقف والسلوكيّات.

ينتمي الدوبامين إلى مجموعة الأمينات الأحاديّة، وهي مادّة كيميائيّة قريبة من هورمون الأدرينالين والناقل العصبيّ السيروتونين. هذه كلّها جزيئات صغيرة مصنوعة من حمض أمينيّ واحد يخضع لتغيّرات كيميائيّة. تشتهر الأحماض الأمينيّة بكونها أحجار البناء الأساسيّة للبروتينات في أجسامنا، لكنّها في هذه الحالة تأخذ دور الرسول الّذي يتوسّط بين الخلايا العصبيّة. بدأ استخدام الدوبامين كناقل عصبيّ في وقت مبكّر جدًّا من التطوّر، وهو موجود في جميع الحيوانات الّتي لديها جهاز عصبيّ.


مادّة كيميائيّة تستخدم للتواصل بين الخلايا العصبيّة. مبنى جزيء الدوبامين | Kateryna Kon, Shutterstock

آليّة العمل

يعتبر الدوبامين مُعدِّلًا (modulator)، لأنّ تأثيره في الخلايا العصبيّة يعتمد على نوع المستقبلات الموجودة في الخليّة المستقبلة. للدوبامين خمسة مستقبلات مختلفة، والّتي تنقسم إلى مجموعتين. النوع الأوّل من المستقبِلات، والمُسمَّى D1، يعتبر محفّزًا (Excitatory)، ما يعني أنّه يميل إلى زيادة وتيرة نشاط خلاياه العصبيّة. من ناحية أخرى، تعتبر مستقبلات D2 مثبّطات (Inhibitory)، ما يعني أنّها تقلّل من وتيرة نشاط الخليّة.

السؤال الّذي يطرح نفسه هو كيف تعرف الخلايا متى يتمّ تفعيل نوع واحد من المستقبلات ومتى يتمّ تفعيل النوع الآخر. تفرز الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين عادة كميّات صغيرة من الدوبامين بمعدّل ثابت. يتمّ امتصاص الدوبامين على الجانب الآخر من المشبك بواسطة مستقبلات D2، الّتي تكون حساسيّتها للدوبامين أعلى بما يصل إلى مائة مرّة من المستقبلات المحفّزة. وبالتالي يظلّ نشاط الخلايا المستقبلة منخفضًا في معظم الأوقات. ولكن عندما يتمّ خلق الوضع المناسب، تنفجر خلايا الدوبامين دفعة واحدة وتفرز كميّة كبيرة من الدوبامين بمعدّل مرتفع. تعمل هذه الحالة على تنشيط مستقبلات D1، ما يزيد من وتيرة نشاط الخليّة العصبيّة.

آليّة العمل هذه لديها تعقيد إضافيّ. إنّ ما يحدّد كميّة الدوبامين في محيط المستقبلات ليس فقط وتيرة إفراز الناقل العصبيّ، بل أيضًا وتيرة التخلّص منه واخلائه من المشبك العصبيّ. تحتوي جدران الخلايا العصبيّة المنتجة للدوبامين على قنوات صغيرة تمتصّ الدوبامين مرّة أخرى إلى الخليّة، وبالتالي تنخفض كميّة الدوبامين في المشبك، وبذلك يقلّ ارتباط الدوبامين بالمستقبلات وتقلّ التغيّرات في النشاط العصبيّ.

ومن المثير للاهتمام أنّ الدوبامين يبدو أنّه يعمل داخل وخارج المشابك العصبيّة. وقد أظهرت الفحوصات الدقيقة للدماغ أنّ مستقبلات الدوبامين وقنوات عودة الدوبامين لا تتواجد فقط في الوصلات العصبيّة نفسها، ولكنّها منتشرة على جدران العديد من الخلايا العصبيّة خارج المشابك العصبيّة أيضًا. ويعتقد الباحثون أنّ هذه الآليّة تطيل الوقت الّذي يؤثّر فيه الدوبامين المفرز في نشاط الدماغ، مقارنة بالتأثير الدقيق والمركّز للانتقال عبر المشابك العصبيّة العاديّة.


يعتمد تأثير الدوبامين في الخلايا العصبيّة على نوع المستقبلات الموجودة في الخليّة المستقبِلة. إفراز ناقل عصبيّ في المشبك | sciencepics, Shutterstock

مرض باركنسون: عندما ينفد الدوبامين

من المعروف منذ سنوات عديدة أنّ الدوبامين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوّر مرض باركنسون- وهو مرض تنكسيّ يصيب الدماغ وعادةً ما تبدأ عوارضه بالظهور في سنّ الشيخوخة، ابتداءً من نهاية العقد الخامس من العمر فصاعدًا. تشمل هذه الأعراض الرعشة والبطء والتصلّب في الحركة وصعوبة التحدّث وغيرها.

تمّ اكتشاف وجود جزيء الدوبامين في الدماغ في سنة 1910، ولكن في البداية افترضوا أنّه مجرّد وسيط في عمليّة إنتاج الموادّ الفعّالة الأخرى، ولم يسند له دور مباشر خاصّ به. لم يكن الدور الحقيقيّ للدوبامين واضحًا إلّا في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، عندما أظهر باحثون من مستشفى رونويل في لندن (Runwell) أنّ النقص الشديد في الدوبامين في أدمغة الفئران أدّى إلى فقدان القدرة على التحرّك بشكل إراديّ (Akinesia). كما وجد أنّ كميّة الدوبامين في مناطق معيّنة من أدمغة مرضى باركنسون منخفضة للغاية. أدّت هذه الاكتشافات إلى المحاولات الأولى لتطوير علاج للمرض، وفي سنة 1967 نجح الباحث جورج كوتزياس في تطوير عقار L-DOPA، الّذي يزوّد الدماغ ببعض الدوبامين الّذي يفتقر إليه، وبالتالي يقلّل من أعراض مرض الباركنسون . لا يزال الدواء يستخدم على نطاق واسع حتّى يومنا هذا.

يبدأ الخلل في الخلايا الّتي تفرز الدوبامين والموجودة في بنية المادّة السوداء (substantia nigra) في الدماغ الأوسط. هذه الخلايا العصبيّة تخرج إلى الجسم المخطّط (striatum)، وهي منطقة دماغيّة ذات صلة بالرقابة الحركيّة. في الفئران، على سبيل المثال، ترسل خليّة عصبيّة واحدة في هذا المسار إشارة عصبيّة لمسافة نصف متر، ويمكن أن تخلق مئات الآلاف من الروابط مع خلايا الجسم المخطّط. تشير التقديرات إلى أنّه في الدماغ البشريّ، تكون هذه الخلايا أطول ويمكن أن يصل عدد التشابكات الّتي تكوّنها إلى مليون. يعتقد الباحثون أنّ الحمل الّذي تمارس على هذه الخلايا يزيد من ضعفهم،وأنّ موتهم الجماعيّ يؤدّي إلى مرض باركنسون. نظرًا لأنّ الأدوية الخاصّة بالمرض تستند إلى زيادة كميّة الدوبامين في الدماغ، فإنّ لها بعض الآثار الجانبيّة، حيث يشارك الدوبامين في العديد من طرق نقل الإشارات العصبيّة في الدماغ.

بالإضافة إلى مرض باركنسون، يرتبط عدم التوازن في نظام الدوبامين أيضًا بالفصام (schizophrenia). تشمل الأعراض الرئيسة للمرض انفصام الشخصيّة، والأوهام، واضطراب التفكير، وانخفاض الشدّة العاطفيّة، ومشاكل في الذاكرة. لا تزال الآليّة الدقيقة الّتي تربط الدوبامين بهذا المرض النفسيّ الحادّ غير واضحة، ولكن من الناحية العمليّة، تتنافس جميع أدوية هذا المرض الفعّالة مع الناقل العصبيّ للارتباط بمستقبِلات من نوع D2. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الموادّ الّتي تزيد من نشاط الدوبامين، مثل L-DOPA وبعض الأدوية الأخرى، تؤدّي إلى تفاقم أعراض الفصام. علاوة على ذلك، يمكن أن تسبّب الجرعات العالية أعراضًا تشبه أعراض الفصام حتّى لدى الأشخاص السليمين. وجد تشريح الجثث بعد الموت أنّ أدمغة مرضى الفصام تحوي كميّة زائدة من الدوبامين والموادّ المماثلة.


يتمّ التعرّف على المنطقة من خلال الشعور بالمتعة المرتبطة بالحصول على المكافأة. النواة المتّكئة في الدماغ (nucleus accumbens septi) | MattL_Images, Shutterstock

التعلّم والإدمان

تمّ العثور على تركيز آخر من الخلايا المنتِجة للدوبامين في منطقة تُسمَّى السقيف البطنيّ. ترسل هذه الخلايا فروعًا إلى مناطق في الجهاز الحوفيّ (Limbic System) للدماغ، والمسؤول عن الاستجابات العاطفيّة ومعالجة العواطف، وإلى القشرة الدماغيّة المرتبطة بالعمليّات المتقدّمة لمعالجة المعلومات والتفكير.

يرتبط المسار الأوّل بالتعلّم، وخاصّة التعلّم الترابطيّ الّذي يربط التعزيز الإيجابيّ بالتحفيز المحايد في البيئة أو في سلوك الكائن الحيّ. وخلافًا لما كان يعتقد سابقًا، لا يتمّ إفراز الدوبامين تلقائيًّا استجابة للتعزيز الإيجابيّ، ولكن عندما تكون المكافأة غير متوقّعة. بالإضافة إلى ذلك، يتمّ إفرازه عندما يظهر حافز يبشّر بمكافأة على وشك الوصول، وينخفض ​​مستوى الدوبامين عندما لا تصل المكافأة الّتي توقّعها الحيوان.

دفعت هذه النتائج الباحثين للإشارة إلى هذه الآليّة على أنّها "خطأ في التنبّؤ بالمكافأة" (Reward prediction error)- وهو مفهوم مستعار من علوم الحاسوب. تمّ تصميم هذه الآليّة للتنبّؤ بالوقت المحتمل للحصول على المكافأة الّتي يهتمّ بها الكائن الحيّ، حتّى يتمكّن من توجيه سلوكه وفقًا لذلك. سيعمل الحيوان بجهد أكبر إذا علم أنّ ذلك سيؤدّي إلى المكافأة وسيتوقّف عن المحاولة عندما يدرك أنّ السلوك لن يؤدّي إلى المكافأة المطلوبة.

نظام التعلّم الموصوف هنا هو نظام فعّال للغاية يتيح التعلّم السريع والمرِن، ولكن له أيضًا جانب مظلم. تسبّب العديد من السموم المُخِلّة بالنفْس إلى فرط نشاط نظام الدوبامين. يؤدّي تحفيز النظام إلى شعور قويّ بالمتعة، والّذي يصاحب إطلاق الدوبامين ويحفّز الشخص الّذي تناول السمّ على تكرار نفس التصرّف من أجل استعادة هذا الشعور اللطيف. هذه هي الطريقة الّتي تؤدّي إلى الإدمان على المخدّرات.

يؤدّي الاستخدام المتكرّر للأدوية الّتي تنشّط نظام الدوبامين إلى تطوّر القدرة على تحمّل الدواء (Drug tolerance)، ما يعني أنّه يلزم زيادة الجرعة للوصول إلى نفس الشعور اللطيف. بالإضافة إلى ذلك، تعمل آليّات التوازن على خفض مستوى الدوبامين في الدماغ استجابة للإفراز الزائد، بحيث يتمّ إنشاء الاعتماد على المخدّرات للحفاظ على الأداء اليوميّ الطبيعيّ فقط. ويحاول بعض الباحثين معرفة ما إذا كان نظام الدوبامين مرتبطًا أيضًا بأنواع أخرى من الإدمان، مثل إدمان القمار أو التسوّق أو إدمان شبكات التواصل الاجتماعيّ، لكنّ هذا لا يزال يتطلّب المزيد من البحث.

مثل العديد من العمليّات الأخرى في أجسامنا، يجب أيضًا أن يحدث إفراز الدوبامين في الدماغ بالكميّة المحدّدة وفي التوقيت المناسب. الدوبامين هو ناقل عصبيّ يلعب دورًا مركزيًّا في مجموعة متنوّعة من الأنشطة اليوميّة، مثل الحركة والتعلّم، ويمكن أن يثير إفرازه مشاعر إيجابيّة مثل الترقّب والإثارة. ولا عجب أن يؤدّي أيّ خلل في نشاطه إلى عواقب بعيدة المدى، وحتّى إلى تلف لا رجعة فيه في الدماغ بسبب التعرّض للمخدّرات، أو لأمراض خطيرة مثل أمراض الباركنسون والفصام.

 

0 تعليقات