تستطيع نماذج الذكاء الاصطناعيّ الجديدة تحليل قواعد بيانات ضخمة لأنواع الفيروسات المختلفة، الحيوانات الحاملة لها وقربها من البشر، وبالتالي تحسين فرصنا في تنبّؤ الوباء القادم

تسبّب فيروس كورونا في أصعب جائحة عالميّة في القرن الماضي. حالات تفشّي سابقة وأقلّ انتشارًا شملَت:  إنفلونزا الطيور، السارس، الإيبولا، ومرض جدري القرود الّذي برز في عناوين الصحف مؤخّرًا، على الرغم من أنّه لم ينتشر على نطاق واسع في البلدان المتقدّمة.

تنبّأ العلماء منذ فترة طويلة عقب التغيّرات المناخيّة المتعاظمة، زيادة عدد سكّان العالم، تقلّص موائل الحيوانات البريّة ودفعها نحو مراكز التجمّعات البشريّة، كما وتنبّؤوا بظهور وباء مثل الكورونا، بل وتنبّؤوا بحدوث أوبئة مشابهة له بعد ذلك. في العقود القادمة، من المتوقّع حدوث أوبئة ناتجة عن انتقال فيروسات جديدة من الحيوانات إلى البشر بوتيرة أعلى أكثر من ذي قبل. سيكون بعضها محدودًا أو أقلّ عنفًا من الكورونا، لكنّ البعض قد يكون أسوأ منه، سواء في درجة العدوى أو درجة الفتك.

يحاول العلماء بناء نماذج لتحذّر من تفشّي فيروسات محتمل، وقد استعانوا مؤخّرًا بالذكاء الاصطناعيّ. يجب أن يبحث هذا الذكاء عن التهديدات الخطيرة ويحدّدها بسرعة، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من التطوير حتّى تنضج هذه التكنولوجيا.


أظهرت إنفلونزا الطيور الّتي ظهرت عام 1997 انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى البشر. دجاج في الحظيرة | Philippe Benoist, Eurelios, Science Photo Library

أساس الجهود: موسوعة فيروسات

إذا تعرّفنا على مجموعة الفيروسات الموجودة لدى الحيوانات بشكلٍ أفضل، بحثناها وقمنا بتحضير "موسوعة فيروسات"، تركّز وتتيح المعلومات المتعلّقة بها، فسنكون قادرين على معرفة الفيروسات الّتي قد نتعامل معها، حتّى قبل تحوّلها إلى أوبئة تصيب البشر. على سبيل المثال، إذا حدّدنا مكانًا في العالم به فيروس يمكن أن يتسبّب في حدوث وباء، فيمكننا تطبيق القيود والسيطرة على المنطقة مسبقًا. كما ويمكننا الحدّ من الاتّصال بين البشر والحيوانات البريّة، أو إنشاء ظروف صحيّة لهذه المناطق ومراقبة الامتثال لها، وبالتالي منع تفشّي المرض. سيتمكّن العلماء من بدء الدراسة الأوّليّة للفيروسات المشتبه بها من أجل تسريع تطوير اللقاحات والأدوية والعلاجات الداعمة في حالة حدوث وباء، وبالتالي إنقاذ العديد من الأرواح.

لهذا الغرض، تمّ إطلاق مشروع PREDICT الدوليّ في سنة 2009، والّذي تمّ تمويله بمبلغ 200 مليون دولار من قبل الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة (USAID). يستمرّ المشروع حتّى سنة 2020، وحدّد الباحثون 949 فيروسًا جديدًا أصاب البشر، حيوانات المزرعة والبريّة في 34 دولة.

توقّعت إحدى الدراسات في المشروع، والّتي نُشرت سنة 2017، انتشار جائحة كورونا: قدّرت الدراسة وجود الآلاف من فيروسات كورونا غير المكتشفة في أجسام الخفافيش، وتوقّعت أن تكون منطقة جنوب شرق آسيا هي الموطن الأكثر تنوّعًا للفيروسات من العائلة الّتي تحتوي على فيروس SARS-CoV-2، والّذي سيتسبّب في انتشار جائحة الكورونا. وحدّدت الدراسة أنّه في الأماكن الّتي يوجد فيها اتّصال مكثّف بين البشر والحيوانات البريّة، تكون فيروسات كورونا شائعة بين الخفافيش، ويبدو أنّ أصل الجائحة في سوق بمثل هذه المنطقة.

فحصت دراسة أخرى التوافق بين سلالات الفيروس والحيوانات الّتي تصيبها. قال عالم البيئة كيفين أوليفال (Olival) من جمعيّة EcoHealth Alliance في نيويورك، والّذي قاد الدراسة، لمجلّة Nature: "كان الهدف معرفة أيّ الفيروسات قادر على إصابة البشر، ومن أيّ الحيوانات نحصل على معظم الفيروسات الجديدة وما هي العوامل الكامنة وراء هذه الأنماط". وجدت الدراسة علاقة بين تواتر العدوى البشريّة والقرب البيولوجيّ من الحيوانات المعدية وبين العوامل الّتي تؤثّر في مستوى الاتّصال بين البشر والحيوانات البريّة في تلك المناطق، مثل كثافة السكّان البشريّين في موطن الحيوانات البريّة. 

استخدم فريق البحث نماذج إحصائيّة للتنبّؤ بالحيوانات الّتي من المحتمل أن تكون حاملة للفيروسات حيوانيّة المنشأ، وتلك الّتي قد تنتقل من الحيوانات إلى البشر، وفي أيّة مناطق من المحتمل أن يحدث هذا. كانت الحيوانات المهمّة في هذا السياق هي الخفافيش والقوارض والرئيسيّات- القردة العليا مثل إنسان الغاب والشمبانزيّ- وشملت المناطق المهمّة، أمريكا الجنوبيّة، أفريقيا وجنوب شرق آسيا. كما وحدّد الباحثون أيضًا بعض خصائص فيروس حيوانيّ المنشأ، على سبيل المثال مجموعة الأنواع الّتي يمكن أن يصيبها.


توقّعت إحدى دراسات المشروع في سنة 2017 انتشار جائحة كورونا. فيروس كورونا |  الصورة: Kateryna Kon, Science Photo Library

قيود مفصليّة

رغم جميع إنجازاته، كان PREDICT برنامجًا قيد التشغيل فقط. وفقًا لأوليفال، كان نطاق الفيروسات الّتي غطّاها "نقطة في بحر". اقترح العلماء في سنة 2016 إنشاء مشروع فيروسات عالميّ بشراكة دوليّة مع حكومات وهيئات غير حكوميّة بهدف مواصلة البحث. كان من المفترض أن يحدّد المشروع المكمّل معظم سلالات الفيروس الموجودة في الثدييات والطيور، حيث إنّ هذه هي المجموعات الّتي تنتقل منها معظم الفيروسات إلى الإنسان، لكنّ المشروع لم يحظَ بتمويل ولم يتمّ تنفيذه.

ادّعى الباحثون الّذين عارضوا المشروع بأنّه مشروع مستحيل. عدد الفيروسات الموجودة حاليًّا لدى الثدييات والطيور ليس معروفًا، ولا يوجد إجماع فيما يتعلّق بالتقديرات. يقدّر بعض العلماء أنّ العدد يبلغ حوالي 1.67 مليون، منها 320 ألفًا على الأقلّ في الثدييات وحدها. بحلول عام 2020، تمّ تحديد حوالي 4000 فيروس فقط، وهي تتغيّر بسرعة، لذلك لن يكون الجهد البحثيّ لمرّة واحدة كافيًا وسيكون من الضروريّ بذل جهود كبيرة بشكل دوريّ لتحديث قاعدة البيانات.

قيل ضدّ المشروع أيضًا، إنّه حتّى لو تمّ فكّ شفرة التسلسل الجينيّ للفيروس، فهناك عوامل غير معروفة قد تؤثّر في احتماليّة تسبّبه في حدوث وباء، مثل عامل العدوى في البشر. إضافة إلى ذلك، هناك تحيّز في أخذ العيّنات في الدراسات: هناك وقت وموارد للبحث بعمق فقط بنسبة ضئيلة جدًّا من مجموعة متنوّعة من الفيروسات الموجودة، والميل هو دراسة عائلات الفيروسات الّتي انتقلت بالفعل إلى البشر. هذا منطقيّ عند البحث عن علاج أو لقاح لفيروس منتشر، لكنّه لا يساهم في التنبّؤ بالوباء التالي وقد يصرف الانتباه عن اتّجاهات بحثيّة أخرى لا تقلّ منطقيّة.


يستخدم البحث نماذج إحصائيّة للتنبّؤ بالحيوانات الّتي من المحتمل أن تكون حاملة للفيروسات والّتي يمكن أن تنتقل إلى البشر، وأين. لحم خفافيش للبيع في السوق في إندونيسيا |  Sony Herdiana, Shutterstock

يُحدّد الذكاء الاصطناعيّ الأولويّات

 قد يساهم الذكاء الاصطناعيّ في مثل هذه الحالات. يمكن أن تستغرق دراسة فيروس واحد وقتًا طويلًا، في حين يستطيع الذكاء الاصطناعيّ تحديد الأهداف الّتي بأولويّة عالية للبحث المعمّق، حين يتوفّر لديه القليل من المعلومات سهلة المنال. غالبًا ما يكون أوّل ما يتمّ اكتشافه في الفيروس الجديد هو تسلسله الجينيّ، ويتطلّب الحصول على هذه المعلومات من ساعات إلى أيّام معدودة.

طوّر عالم الفيروسات الحاسوبيّ ناردوس مولينتز (Mollentze) من جامعة غلاسكو نموذجًا يُستخدم كمعيار للتشابه الجينيّ للفيروس مع أجزاء من الحمض النوويّ DNA البشريّ. المنطق وراء هذا المعيار هو أنَّ الفيروسات أثناء تطوّرها، تطوّر مقاطع جينيّة مماثلة لتلك الموجودة لدى المضيف، تتكاثر بشكل أفضل أو تختبئ من جهاز المناعة بشكل أفضل. تمّ اختبار النموذج على حوالي 900 فيروس وتمكّن من التحديد بدقّة 70 في المائة أيّ الفيروسات حيوانيّ المصدر.

واصل مولينتز الدراسة مع باحثين من معهد فيرينا (Verena) في الولايات المتّحدة، دَمَج في النموذج قدرة الفيروسات على تعلّم العيش في بدائل وتحسين دقّة النموذج إلى حوالي 80 في المائة. الأمل هو أنّه سيكون من الممكن في المستقبل جمع المعلومات حول التفاعل بين الفيروس والمُضيف على المستوى الجزيئيّ.

ليست كلّ النماذج فعّالة بنفس القدر. هناك نماذج تعلّمت تصنيف الحالات وفقًا للأنماط فقط، وستجد صعوبة في التنبّؤ بالحالات الجديدة. في المقابل، هناك نماذج قادرة على استنتاج أسباب هذه الأنماط وستكون أكثر نجاحًا في التنبّؤ. من الصعب التفريق بين أنواع النماذج، والقدرة على القيام بذلك ضروريّة. كولين كارلسون (Carlson)، عالم الأحياء في جامعة جورجتاون في واشنطن والّذي يدير معهد فيرينا،قال ذلك  في مقابلة مع Nature بهذه الطريقة: "هذا هو السؤال: هل نقوم فقط بتعليم الآلات لتكرار ما تعرفه، أم إنّها تتعلّم المبادئ الّتي يمكنها أخذها لمساحات جديدة؟".


يستخدم نموذج مولينتز التشابه الجينيّ للفيروس مع أجزاء من الحمض النوويّ DNA البشريّ. يتمّ اختبار خفّاش لوجود فيروس الإيبولا | Philippe Psaila, Science Photo Library

التحدّي: جمع المعلومات المقطعيّة

تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعيّ إلى قاعدة بيانات كبيرة وعالية الجودة للقيام بأدائها بأكمل وجه. يحتاج النموذج للتنبّؤ بما إذا كان فيروس معيّن حيوانيّ المنشأ إلى التدرّب على العديد من الأمثلة المتنوّعة. يجب أن تشمل الفيروسات الّتي تمّ نقلها إلى البشر والفيروسات الّتي لم تنتقل. يجب أن تتضمّن تمثيلًا مناسبًا يلغي التحيّز المتأثّر بالعوامل الخارجيّة مثل مدى تعرّض البشر للفيروس. في علم الفيروسات، المعلومات قليلة وتفتقر إلى التنوّع الموجود في الواقع. تحدث القليل من التسرّبات كلّ عام، ما يجعل من الصعب على الخوارزميّات التعلّم والتنبّؤ بالمستقبل بشكل فعّال. يقرّر العلماء على أيّ الفيروسات سيتمّ جمع المعلومات، بناءً على معرفتهم بأعظم المخاطر.

من أجل تدريب النماذج على النحو الأمثل، يجب جمع المعلومات حول التوزيع الجغرافيّ للفيروسات وتصنيفها- التقسيم إلى مجموعات وفقًا للخصائص المشتركة، والّتي تشمل التقسيم إلى فئات، عائلات وأنواع. لهذا الغرض، لا ينبغي أن نركّز على الفيروسات الّتي نعتقد أنّها ستكون خطيرة، ولكن على المناطق والعائلات الّتي نعرف عنها أقلّ قدر ممكن من المعلومات.

للاقتراب من تحقيق الهدف، هناك حاجة إلى التعاون بين العلماء ومؤسّسات البحث في جميع أنحاء العالم، تدفّق حرّ للبيانات وبروتوكولات موحّدة متّفق عليها لجمع البيانات. هنا تكون العقبات سياسيّة وثقافيّة أكثر منها علميّة، على سبيل المثال عدم الثقة بين البلدان، ترتيب الأولويّات العامّة المتضاربة، والمحفّزات  الأكاديميّة الّتي تفضّل النشر على جمع البيانات بنطاق واسع. الحلول للتغلّب على هذه العقبات هي أيضًا سياسيّة وثقافيّة أكثر منها علميّة. حول هذا الموضوع، قال أوليفال لمجلّة Nature: "هذه هي القضيّة المركزيّة، وللتعامل معها، فإنَّ بناء الثقة مطلوب. نحتاج إلى التأكّد من أنّنا نقدّم مقابلًا، ليس فقط في اللقاحات ولكن أيضًا في التدريب وبناء القدرات والشراكة في المقالات".


من أجل أن يكون الذكاء الاصطناعيّ قادرًا على تقديم تنبّؤات دقيقة، فإنَّ التعاون الوثيق والثقة المتبادلة بين العلماء والمؤسّسات البحثيّة والحكومات أمر ضروريّ. رسم توضيحيّ للبشر، العلاقات ونقاط الاتّصال بينهم  | Immersion Imagery, Shutterstock

الذكاء الاصطناعيّ يصنّف الفيروسات

يتمثّل الطموح في أن توفّر النماذج المحوسبة الأدوات المتاحة لمساعدة صانعي القرار وعامّة الناس لفهم ما هي التهديدات الكبيرة من الفيروسات حيوانيّة المنشأ وأيّ الأوبئة قد تنتشر مُسبَقًا. في مرحلة أكثر تقدّمًا، قد نتمكّن من استخدام الذكاء الاصطناعيّ أيضًا لتصنيف الأوبئة المحتملة وفقًا لدرجة خطورتها واستثمار الموارد والجهود وفقًا لذلك. علَّمنا فيروس كورونا مدى أهميّة الفترة الزمنيّة في بداية الوباء من أجل كبح جماحه.

هناك حاجة إلى مزيد من البحث لبناء قواعد معلومات خاصّة بالفيروسات وفهم الخصائص الّتي تسمح لنموذج الذكاء الاصطناعيّ بتطوير قدرة تنبّؤيّة عالية. ومع ذلك، حتّى عندما تنضج التكنولوجيا، فمن المحتمل ألّا  تتنبّأ بدقّة بكلّ تفشِّ. الأمل هو أن نتمكّن من التنبّؤ بالأوبئة بالطريقة الّتي نتنبّأ بها بحالة الطقس: تضييق مساحة الاحتمالات من مجموعة واسعة وغير معروفة إلى عدد صغير من السيناريوهات الواقعيّة وقياس احتماليّة كلّ سيناريو بشكل أفضل.

 

0 تعليقات