لقد تحوّلت اللّقاحات ضدّ السّرطان على مرّ السّنين، من فكرة مستحيلة إلى طريقة تساعد في تعليم الجهاز المناعيّ في التّعرّف إلى الخلايا الخبيثة والقضاء عليها
أدّت جائحة كورونا إلى زيادة الوعي العامّ بمجال اللّقاحات وأظهرت أهمّيّتها في حياتنا - ليس فقط في الرّحلات إلى خارج البلاد، في مراكز رعاية الطّفل أو خلال موسم الأنفلونزا الموسميّة، إنّما كإجراء منقذ للحياة. لكن لا تقتصر اللّقاحات فقط على مكافحة الفيروسات والبكتيريا الّتي تغزو أجسامنا من الخارج، بل يمكنها أيضًا مساعدتنا في تصدّي خطر يأتي من الدّاخل - السّرطان.
يُمكِّن اللّقاح من لقاء آليّات دفاع الجسم مع عامل مرض محتمل بطريقة خاضعة للرّقابة (مدروسة)، وتدريبها على التّعرّف إليه وتدميره. تُنتج المواجهة الخاضعة للرّقابة ذاكرة مناعيّة تُمكِّن من شنّ هجوم فعّال في مواجهة التّهديد التّالي.
تتواجد في صلب الاستجابة المناعيّة خلايا الدّم البيضاء، الّتي تسمّى خلايا مقدّمة للمستضدّ. وظيفتها ابتلاع أيّ جسم غريب يدخل أجسامنا - على سبيل المثال بكتيريا، فيروسات، فطريّات أو طفيل - هضمه، وتقديم أجزاء منه إلى خلايا الدّم البيضاء الأخرى الّتي تسمّى الخلايا التّائيّة (T cells).
يولِّد هذا اللّقاء عمليّة تشجّع نوعًا ثالثًا من الخلايا المناعيّة، تسمّى الخلايا البائيّة (B cells)، على إنتاج أجسام مضادّة - جزيئات وظيفتها التّعرّف إلى الغزاة وتوجيه الخلايا المناعيّة لتدميرها. تؤدّي العمليّة، أيضًا، إلى إنتاج خلايا مناعيّة قاتلة إضافيّة تعمل ضدّ مسبّب المرض. إضافة إلى ذلك، يقوم الجهاز المناعيّ بتخزين الخلايا البائيّة والتّائيّة الّتي تتمثّل مهمّتها في الاحتفاظ بالذّاكرة المناعيّة ضدّ الغزاة، لكي تعمل بكفاءة وبسرعة في المرّة القادمة الّتي تواجه فيها مسبّب المرض نفسه.
تعمل لقاحات علاج السّرطان واللّقاحات ضدّ الفيروسات أو البكتيريا بطريقة مماثلة: فهي تُلاقي (تجمع) بين جهاز المناعة لدينا مع نسخة غير ضارّة من مسبّب المرض - على سبيل المثال، بكتيريا مماتة أو ضعيفة أو بعض بروتينات مسبّب المرض - وهكذا يتمّ تنشيط الخلايا المقدّمة للمستضدّ. ولكن في حين أنَّ الهدف من اللّقاحات الكلاسيكية منع الإصابة بالمرض، فإنَّ معظم اللّقاحات المضادّة للسّرطان مصمّمة لتحفيز جهاز المناعة على مهاجمة مرض موجود بالفعل. في الوقت نفسه، نظرًا لأنَّ بعض أنواع السّرطان قد تتفشّى بعد الإصابة بالفيروسات، فإنَّ اللّقاحات الّتي تحمي منها قد تمنع تطوّر بعض الأورام السّرطانيّة.
تمّ تصميم معظم اللّقاحات ضدّ السّرطان لتحفيز جهاز المناعة على مهاجمة مرض موجود بالفعل | الرّسم التّوضيحيّ: JUAN GAERTNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY
أوائل لقاحات السّرطان
منذ حوالي 150 عامًا، لاحظ الطّبيبان الألمانيّان فريدريش فيليزن (Fehleisen) وويلهلم بوش (Busch) تراجعًا تلقائيًّا للأورام لدى مرضى السّرطان الّذين أُصيبوا بمرض جلديّ معدٍ "الـحُمرَة"، الّذي تسبّبه بكتيريا العِقْديّة المقيِّحة Streptococcus pyogenes. في عام 1868، أصاب (أَلصقَ) بوش مريضًا بالسّرطان بـالـحُمرَة ورأى أنَّ الورم الخبيث تقلّص. أعاد بليزن العلاج عام 1882 وحدّد أيضًا البكتيريا المسبّبة للمرض.
بعد بضع سنوات، بدأ الطّبيب ويليام كولي (Coley) من مستشفى ميموريال في نيويورك، الّذي تابع نشرات أسلافه العلميّة، بتلقيح المرضى المصابين بسرطان الأنسجة الضّامّة (السرقوم) ببكتيريا العِقْديّة المقيِّحة. بعد 15 عامًا من هذه العلاجات، أدلى برأيه قائلًا: "هناك أدلّة مقنعة على أنَّ بكتيريا العِقْديّة المقيِّحة تمتلك قدرة علاجية قويّة ضدّ أورام السرقوم".
على مدى الأربعين عامًا التّالية، حقن كولي أورامًا لأكثر من ألف مريض بالسّرطان ببكتيريا العِقْديّة المقيِّحة وأنواع بكتيريا أخرى وأبلغ عن نتائج ممتازة، خاصّة في أورام الساركومة العظمية والأنسجة الرّخوة. لكن قوبلت طريقته في العلاج بالكثير من الانتقادات، حيث وجد الأطبّاء الآخرون صعوبة تحقيق النّجاح نفسه مع مرضاهم. أدّى دمج النّقد تجاه العلاج وظهور أوّل عقاقير العلاج الكيميائيّ والعلاج الإشعاعيّ لمرضى السرطان إلى تحويل تركيز البحث الطّبّيّ في السّرطان إلى اتّجاهات أخرى.
اِفترض كولي أنَّ العدوى تسبّبت في حدوث استجابة مناعيّة في أجسام المرضى، الّتي كانت قويّة بما يكفي لتقليص الورم. على الرّغم من أنّه هو نفسه لم يفهم بالضّبط كيف يحدث هذا، فقد وضعت دراسته الأساس للمجال الطّبّيّ الّذي نسمّيه اليوم العلاج المناعيّ - تجنيد الجهاز المناعيّ للمريض ضدّ ورم السّرطان. لهذا السّبب، يعتبر في أيّامنا أبا العلاج المناعيّ.
نعرف اليوم حقيقة مفادها أنّه عندما حقن كولي البكتيريا في بيئة الورم السّرطانيّ، قام بتنشيط الخلايا المقدّمة للمستضدّ الموجودة في المنطقة | الصّورة: KATERYNA KON / SCIENCE PHOTO LIBRARY
نعرف اليوم حقيقة مفادها أنّه عندما حقن كولي البكتيريا في بيئة الورم السّرطانيّ، قام بتنشيط الخلايا المقدّمة للمستضدّ الموجودة في المنطقة. تحتاج هذه الخلايا إلى "إشارة خطر" للتّواصل مع الخلايا التّائيّة وتجنيد جهاز المناعة للعمل. إنَّ وجود البكتيريا في بيئة النّموّ يزوّدها بالإشارة اللّازمة، فتسارع إلى عرض جميع الجزيئات الّتي ابتلعتها.
نظرًا لأنَّ بيئة الورم مليئة بالبروتينات السّرطانيّة من الخلايا السّرطانيّة، يتمّ تنشيط جهاز المناعة ليس فقط ضدّ البكتيريا نفسها، ولكن أيضًا ضدّ الخلايا القريبة من بؤرة العدوى البكتيريّة. في علاج كولي، كانت الخلايا السّرطانيّة هي الّتي تمّت مهاجمتها من قبل جهاز المناعة.
لقاح وقائيّ
يمكن أن تكون لقاحات السّرطان وقائيّة أو علاجيّة. تمّ تصميم اللّقاحات الوقائيّة لجعل تطوّر السّرطان أصعب في بداياته. وأبرز مثال على مثل هذه اللّقاحات هو اللّقاح الّذي يُعطى للأطفال اليوم ضدّ فيروس الورم الحليمي البشريّ (HPV)، وقد ارتبطت بعض سلالاته بتطوّر سرطان عنق الرحم، فتحة الشّرج، البلعوم، المهبل، القضيب والفرج.
في الواقع، تنجم معظم أنواع سرطان عنق الرّحم عن الإصابة بفيروس الورم الحليمي. يساعد تطعيم الأطفال والشّباب ضدّ الورم الحليمي على حمايتهم لاحقًا في الحياة من سرطان عنق الرّحم وأنواع سرطان أخرى مرتبطة بالفيروس. توجد اليوم ثلاثة لقاحات ضدّ سلالات مختلفة من فيروس الورم الحليمي البشريّ HPV تمّت الموافقة عليها من قبل إدارة الغذاء والدّواء (FDA).
تمّ تصميم لقاح وقائيّ آخر ضدّ سرطان الكبد لمنع الإصابة بسرطان الكبد بعد الإصابة المزمنة بفيروس التهاب الكبد (Hepatitis B/C). يتعرّض الأشخاص المصابون بعدوى مزمنة (طويلة الأمد) بسبب هذه الفيروسات لخطر متزايد للإصابة بسرطان الكبد، لذا فإنَّ التّطعيم ضدّها قد يقلّل من الخطر. اليوم، هناك لقاح وقائيّ معتمد واحد فقط لسرطان الكبد لدى البشر - لقاح التهاب الكبد B.
لعلّ أبرز مثال على مثل هذا اللّقاح هو اللّقاح الّذي يُعطى للأطفال اليوم ضدّ فيروس الورم الحليمي البشريّ| رسم توضيحيّ: AXEL KOCK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
لقاح علاجيّ
في المقابل، تُعطى لقاحات السّرطان العلاجيّة بعد أن يكون السّرطان قد تطوّر بالفعل، ويكون هدفها تشجيع جهاز المناعة على العمل ضدّه والقضاء عليه. تجمع هذه اللّقاحات الخلايا المقدّمة للمستضدّ مع بروتينات السّرطان، لتحفيز جهاز المناعة على العمل ضدّ أيّة خليّة تحتوي على بروتين السّرطان على سطحها. تبدو هذه مهمّة بسيطة، لكنّها في الواقع معقّدة للغاية.
أوّلًا، علينا اختيار البروتين السّرطانيّ الصّحيح. من ناحية أولى، نودّ أن يكون البروتين موجودًا بكثرة على الخلايا السّرطانيّة، ليسهل تعرّف جهاز المناعة إلى الخلايا الضّارّة والقضاء عليها. من ناحية أخرى، من المهمّ عدم وجود البروتين في الخلايا السّليمة في الجسم، لأنّ مثل هذه الحالة ستؤدّي إلى هجوم على الأنسجة السّليمة وبالتّالي إلى حدوث آثار جانبيّة صعبة.
حاول الباحثون في الثّمانينيّات من القرن العشرين، تطوير لقاحات تحتوي على خلايا سرطانيّة مماته، بهدف الجمع بين الخلايا الّتي تقدّم المستضدّ مع أكبر عدد ممكن من البروتينات من الخلايا السّرطانيّة. لكن في النّتيجة فشلت هذه اللّقاحات في القضاء على الأورام لدى البشر.
بمرور الوقت، تمّ اكتشاف المزيد من البروتينات الموجودة فقط على الخلايا السّرطانيّة، أو الّتي تكون أكثر شيوعًا فيها مقارنةً بخلايا الأنسجة السّليمة. على عكس اللّقاح الّذي يحتوي على خلايا سرطانيّة كاملة، فإنَّ اللّقاحات الّتي تركّز على بروتين واحد تكون أكثر تحديدًا وأسهل في الإنتاج التّجاريّ على نطاق واسع. ومع ذلك، فهي أقلّ فعاليّة في تنشيط جهاز المناعة ضدّ الورم، وهناك احتمال أكبر بأنّ الورم سيطوّر مقاومة للعلاج.
توجّه آخر هو توصيف البروتينات السّرطانيّة النّشطة في ورم المريض المحدّد. تُنشئ هذه البروتينات، الّتي تسمّى المستضدّات الجديدة، نتيجة للطّفرات - تغيّرات نقطيّة في الشّفرة الجينيّة - الّتي تحدث في خلايا الورم لدى المريض، لذلك يمكن اعتبارها بطاقة هويّة فريدة لورم هذا المريض فقط.
يمكن أن يساعد استخدام المستضدّات الجديدة في لقاح السّرطان بشكل كبير من خلال تركيز عمل الجهاز المناعيّ ضدّ الخلايا السّرطانيّة فقط، ولكنّه معقّد للغاية من النّاحية العمليّة ومكلف، لأنّه يتطلّب ملاءمة اللّقاح لكلّ فرد بشكل شخصيّ.
يمكن أنّ يساعد استخدام المستضدّات الجديدة في لقاح السّرطان بشكل كبير من خلال تركيز عمل الجهاز المناعيّ ضدّ الخلايا السّرطانيّة فقط | توضيح: AROL AND MIKE WERNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY
إيجاد المسار الصّحيح
هناك مسألة أخرى لا تقلّ أهمّيّة، وهي إيجاد الطّريقة الأكثر فعاليّة لإحضار البروتين السّرطانيّ إلى الخلايا المقدّمة للمستضدّ. البروتين موجود داخل مكوّن اللّقاح، ويجب حقنه في الجسم، والتّأكّد من وصوله إلى بيئة الورم، وأنّ الخلايا الّتي تقدّم المستضدّ ستبتلعه بنجاعة.
يتمثّل أحد الخيارات، في استخدام لقاح يحتوي على خلايا الورم الكاملة، بروتينات كاملة، أو أجزاء بروتينيّة أقصر تسمّى الببتيدات. يعدّ استخدام الببتيدات أمرًا بسيطًا نسبيًّا واقتصاديًّا للتّطوير، ولكن من النّاحية العمليّة، فعاليّة العلاجات محدودة. على الرّغم من أنَّ إنتاج لقاحات البروتين أغلى من لقاحات الببتيد، إلّا أنّها ذات قدرة أقوى على إثارة استجابة مناعيّة ضدّ الورم.
طريقة أخرى هي استخدام الفيروسات المعدّلة وراثيًّا. طوّرت الفيروسات خلال ملايين السّنين قدرتها على إصابة الخلايا. نظرًا لأنّها عاجزة عن إنتاج البروتينات بأنفسها، فإنّها تستخدم لهذا الغرض آليّات الخليّة الّتي غزتها.
في المختبر، من الممكن القضاء على الخصائص الخطرة للفيروس، وبدلًا من ذلك، تصميم الجين لإنتاج البروتين السّرطانيّ الّذي نريد تعريف الجهاز المناعيّ إليه. بعد حقنه لمريض، يمكن أن تدخل الخلايا المقدّمة للمستضدّ أو الخلايا السّرطانيّة وتدفعه لإنتاج كمّيّة فائضة من البروتين السّرطانيّ. هذه هي الطّريقة التي يتعرّض بها الجهاز المناعيّ للبروتين ويتمّ تنشيطه ضدّه.
ميزة أخرى تستفيد منها هذه اللّقاحات، هي أنَّ مجرّد وجود الفيروس في الجسم يوقظ جهاز المناعة ويزيد من مستوى نشاطه. مثال على هذا اللّقاح، هو لقاح T-VEC، لعلاج سرطان الجلد المتقدّم - وهو سرطان جلد قاتل - الّذي تمّت الموافقة على استخدامه في الولايات المتّحدة عام 2015.
يعتمد اللّقاح على فيروس الهربس المعدّل وراثيًّا الّذي يحتوي على تعليمات لإنتاج بروتين بشريّ ينشّط الخلايا المقدّمة للمستضدّ. عند حقنها في الورم، يدخل الفيروس، من بين أمور أخرى، إلى الخلايا المقدّمة للمستضدّ ويؤدّي إلى إنتاج البروتين الّذي يحفّزها على العمل. علاوة على ذلك، يعرف الفيروس كيف يصيب الخلايا السّرطانيّة ويمكنه التّكاثر فيها فقط، ولكن ليس في الخلايا السّليمة، وهكذا يؤدّي، عمليًّا، إلى قتل الخلايا السّرطانيّة.
لتحسين الفرص للقاء ناجح بين البروتين المستهدف والخلايا المقدّمة للمستضدّ، هناك لقاحات تعتمد على الخلايا المقدّمة للمستضدّ الّتي تمّ استخلاصها من جسم المريض وتكاثرت في المختبر. من المرجّح أن يؤدّي لقاؤهم (جمعهم) الخاضع للرّقابة مع البروتينات أو الفيروس المعدّل إلى دخول البروتين السّرطانيّ إليها. عندما يتمّ إعادة الخلايا إلى جسم المريض، فإنّها تنشّط جهاز المناعة ضدّ البروتين السّرطانيّ. في عام 2010، وافقت إدارة الغذاء والدّواء على أوّل لقاح يستخدم هذه التّقنيّة - Sipuleucelt-T، المخصّص لعلاج سرطان البروستاتا.
وأخيرًا، يمكن تعريف الخلايا المقدّمة للمستضدّ للبروتين السّرطانيّ باستخدام لقاحات mRNA. تحتوي هذه اللّقاحات على سلسلة من الأحماض النّوويّة الّتي تشكّل معًا الأساس لإنتاج البروتين السّرطانيّ. يدخل الـ mRNA إلى داخل الخلايا المقدّمة للمستضدّ ويدفعها إلى إنتاج نسخ عديدة من البروتين السّرطانيّ داخلها.
حظيت لقاحات mRNA بدعاية كبيرة خلال جائحة كورونا، لكنّها كانت قيد التّطوير خلال سنوات عديدة مضت، وتعتبر وسيلة واعدة بشكل خاصّ لتطوير لقاحات ضدّ السّرطان. تُجرى حاليًّا عشرات التّجارب السّريريّة لاختبار فعاليّتها في علاج العديد من أنواع السّرطان، بما في ذلك سرطان البنكرياس، سرطان القولون، سرطان الجلد وغيرها.
تحتوي لقاحات mRNA على سلسلة من الأحماض النّوويّة الّتي تشكّل معًا أساسًا لإنتاج بروتين سرطانيّ | رسم توضيحيّ: BIOLUTION GMBH / SCIENCE PHOTO LIBRARY
قوّات مشتركة
على الرّغم من التّقدّم الكبير في تطوير اللّقاحات ضدّ السّرطان، فإنَّ استخدامها الفعّال يتطلّب الجمع مع علاجات أخرى، لأنَّ فائدتها كعلاج واحد محدودة للغاية. أحد الأسباب الرّئيسيّة لذلك هو أنَّ العديد من الأورام السّرطانيّة تطوّر آليّات تسمح لها بالهروب من جهاز المناعة، وتنشّط الجزيئات الموجودة على سطح الخلايا السّرطانيّة الّتي تثبط (تؤخّر) الاستجابة المناعيّة ضدّها، وتجنّد الخلايا الّتي تثبط جهاز المناعة لصالحها. كلّ هذا يؤدّي في النّهاية إلى استجابة مناعيّة غير فعّالة.
للقضاء على السّرطان من الجذور، يجب مهاجمته بطرق عدّة في الوقت نفسه، ويجب دمج اللّقاح مع علاجات مناعيّة إضافيّة. تتفوّق اللّقاحات في تحريك جهاز المناعة ضدّ الورم، ولكن عادة ما تفشل خلايا الجهاز المناعيّ الّتي يفترض أن تهاجم الورم في التّعامل مع جميع آليّات التّثبيط (التأخير) الّتي يمارسها الورم عليها، وفي النّهاية ينجح الورم في إرهاقه. لمنع هذا الإرهاق، فإنَّ الأكثر فائدة هو الدّمج بين اللّقاح والعلاجات الّتي تعطّل القدرات التّثبيطيّة للورم.
تختبر (تفحص) العشرات من التّجارب السّريريّة حاليًّا ما إذا كان الدّمج بين اللّقاح والعلاجات المناعيّة الأخرى يعمل بشكل أفضل بالفعل. اِختبرت تجربة أجريت في جامعة جونز هوبكنز في الولايات المتّحدة الدّمج بين لقاح GVAX ضدّ سرطان البنكرياس مع العلاج بجسم مضادّ يحيد أحد جزيئات تثبيط (تأخير) الورم.
يعتمد اللّقاح على خلايا الورم المماتة الّتي تمّ تعديلها وراثيًّا لتحفيز جهاز المناعة على العمل ضّد بروتيناتها. شارك في التّجربة 30 مريضًا بسرطان البنكرياس سبق أن عولجوا دون نجاح. تلقّى بعضهم العلاج بالأجسام المضادّة فقط، بينما تلقّى البعض الآخر علاجًا مشتركًا شمل اللّقاح أيضًا.
بعد عام واحد، بقي ثمانية من متلقّي العلاج المشترك على قيد الحياة، مقارنة باثنين فقط من المجموعة الضّابطة. تمّ تصميم التّجربة لاختبار سلامة العلاج المركّب فقط، ولكن نتائجها تفتح مجالًا للتّفاؤل. بالطّبع، هناك حاجة إلى تجربة أكبر لاختبار فعاليّة الدّمج مع المزيد من المرضى.
فحصت تجربة أخرى، أجريت في مستشفى بروكسل في بلجيكا، دمجًا بين لقاح سرطان الجلد مع جسم مضادّ يعمل ضدّ جزيء تثبيط (تأخير) آخر. شارك في التّجربة 39 مريضًا بسرطان الجلد فشلوا في العلاج التّقليديّ. تلقّى جميع المشاركين العلاج نفسه، دون وجود مجموعة ضابطة: لقاحًا يعتمد على إزالة الخلايا المقدّمة للمستضدّ من دم المريض ممزوجًا بجزيئات mRNA لإنتاج بروتينات سرطان الجلد السّرطانيّة.
هنا أيضًا، تمّ تصميم التّجربة لاختبار سلامة الدّمج بين طريقتي العلاج. في نهاية ستّة أشهر، لوحظ تراجع معيّن في أورام 15 من المرضى. بعد ثلاث سنوات إضافيّة، اختفى الورم تمامًا لدى سبعة من المرضى، وأظهر مريض آخر تراجعًا جزئيًّا.
على الرّغم من أنّنا ما زلنا نفتقر إلى صورة سريريّة كاملة وواضحة عن الفوائد الّتي قد ترتبط بمزج لقاحات السّرطان مع العلاجات المناعيّة الإضافيّة، إلّا أنّ النّتائج الحاليّة تفسح المجال للأمل. ولكن لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه للعثور على أكثر التّركيبات فعاليّة لعلاج كلّ نوع من أنواع السّرطان.
مرّ مجال لقاحات السّرطان بالعديد من التّقلّبات في ال 150عامًا الماضية، منذ أيّامه الأولى. نحن اليوم نفهم بشكل أفضل كيفيّة عمل هذه اللّقاحات وكيف يمكن تحسينها، ولكن في الوقت نفسه نكتشف مرارًا وتكرارًا مدى تعقيد بيئة الأورام الخبيثة، وكم تبقّى لدينا لنتعرّف إلى الطّرق الّتي من خلالها تهرب من جهاز المناعة. نأمل أن يوفّر الدّمج بين اللّقاحات وطرق العلاج الأخرى حلًّا شاملًا ومفيدًا قدر الإمكان للمرضى، لأنّ مفتاح النّجاح في المعركة ضدّ عدوّ صعب مثل السّرطان هو العمل بقوّات مشتركة.