التواصل من خلال الرّائحة بين أعشاش النمل، الوميض المتناسق لليراعات، هندسة تحليق الطيور وزحف أسراب الجراد: عن بيولوجيا وفيزياء السلوكيّات الجماعيّة في عالم الحيوان

بالتأكيد توافقون على أنّ غموضًا كبيرًا يكمن في التدفّق الهادئ للحشود. سواء كان ذلك سربًا من طيور الزرزور مبحرًا فوق الحقول، أو نملًا مجتهدًا يعمل على بناء عشّ جديد، أو حتّى خلايا مجهريّة تتحرّك معًا نحو وجهتها. إنّ السّلوك الجماعيّ تلفّه نفحة من التنازل عن الذات لهدف شامل أكبر من مجموعِ أجزائِهِ.

كثيرًا ما أشعل هذا الغموض خيال المبدعين والمفكّرين، من الفترة الرومانيّة القديمة وحتّى هوليوود. كما أنّه وبشكل لا يقلّ عن ذلك، قد أثار فضول الباحثين والعلماء الّذين أرادوا دراسة أنماط السلوك الجماعيّ وفكّ أسراره. ومن يدري؟ فلربّما استطعنا أيضًا تسخير تلك الأنماط لخدمتنا.

ندعوكم لرحلة تشمل أربع محطّات، في علم الاجتماع والبيولوجيا والفيزياء لبعض المجموعات الأكثر إثارة للفضول في مملكة الحيوان. سوف نتعرّف على الدوافع والمبادئ الموجِّهة للسلوك الجماعيّ، وأيضًا على الانحرافات عن النظام القائم.


إنّ السّلوك الجماعيّ تلفّه نفحة من التنازل عن الذات لهدف شامل أكبر من مجموعِ أجزائِهِ. مجموعة أسماك في شعاب البحر الأحمر | Shutterstock, aquapix

تأمَّلْ طرقها وتعلّم

ليس من قبيل الصدفة أنّ النملة قد حظيت بوصفها على أنّها كائنٌ مجتهدٌ: فهي قادرة على حمل أحمال أثقل من وزن جسمها بعدّة أضعاف، وعلى حلّ مشكلات معقّدة- مثلًا، كيفيّة الوصول إلى الطعام بأقصر الطرق– أو في أيّ وقت يسمح الطقس بذلك. تندفع العاملات من العشّ وتعود إليه خلال مساعيهن المختلفة. إنّ البناء الاجتماعيّ-البيولوجيّ الّذي ينتظم فيه النمل- المستعمرة- هو ما يقف في صلب وجودها، وهو ما جلب للنملة تميّزها. وقد كتب عن ذلك الكاتب الفرنسيّ رومان جاري: "كلّ واحدة منهنّ تؤمن بعظمة مهمّتها".

إنّ هيكل مستعمرة النمل القائم على تقسيم طبقيّ صارم، مميّزٌ ونموذجيٌّ جدًّا للحشرات التابعة لسلسلة النحل. وبحسب البروفيسور عوفر باينرمان من قسم فيزياء الأنظمة المركّبة في معهد وايزمان للعلوم، في مقابلة لموقع معهد ديفيدسون، فمن وجهة نظر عائليّة (أي من الناحية الفيلوجينيّة- علم الوراثة العرقيّ)، فإنّ النمل هو نحلٌ بدون أجنحة. مثل النحل، تتميّز مستعمرات النمل بتنظيم اجتماعيّ معقّد للغاية، يُسمَّى اجتماعيّة عُليا (Eusociality). وهو أعلى مستويات التنظيم الاجتماعيّ في تصنيف هرميّ في عالم الحيوان، ويشمل نظامًا معقّدًا لتقسيم الأدوار وآليّات تعاون بين الأفراد في المجتمع.

ما الّذي يحصل عليه النمل من هذا التنظيم- والّذي يعتبره البعض كائنًا حيًّا- فائقًا متعدّد الأفراد؟ وفقًا لباينرمان، فإنّ الطبقيّة الصّارمة تلغي المنافسة بين الأفراد. فالنملة كفرد، ليس لها وجودٌ خاصٌّ بها تقريبًا- فهي تعيش حياتها كعنصر وحيد في المستعمرة، وليس لديها أيّ دافع للتفوّق على زميلاتها- ولا للتمرّد أيضًا. وحدهُ السلوك الجماعيّ، الّذي يتضمّن رعاية ذريّة الآخرين وتقسيم العمل، هو ما يضمن استمراريّة وجود العشّ بأكمله في هذا التنظيم. صحيح أنّ كلّ طبقة تفقد جزءًا من قدراتها، ولكنّ الطبقات مؤتلفة مع بعضها البعض تخلق كيانًا كاملًا أقوى وأكثر متانةً وأذكى من كلّ فرد على حدة. أي إنّ العقد الاجتماعيّ بين الأفراد يجلب الرّخاء.


كيانٌ كاملٌ أقوى وأكثر متانة وأذكى من كلّ فرد على حدة. مستعمرة نمل في مكتب عوفر باينرمان | تصوير: يوناتان بيركهايم

ماذا يحدث لمن يتحدّون هذه البنية المتماسكة؟ وضعٌ كهذا قد يحدث، على سبيل المثال، عندما تهرب بعض الإناث من الفيرومون الملكيّ- رائحة الملكة، الّتي من المفترض، من بين أمور أخرى، أن تبطل قدرتهنّ الإنجابيّة– فتضعنَ أيضًا بيضًا مخصّبًا. لكنّ القاعدة لا تتسامح مع هذه اللعبة المزدوجة: تتعرّف زميلاتهنّ فورًا على البيض غير المعتمَد، فتتخلّصنَ منه أو تأكلنَهُ. ثمّ بعد ذلك تقبضنَ على النملات العاصيات وتعقمهنّ عن طريق عضّ أعضائهنّ التناسليّة، ما يؤدّي في كثير من الأحيان إلى موتهنّ بالتعذيب. تُسمّى هذه العمليّة الوحشيّة خَفارة/ سيطرة/ حفظ للّنظام (Policing)، وكما هو الحال مع كلّ عنصر من عناصر "الحياة النمليّة" في المستعمرة، فهذه العمليّة مُصمَّمة أيضًا للحفاظ على القوّة الجماعيّة.

إنّ التنسيق الّذي يتيح للنّمل التّعاون معًا، فإنّ حاسّة الشمّ لدى النّمل هي المسؤولة عنه إلى حدٍّ كبير. لقد وجدت الدراسات أنّ النّمل من بين العديد من الأنواع الّتي تمّ فحصها، قادرٌ على إنتاج حوالي مئة نوعٍ مختلف من الفيرومونات- جزيئات رائحة متطايرة، تُستخدم للتواصل بين الأفراد. تنقل كلّ رائحة نوعًا مختلفًا من الرسائل، مثلًا رسالة تحذير أو رسالة تعريف، وهناك أيضًا مجموعات مؤتلفة من عدّة روائح تستخدم لنقل رسائل معقّدة. وهو نظامٌ معقّدٌ من الرموز يشبه إلى حدّ ما لغةً تُستَخدَم فيها الرّوائح بدلًا من الكلمات.

يحاول اليوم الفيزيائيّون الّذين دخلوا مجال علم النمل، تطوير نماذِج لوصف سلوك المستعمرة باستخدام أدوات نظريّة من مجالات أخرى. على سبيل المثال، اكتشف الباحث ديفيد هو (Hu)، أنّه وفي ظروف معيّنة، يستطيع النمل إنشاء هياكل ضخمة، مثل الأبراج والطوّافات والجسور، والّتي يمكن بحثها باستخدام الميكانيكا الكلاسيكيّة والهندسة الميكانيكيّة. بينما قام بوريس ريابكو (Riabko) وزانا ريزنيكوفا (Reznikova) بتطوير نموذج لوصف التواصل بالرائحة لدى النمل باستخدام أدوات من نظريّة المعلومات.

باحثون آخرون استخدموا نموذجًا يعتمد على فيزياء الكمّ لوصف الطرق المشتركة لحمل الأحمال الثقيلة في المستعمرة. وقد استخدموا نموذجًا فيزيائيًّا يصف التفاعلات بين الإلكترونات المتجاورة داخل الموادّ الّتي تكتسب خواصّ مغناطيسيّة بوجود مجال مغناطيسيّ خارجيّ (نموذج آيزينج)، وتحديدًا تأثيرات خاصيّة معيّنة للإلكترونات تُدعى باسم اللفّ المغزليّ للإلكترون. قارن الباحثون هذا النموذج بنشاط النمل، ووجدوا أنّ التعليمات المتبادلة الّتي تتناقلها النملات فيما بينهنّ، مثل "اسحب" أو "ارفع"، تتمّ بطريقة مشابهة جدًّا للّفّ المغزليّ. كلّ لفّة مغزليّة تؤثّر في جارتها، وكذلك أيضًا تؤثر كلّ نملة في جارتها.

في هذه الحالة، لا يعتمد الاتّصال عمليًّا على الرائحة، وإنّما يتمّ بشكل ميكانيكيّ، من خلال القوى الّتي يطلقها النمل على الحمولة. وهكذا جمع الباحثون بين الميكانيكا الإحصائيّة، وهو المجال الّذي يتناول سلوك الأنظمة الكبيرة ذات الجزيئات العديدة، وبين مهارات معالجة المعلومات لدى الأفراد في المستعمرة. ربط غير بديهيّ على الإطلاق.


نموذج يعتمد على فيزياء الكمّ استُخدِم لوصف طرق الحمل المشترك للأحمال. نمل يسحب الطعام سويّة | Shutterstock, Lemonade Serenade

ضوء قليل، ضوء قويّ

"تخيّلوا شجرة يبلغ ارتفاعها حوالي 15 مترًا، مُغطّاة بأوراق الشجر الكثيفة، ويتّضح أنّه على كلّ ورقة تجلس يراعة، وجميع هذه اليراعات تومض معًا بتنسيق كامل... ظلامٌ دامس بين الوميض والآخر. تخيّلوا عشرات الأشجار متراصّة جنبًا إلى جنب على ضفّة النهر... وحينها، لو كان خيالكم خصبًا بما فيه الكفاية، فإنّكم سوف تَتمكّنون نوعًا ما من استيعاب هذا المشهد المذهل" تمسّكَ عالِم الأحياء يو سميث (Smith) عام 1935 بهذا المشهد المذهل والّذي هزّه وأثّرفيه.

تأمّل سميث ظاهرة تحدث لمدّة أسبوعين تقريبًا في السنة، حيث تقوم خلالها مجموعات كبيرة من اليراعات بمزامنة وميضِها من أجل العثور على شريك للزواج. إنّ هذه الظاهرة مثيرة للدّهشة بشكلٍ خاصّ، لأنّ مجموعات صغيرة من اليراعات لا تومض عادة بطريقة متزامنة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد وُجد أنّ اليراعة حين تكون وحيدة، فإنّها لا تومض بتردّد ثابت، وإنّما بتواتر يبدو عشوائيًّا. تفترض الفيزيائيّة البروفيسور أوريت بيليج من جامعة كولورادو أنّه إذا كان الوميض المتزامن يهدف إلى مساعدة اليراعات في العثور على شركاء للتكاثر، فإنّه لا فائدة من أن يقوم ذكر يراعةٍ وحيد بالومض، لأنّه وفي حالةٍ كهذه، فإنّ فرصة ملاحظته من قبل أنثى ستكون ضئيلة.


كلّ نوع وجد النوع الّذي يتبع إليه. حشود من اليراعات تومض معًا. | Shutterstock, WUT.ANUNAI

لكلّ نوع من أنواع اليراع نمطُ وميضٍ متزامن خاصٌّ به، يميّزه عن الأنواع الأخرى. عندما ترى أنثى اليراع وميض أفراد نوعها، فإنّها تستجيب لهم باللغة المناسبة لكي تشير إلى أنّها مستعدّة للتزاوج. إنّ الضوء المنبعث من كلّ يراعة لوحدها هو ضوء ضعيف، والافتراض هو أنّه عندما تقوم الكثير من اليراعات بمزامنة وميضهنّ معًا، فإنّ إشارتهنّ المشتركة تتغلّب على بقيّة المحفّزات الأخرى بالقرب منهنّ، وبالتالي فإنّ فرصهنّ في التكاثر تزداد. وَجدَت بيليج أنّ يراعةً واحدة، أو حتّى مجموعة من خمس يراعات، لن تُظهر وميضًا متناغمًا ومتزامنًا، ولكنّ 15 يراعة متجاورة سوف تومض معًا فعلًا.

إنّ تفسير آليّة تزامن وميض اليراعات المشترك يبدأ بنموذج كوراموتو الّذي سُمِّي باسم الفيزيائيّ اليابانيّ يوشيكي كوراموتو (Kuramoto). يصف النّموذج كيف تتزامن تردّدات العديد من الأشياء المتعلّقة ببعضها البعض، والّتي لكلٍّ منها تردّدها الخاصّ. يقترح عالم الرياضيّات ستيفن ستروجاتز (Strogatz) تفسيرًا بديهيًّا: عندما يكون هناك رابطٌ قويٌّ بين الأشياء، فسوف تسعى لجعل نفسها متزامنة مع بعضها البعض. مثل العدّاء البطيء الّذي يزيد من سرعة جريه ليواكب صديقه الأسرع منه، أو العدّاء السّريع الّذي يبطئ حتّى لا يترك صديقه.

مثال لنموذج كوراموتو: أجهزة بندول الإيقاع بحركة متزامنة:

لقد لوحِظت هذه الظاهرة في العديد من الحالات- مثلًا، في حركة أدوات بندول الإيقاع، عندما تكون موضوعة على سطح واحد ينسّق تردّداتها، أو في تصفيق الجمهور في نهاية العرض، والّذي يبدأ بإيقاع عشوائيّ، ولكنّه في النهاية يصبح موحَّدًا. يشرح النموذج أيضًا بشكل جزئيّ وميض اليراعات، حيث إنّ المسؤول عن هذا التزامن هو نوع من الشراكة الاجتماعيّة بين اليراعات، بناءً على تجمّعها معًا. توجد لعبة تحاكي ذلك على الإنترنت.

ومع ذلك، وبحسب بيليج، فإنّ العيب في نماذج كهذه، هو أنّها تفترض مسبقًا أنّ للأشياء تردّدًا مُعيّنًا ثابتًا، قبل اندماجها مع الآخرين. عمليًّا، وكما ذكرنا سابقًا، فإنّ اليراعات الفرديّة لا تومض بأيّ تردّدات ثابتة عندما تكون بمفردها- النمط النموذجيّ يظهر فقط عندما تومض مجموعات من اليراعات بشكل متزامن.

هناك نموذج رياضيّ جديد يسدّ هذه الفجوة ويصف ظهور التزامن والعمليّة الدوريّة بمساعدة قواعد بسيطة لا تفترض أنّ الوميض الأساسيّ لليَراعات هو أمر دوريّ. في هذا النموذج، تومض كلّ يراعة بشكل عشوائيّ، بتوقيت مشابه لتلك الّتي لوحِظت في الطبيعة، وكلّ وميض كهذا يجرّ خلفه وميض اليراعات الأخرى. هذه العمليّة، والّتي تبدأ من توزيع غير متساوٍ للوميض في اليَراعات الفرديّة، تبدأ بالتقارب والتجمّع كوميضٍ دوريّ ومتناغم لليَراعات معًا.

إنّ قياس وميض اليراعات يشكّل تحدّيًا كبيرًا، نظرًا لقصر مدّة الظاهرة، وخفوت ضوء اليراعات وحركتهنّ في الفضاء. يذهب باحثون من مختبر بيليج في رحلات استكشاف، يسجّلون خلالها حركة اليراعات في الطبيعة بعدّة كاميرات من زوايا مختلفة، ويحاولون تتبّع كلّ يراعة وطبيعة وميضها على حِدة. تجارب أخرى تستخدم مصابيح LED لمحاكاة اليراعة، وتقوم بالرّد على اليراعات الحيّة عن طريق وميضٍ مصطنع، في محاولة لدراسة لغة التردّدات الخاصّة بها.


أنماط ديناميكيّة في السّماء. سربٌ من طيور الزّرزور يتحرّك في سماء إيطاليا | Shutterstock, Ruth Swan

أنماطٌ في السّماوات

في الفترة الرومانيّة، عدّة مئات من السنين قبل الميلاد، كان الكهَنَة الّذين يُطلَق عليهم اسم "العرّافين" (Augurs) يتابعون تحليق الطيور في السماء بحثًا عن إشارة لرأي الآلهة فيما يتعلّق بقرارات سياسيّة تمّ اتّخاذها على الأرض. رؤيتهم لتحليق الطيور على أنّه أمرٌ إلهيّ لم ينبع من عبث- حيث تتحرّك أسراب الزرزور في السماء بحركة متزامنة ساحرة، تُعرَف باسم Murmuration (هَمهَمة، أو احتشاد)، والّتي تخلق هياكل هندسيّة ديناميكيّة.

أصل هذه الظاهرة غير واضح. يفترض العديد من الباحثين أنّ لهذه الحركة المشتركة دورًا في الحماية ضدّ الحيوانات المفترسة، ويبحثون في الفوائد الّتي توفّرها. نظريّة القطيع الأنانيّ الّتي اقترحها عالم الأحياء التطوّريّة ويليام هاميلتون (Hamilton) سنة 1971، ترى أنّ كلّ فرد في مجموعة من الحيوانات يسعى جاهدًا للوصول إلى مركز المجموعة، كي لا يكون هدفًا سهلًا للحيوانات المفترسة. ولذلك فمن الممكن أن تكون حركة السّرب ناتجة عن طموح جميع الطيور للوصول إلى المركز، بطريقة ديناميكيّة ومتغيّرة، وتَتحرّك وتدور في حركة هروبٍ مستمرّة. إلّا أنّ التفسير لا يبدو كافيًا؛ لأنّ هذه الحركة المبهرة تقوم بجذب انتباه الحيوانات المفترسة بدلًا من حمايتهم منها. ولذلك، فإنّ تفسيرًا آخر يشير إلى أنّ الحركة المتموّجة الناتجة، تُربك حيوانات مفترسة محتملة. هذه الحركة مماثلة لحركة أسراب الأسماك والّتي تُنسَب عادة إلى محاولة تخويف الحيوانات المفترسة.

باحثون آخرون حاولوا تصنيف السّمات الّتي تقوم بتوجيه مثل هذه الحركة. في سنة 1986، طوّر كريج رينولدز (Reynolds) محاكاة تُدعى "بويدز" (Boids) في محاولة لإعادة خلق حركة أسراب الطيور والأسماك. كلّ فرد من الأفراد في المحاكاة يعمل وفق ثلاث قواعد بسيطة: يجب أن يجتهد في عدم الاصطدام بالأفراد الآخرين، يجب أن يضبط سرعته مع سرعة جيرانه، أي كلّ من هُم ضمن نصف قطر معيّن منه، ويجب أن يتحرّك نحو مركز كتلة الجيران. تخلق هذه المجموعة البسيطة من القواعد محاكاةً تذكّرنا كثيرًا بالحركة الجماعيّة للـ Murmuration.

ثلاثُ قواعد بسيطة: محاكاة بويدز

في سنة 1995، نشرَ الفيزيائيّ تاماش فيشتسيك (Vicsek)، بالتعاون مع باحثين إسرائيليّين، ومن بينهم الفيزيائيّ إيشِل بن-يعقوب، نموذج فيشتسيك. وقد وصف هذا النموذج أيضًا الحركة المشتركة بمساعدة القوانين الأساسيّة: يُقدِّر الفرد ​​حجم ومُتوسّط اتّجاه سرعات جيرانِه، بدرجة معيّنة من عدم اليقين بمدى السّرعة الدقيقة، ويتحرّك وفقًا لهذا التقدير.

في دراسة أُجرِيت سنة 2008، عاد الباحثون إلى "عرّافي روما" ووثّقوا آلاف الطيور وهي تؤدّي حيلَ الطيران الجوّيّة. بمساعدة ثلاث كاميرات، فحصت السّرب من زوايا مختلفة، قاموا بإعادة إنشاء بنية ثلاثيّة الأبعاد لحركة الطيور. ومن خلال البحث، اتّضح، خلافًا لما كانوا يعتقدون من قبل، أنّ الفرد لا يُراعي حركتَه في محيطه المباشر، بل يكون على اتّصال بستّة أو سبعة من الطيّور المجاورة. أي إنّ الأمر متعلّقٌ بعددٍ ثابتٍ من الأفراد، وليس متعلِّقًا بالضرورة بالطيور الموجودة ضمن نصف قطر دائرة معيّن حول الفرد. بالإضافة إلى المشاهدات، فقد بيّنت الدراسة بمساعدة المحاكاة، أنّه إذا كانت القاعدة الموجِّهة للفرد هي عددٌ ثابتٌ من الجيران، فإنّ بنية السّرب تظلّ أكثر حصانةً بكثير ضدّ هجمات الطيور الضارية- حيث تظلّ كاملة وسليمة تقريبًا ولا تنهار بسبب تشويش خارجيّ.

وحتّى لو تجاوزنا هذه الحركة المعقّدة، واتّجهنا إلى حركة الطيران في بنية ثابتة بشكل رأس السهم، والّتي تستخدمها العديد من الطيور المهاجرة، فإنّنا سنجد أنّ موضوع الحركة المشتركة ليس بهذه البساطة. من المعتاد أن ننسب إلى بُنية رأس السهم الخاصّ بتحليق الطيور ميزات ذات أفضليّة للملاحة الناجعة والمزايا الديناميكيّة الهوائيّة. ومع ذلك، فإنّ الدراسات الّتي تابعت تحرّكات الحمام باستخدام نظام تحديد المواقع العالميّ (GPS)، كشَفت أنّ طيور الحمام الّتي تحلّق خلف طيور حمامٍ أخرى، مضطرّةٌ لأن تؤدّي دورات أكثر في حركات الجناح، وأن تبذلَ جهدًا أكبر. بحسب الباحثين، فإنّ التّحرّك في بنية رأس سهم، فعّالٌ في طيران الطيور الكبيرة نسبيًّا وذات التحليق المستقرّ، وليس الطيور الأصغر حجمًا والأكثر اهتياجًا مثل طيور الحمام.


ناجع للطيور الكبيرة وليس للطيور الصغيرة وشديدة الاهتياج. إوز محلّق بشكل رأس سهم | Shutterstock, Ana Gram

لا ملِك للجراد

إنّ سفر الخروج، وهَغَادَة (أو حِجادَة) الفصح الّذي أعقبه، يرويان عن ضربة الجراد في مصر- سربٌ ضخم من الجراد يلتهم المحاصيل في كلّ مكانٍ تحملُه الرّياح إليه. وكانت أسراب الجراد معروفة جدًّا أيضًا في أرض إسرائيل- ففي سفر الأمثال المنسوب إلى الملك سليمان، مكتوب: "الجرادُ ليس له ملِك، ولكنّه يخرجُ كلّه جماعاتٍ جماعاتٍ"،ما يدلّ على أنّ أسلافنا كانوا يعرفون جيّدًا التسلسل ذا الهرميّة المسطّحة لمجتمع الجراد بلا قائد- - والمختلف تمامًا عن المجتمع الطبقيّ لمستعمرات النمل والنحل.

الجراد هو كائن انفراديّ، لا يحتشد عادة في أسراب. من بين آلاف أنواع الجنادب المعروفة علميًّا اليوم، هناك حوالي 15 نوعًا فقط يمكنها تكوين أسراب من الجراد في ظروفٍ معيّنة. في مقابلة مع موقع معهد ديفيدسون للعلوم، يوضّح عالِم الحيوان البروفيسور أمير أيّالي من جامعة تل أبيب، أنّ هذه الجنادب قادرة على التواجد في حالتين منفصلتين: إمّا كَجنادب انفراديّة، تعيش كأفرادٍ مستقلّة غير مرتبطة بأفرادٍ آخرين، أو كَجنادب اجتماعيّة، أو قطيعيّة، تتجمّع في أسرابٍ ضخمةٍ.


سربٌ ضخمٌ من الجراد يلتهم المحاصيل. مُزارِع وسط سرب من الجراد في كينيا | Adam Bannister / Greatstock / Science Photo Library

عادةً ما يبدأ تجمّع واحتشاد الجنادب الفرديّة في سربٍ بصورة تلقائيّة. في السنوات الممطرة، عندما يكون الغذاء وفيرًا، تضع إناث الجنادب العديد من البيوض، وتتجمّع صغار الجنادب الّتي تفقس منها معًا خلال أيّام قليلة، وتبدأ في المشي جنبًا إلى جنب ثمّ تهاجر من وجهة إلى أخرى. وحتّى اليوم، لا نعرف بوضوح ما المزايا التطوّريّة الّتي يمنحها هذا السلوك. ومع ذلك، فقد وجد أيّالي وزملاؤه أنّه لدى الجراد الصحراويّ (Schistocerca gregaria) قد يكون لعلم الأحياء الدقيقة دورٌ مركزيّ. ففي أمعاء جنادب الأسراب تزدهر بكتيريا Weissell، وهي تكاد تكون معدومة في الجنادب الانفراديّة. ومن المرجّح أنّ وجودها هو ما يؤدّي إلى تغيير سلوك الجنادب، بشكل يُسهِّل من انتشار البكتيريا.

كيف يَعرفُ الجنادب عَمَليًّا أنّهم ليسوا وحيدين؟ تُظهر التجارب أنّ آليّة الاستشعار الرئيسة لديهم هي الرؤية، على غرار الناس حين يتجَمّعون في مظاهرات حاشدة. في تجارب كهذه، يتمّ أخذ جندب اجتماعيّ ووضعه على كرة، ويجعلونه يشاهد مقاطع فيديو لجَنادب وهي تمشي. يتّضح أنّ القرارات الّتي يتّخذها الجندب بما يتعلّق واتّجاهه المفضّل للمشي، مرتبطة بشكل واضح وقويّ بعدد الجنادب الّتي يراها تمشي في اتّجاه معيّن. الجندب الانفراديّ الّذي يتعرّض لمقاطع كهذه، يقوم تدريجيًّا بتطوير مزايا من السلوك الاجتماعيّ.


القرارات الّتي يتّخذها الجندب متعلّقة بعدد الجنادب الّتي يراها. جنادب تسير أثناء تجربة في مختبر البروفيسور أمير أيّالي | من مقال Amir et al., 2022 Entropy 24(7):918 

تختلف الجنادب الانفراديّة والاجتماعيّة عن بعضها البعض في سلوكها، ليس فقط فيما يتعلّق بتكوين الأسراب، وإنّما أيضًا في عاداتها التكاثريّة ودورة حياتها وأنواع الطعام الّتي تفضّلها. بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضًا اختلافات فيزيولوجيّة واضحة بينها في بُنية الجسم وحجمه ولونه. ومع ذلك، وفقًا لأيّالي، ففي التجارب بالإمكان مراقبة التغيّرات في السلوك فقط، نظرًا لأنّ التغييرات الجسديّة أبطأ بكثير ويمكنها أن تستمرّ لعدّة أيام أو حتّى لأسابيع.

أمّا بالنسبة للفيزياء، فقد تبيّن أنّه عندما تُضاف عناصر من العشوائيّة إلى نموذج فيشتسيك، الّذي يشير كما ذكرنا إلى تحليق أسراب الطيور، فإنّه يصف جيّدًا حركة سرب الجراد. في مختبر أيّالي يحاولون، من بين أمور أخرى، الجمع بين المعرفة المتراكمة حول سلوك الجراد، وبين تطوير روبوتات الأسراب، الّتي تعتمد على الذكاء الجماعيّ لأسراب الجراد الشّرهة. قد يكون لمثل هذه الروبوتات العديد من الاستخدامات، مثل البحث والإنقاذ، تطهير حقول الألغام وغيرها.


يحاولون الجمع بين المعرفة المتراكمة حول سلوك الجراد، وبين تطوير روبوتات الأسراب. باحثٌ ينظر إلى الروبوتات الّتي صنعها، والّتي تمّ تَدريبها على العمل بشكلٍ تعاونيّ بناءً على قواعد بسيطة | Brian Bell / Science Photo Library

الوجوه المختلفة للكائنات ذات السلوك الجماعيّ

إنّ دور الفرد في كلّ مجموعة ذات سلوكٍ جماعيّ في الطبيعة يختلف من نوع إلى آخر، بدءًا من المساواة الكاملة بين الأفراد وانتهاءً بالتسلسل الهرميّ الصارم للبلاط الملكيّ. كما أنّ حجم السّمة الجماعيّة في حياة الفرد تختلف هي أيضًا، حيث توجد فروقات كبيرة بين أفراد النمل والنحل الّذين يعيشون حياتهم كلّها كجزءٍ من جماعة كبيرة، وبين أسراب الطيور الّتي تتفكّك وتُبنَى من جديد على الدّوام. كذلك، فإنّ للسّلوك الجماعيّ لا يوجد بالضّرورة شكلٌ نهائيّ، حيث لوحظ أنّ هناك أنواعًا قد كيّفت لنفسها سماتٍ جماعيّة، لكنّها لاحقًا تخلّت عن هذه الترقية وعادت إلى السّلوك الانفراديّ.

وبعيدًا عن الفضول الّذي تثيره هذه السلوكيّات المعقّدة، فإنّ الباحثين يسعون جاهدين لفهم الآليّات الّتي تقف خلفها، من أجل توجيهها والاستفادة منها في التصاميم الهندسيّة. إلى جانب ذلك، فإنّ الاجتماعيّة العليا (Eusociality) في أعشاش النمل هي أعلى مستوى من التنظيم الاجتماعيّ الّذي وصل إليه التطوّر حتّى الآن، لذا يتساءل الباحثون الّذين يدرسون المجتمع البشريّ، والّذي يتطوّر بوتيرة سريعة، عمّا إذا كنّا نحن البشر أيضًا، في طريقنا إلى تغيير كبير خاصٍّ بنا، والتحوّل إلى نظام جماعيّ بشريّ.

 

0 تعليقات