هناك بكتيريا عنيفة حقًّا، تُلحِق في بعض الحالات ضررًا خطيرًا بالأنسجة وتهدّد الحياة، لكنّها لا تلتهم اللُّحوم، وهي نادرة جدًّا على أيّ حال

يتخيّل الكثيرون عند سماعهم "البكتيريا المفترسة" أو "البكتيريا آكلة اللحوم" جيشًا من الوحوش الصغيرة تغزو الجسم وتقضي عليه من الداخل. تكوّنت هذه الصورة المُضلّلة بسبب طبيعة المرض الذي يتراءى كشيء يقضم جلد المريض وأنسجته بسرعة. إلّا أنّه، من النّاحية العمليّة، تلوثٌ بكتيريّ يُسبّب التهاب اللّفافة الناخر (Necrotizing fasciitis) في العضو المصاب.

غالبًا ما تكون التّقارير التي تُبثُّ في وسائل الإعلام عن البكتيريا العنيفة مصحوبةً بأوصاف تصويريّة مثيرة، فينجم الانطباع بأنّ الحديث يدورعن مرض جديد أو مرض شائع، إلّا أنّه في الحقيقة مرض معروف ونادر جدًّا. من الأهمّيّة بمكان معرفة هذا المرض لأنّه خطير ويهدّد حياة المصاب، وقد يصيب الأشخاص الأصحّاء الخالين من الأمراض المزمنة أيضًا ويؤدّي إلى وفاتهم في غضون أيّام قليلة أو حتّى أسرع من ذلك. 

צילום במיקרוסקופ של זיהום עור בחיידקי סטפילוקוקוס | צילום: vetpathologist, Shutterstock
إنه، لحسن الحظ، مرض نادر جدًّا مع كونه خطير. صورة بالمجهر لِتلوّث الجلد ببكتيريا ستافيلوكوكوس | تصوير: vetpathologist, Shutterstock

 

الاطّلاع على المرض

يرتبط مصطلح "البكتيريا المفترسة" عادةً ببكتيريا المكوّرات العقديّة المقيحة (الستربتوكوكوس بيوجنس - Streptococcus Pyogenes) المستقرّة بشكلٍ دائم في حلق البعض منّا دون أن تُسبّب ضررًا، أو أنّها تسبّب، في أغلب الأحيان، التهاب البلعوم واللوزتين الروتيني. ولكن عندما تخترق أماكن أخرى في الجسم، من خلال جرح في الجلد مثلًا، فإنّها قد تسبّب مرضًا  الخطورة.

هناك أنواع أخرى من البكتيريا يمكن أن تسبب مثل هذا المرض بالرغم من ربطه عادةً ببكتيريا الستربتوكوكوس. يمكن أن تخترق بكتيريا فيبريو فولنيفيكس (Vibrio vulnificus) مثلًا، الموجودة في المياه المالحة الطبيعيّة، الجسمَ عند دخول الماء إذا وُجدَ جرحٌ أو شقٌّ مفتوح في الجسم، وتسبّب تلوثًّا خطيرًا. قائمة أنواع البكتيريا القادرة على التّسبب في أعراض "البكتيريا المفترسة" طويلة. تشمل هذه القائمة بكتيريا المكوّرات السحائيّة (النيسريّة السحائيّة - Neisseria meningitidis) التي تؤدّي إلى التهاب السحايا وإلى نزيف في الجلد؛ المكوّرات الرئويّة (العقدية الرئوية -Streptococcus pneumoniae)؛ بكتيريا غازية قؤوبة (الايروموناس هيدروفيلا - Aeromonas hydrophila) الموجودة عادةً في الماء أو في التراب؛ البكتيريا من مجموعة المطثيات (الكلوستريديوم - Clostridium)؛ المكوّرات العنقوديّة الذهبيّة (ستافيلوكوكوس أورائوس - Staphylococcus aureus)؛ وحتّى المتحوّرات العنيفة من بكتيريا الإشريكيّة القولونيّة (Escherichia coli) الشائعة.

نحو نصف المرضى لا يعلمون كيف أصيبوا بالبكتيريا. قد تدخل البكتيريا إلى الجسم من خلال الطّوقَ الجلديّ، من شقٍّ فيه أو جرح أو حُرق بالغ أو عمليّة جراحيّة. وقد تنتقل العدوى حتّى إلى الأطفال المصابين بجدري الماء (الحماق) من خلال البثور المفتوحة. يمكن أن تدخل بكتيريا فيبريو فولنيفيكس وغيرها أيضًا من خلال الجهاز الهضميّ لأشخاص أكلوا حيوانات بحرية مصابة. وهناك تقارير عن تلوّثات خطيرة نجمت عن خدشه أو لدغة حيوان أليف. 

חיידקי סטרפטוקוקוס, המסתדרים לעיתים בשרשראות | איור: TUMEGGY / SCIENCE PHOTO LIBRARY
قائمة أنواع البكتيريا التي قد تتسبّب بالتلوث طويلة جدًّا. تنتظم بكتيريا المكورات العقدية (ستربتوكوكوس-Streptococcus) أحيانًا على شكل سلاسل | الرسم التوضيحي: TUMEGGY /SCIENCE PHOTO LIBRARY
 

تطوّر المرض

يعاني المرضى من آلام شديدة في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض. يطلب كثيرون منهم المساعدة الطبّيّة ويتوجّهون إلى قسم الطوارئ في المستشفيات. تكمن المشكلة في أنه قد يخطئ الأطباء أحيانًا في تشخيص المرض لأنّه نادر وغير اعتياديّ، فيرسلون المريض إلى البيت بدعوى الإصابة بمرض فيروسيّ، أو بضربة، أو إصابة في العضلة، أو الالتهاب. 

قد يتفاقم التلوّث البكتيريّ ويشكّل خطرًا على حياة المصاب خلال بضعة أيّام بل ربّما خلال بضع ساعات. تنتشر البكتيريا من الجلد إلى نسيج اللفافة (الفاسيا - Fascia)،  وهو نسيج ضامٌّ تحت الجلد يحيط معظم أعضاء الجسم بما فيه العضلات والأعصاب والأوعية الدمويّة. تتكاثر البكتيريا في هذه الأنسجة وتفرز سمومًا تؤدّي إلى دمار الخلايا وتُخلّف أضرارًا بالغةً في الأنسجة، وتفرز بروتينات تُلحق الضّرر بجهاز المناعة، الأمر الذي يُصَعّب على الجسم وقف تفاقم المرض. 

تظهر لاحقًا بُقعٌ على الجلد تسبّبها حالات نزيف دمويّ أو نقص في الأكسجين وقد تتكوّن نخورٌ في الأطراف أو في غيرها من الأعضاء توجِب في النهاية بَتْر العضو المصاب لوقف انتشار النّخور. قد تظهر في حالات نادرة أعراض الإنتانات (تعفّن الدم) الجلديّة التي تنجم عن رد فعل الجسم المضطرب والخارج عن السّيطرة ضد التلوث. ارتفاع درجة حرارة الجسم هو أحد هذه الأعراض وكذلك ضعف في عمل الكلى وانخفاض التبوّل. يمكن أن تتضرّر الرئتان أيضًا ويعاني المريض من صعوبة في التنفّس والوذمات وانخفاض ضغط الدم وقد تتطوّر هذه الأعراض إلى حالات أكثر شدّة تتمثل في الصّدمة الإنتانية وتوقُّف أعضاء مهمّة عن العمل. 

الأشخاص الذين يعانون من ضعف جهاز المناعة أو من الأمراض المزمنة في الأوعية الدمويّة والكلى والسكّريّ وأمراض المناعة الذاتيّة (الانضِدادية) التي يهاجم فيها جهاز المناعة الأنسجة السليمة في الجسم أو مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائيّ الذي يضرّ بجهاز المناعة، هؤلاء خاصّةً مُعرّضون أكثر من غيرهم لخطر التّلوث الشّديد. قد يصيب التّلوث كذلك الأشخاص الأصحّاء الذين ليس لديهم عوامل خطورة معروفة إلّا أنّ احتمال الإصابة أقلّ كثيرًا. 

تبلغ نسبة حالات الوفاة الناجمة عن تلوّث "البكتيريا المفترسة" درجة عالية جدًّا وهي تتراوح ما بين 25 و 75 بالمئة من المرضى المصابين، ويتعلّق ذلك بنوع البكتيريا وعوامل الخطورة وظروف الإصابة بالمرض. ترتفع نسبة الوفاة و تفوق 80 بالمئة، عندما لا يبدأ العلاج ألّا بعد تقدّم المرض، وتبقى هذه النّسبة عالية إذ تتراوح بين 30 و 50 بالمئة حتّى إذا بدأ العلاج في مرحلة مبكّرة من المرض. 

إنّه مرض صعب وخطير إلّا أنّه نادر جدًّا. تبلغ نسبة انتشار الوفاة بسبب التهاب الأنسجة الناخر في الولايات المتحدة الأمريكية أربعة من كلّ مليون شخص في السنة الواحدة، ذلك بالاعتماد على أنّ حوالي عشرة آلاف شخص توفّوا بسبب المرض في جميع أنحاء الولايات المتّحدة الأمريكيّة خلال عشر سنوات، بين 2003 وَ2013م. نسبة انتشار المرض بين الأطفال منخفضة جدًّا وهي أقلّ أربع أضعاف منها لدى البالغين ويبلغ معدّل الوفيّات حوالي 10 في المئة من جميع الأطفال المرضى.

חיידקי Vibrio vulnificus| צילום: CDC / SCIENCE PHOTO LIBRARY
قد يموت ما يقارب نصف المرضى حتّى إذا بدأ العلاج في مرحلة مُبكّرة من المرض. بكتيريا Vibrio vulnificus| تصوير: CDC / SCIENCE PHOTO LIBRARY
 

"البكتيريا المفترسة" وتغيّر المناخ

حذّر الخبراء من ازدهار بكتيريا المياه المالحة مثل فيبريو فولني فيكوس وترعرها نتيجة للتغيرات المناخيّة العالميّة وخاصّةً ارتفاع درجة حرارة مياه البحر، الأمر الذي قد يساهم في انتشارها إلى مناطق تكاد لم تتواجد فيها في الماضي. تبيّن من تقرير نُشر في مجلة Annals of Internal Medicine تمّت فيه متابعة المرضى في خليج ديلاوير في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أنّ خمسة أشخاص أصيبوا بالبكتيريا في السنوات 2017 - 2018م وتوفي واحد منهم. لامسَ جميع هؤلاء المرضى مياه الخليج أو أكلوا سرطانات وفواكه بحريّة تم اصطيادها من مياهه. 

لم يكن من المتوقّع ظهور البكتيريا في مياه خليج ديلاوير على الإطلاق، والإصابة بها عن طريق العدوى في هذا الخليج هي ظاهرة نادرة جدًّا. أصيب شخص واحد فقط بعدوى المرض في منطقة الخليج في كلّ الأعوام الثمانية التي سبقت سنة 2017م. يعتقد الباحثون أنّ ارتفاع درجة حرارة الماء هو السبب في انتشار البكتيريا في الخليج. 

دعمت الدراسة التي أجريت في جامعة هاواي هذا الاعتقاد. يُقدّر الباحثون أنّ عدد بكتيريا الفيبريو فولني فيكوس في قناة الا واي (Ala Wai) في هاواي سيتضاعف ثلاث مرات حتى نهاية القرن الحالي ويُحذرون من السباحة في مياه القناة خوفًا من العدوى. بنى الباحثون نموذجًا لتنبّؤ مستوى البكتيريا في الممرّ المائيّ بالاعتماد على مُعطيات مختلفة قاسوها في وقت فعليّ بالاستعانة بأجهزة الاستشعار، مثل كمّيّة مياه الأمطار ودرجة حرارة الماء والمواد المذابة في مياه القناة. يتوقّع الباحثون ازديادًا كبيرًا في تكاثر البكتيريا نتيجة للتغيّرات المناخيّة التي تؤدّي إلى ارتفاع درجة حرارة الماء، كما يتوقّعون أن تنتشر على امتداد شواطئ جنوب هاواي نتيجة للتغيّرات المناخيّة المتوقّعة حتّى سنة 2100م، علمًا أنّ شواطئ جنوب هاواي من أكثر المناطق التي يرتادها السياح في الولايات المتّحدة الأمريكيّ

חופי עיירה בדרום מפרץ דלאוור | צילום: Khairil Azhar Junos, Shutterstock
يعود الارتفاع الحادٌّ في الاصابة بالمرض بسبب بكتيريا المياه المالحة، على ما يبدو، إلى التغيرات المناخية. تظهر في الصورة شواطئ إحدى بلدان جنوب خليج ديلاوير | تصوير: Khairil Azhar Junos, Shutterstock

 

تشخيص المرض في وقت مُبكّر

لا يمكننا منع العدوى دائمًا لأنّ البكتيريا موجودة من حولنا، إلّا أنّه يمكن وقف تدهور حالة المصاب بالاستعانة بالمضادّات الحيويّة البسيطة والشائعة خاصّةً إذا شُخّصَ التهاب الأنسجة الناخر في الوقت المناسب. 

يشعر الأشخاص المصابون بالالتهاب النّاخر بسرعة بأنّ شيئًا ما غير سليم وشاذّ يحدث لهم، إذ أنّهم يعانون في مرحلة مبكّرة من آلام حادّة في المنطقة المصابة تفوق الالم المعتاد الذي ينجم عن الجرح أو الشقّ الذي بدأ التلوّث فيه. الألم بحدّ ذاته مؤشّرٌ مقلِق، ويوجِبُ ظهورهُ إثارةَ الشكّ بِالإصابة بالبكتيريا العنيفة. 

تظهر، كما ذُكر أعلاه، أعراضٌ تشبه أعراض الإصابة بالأنفلونزا أو تلوّث الجلد، إلى جانب الآلام الحادّة، وذلك خلال أربع وعشرين ساعة من لحظة انتقال العدوى. تشملُ هذه الأعراض الحُمّى والاحمرار والغثيان والإسهال والدوخة والوَهَن. يلي ذلك التورّم والوذمة حول المنطقة الملَوّثة. يتغيّر لون الجلد بشكل تدريجيّ فيميل إلى الزُّرقة، ويحمرّ، ثم يصبح رماديًّا، وتظهر أحيانًا انتفاخات جلديّة تتحوّل إلى أكياس أو بثور مليئة بالسوائل. يصبح منعُ التّدهورِ السّريعِ في حالة المريض الصحيّة، مع تقدّم مراحل المرض، صعبًا جدًّا، وقد يصل الأمر إلى فشل الأعضاء ثمّ الوفاة. 

يتيح التشخيصُ المُبكّر للمرض بدءَ معالجة المريض بأقصى سرعة، ويزيد من احتمال تعافيه وتقليل معاناته، لذا فإنّ التّشخيص المُبكّر أمرٌ بالغ الأهمية. يشمل العلاجُ حقنَ المضادّاتِ الحيوية عن طريق الوريد مباشرةً، وذلك لمنع انتشار التّلوث إلى الأنسجة الأخرى. قد لا يبقى في كثيرٍ من الحالات خَيارٌ إلّا إزالة النسيج المصاب أو بتر الأطراف المصابة لأنه يتعذّر على المضادّات الحيويّة النفاذُ إليها بسبب تعطّل جريان الدّم بشكل سليم فيها. يُعطى المرضى أحيانًا، وحسب ما تقتضيه الضرورة، أدويةً ترفع ضغط الدّم ويُعالَجون بالأكسجين، وتتمّ مراقبة عمل القلب ونقل الدّم، ويُعالجون أحيانًا بالأجسام المضادّة التي تساعد في محاربة التلوّث. 

تزداد فرص الشفاء من التّلوث البكتيريّ إذا بدأ العلاج بالمضادّات الحيويّة في وقت مُبكّر، لأنّ بكتيريا المكوّرات العقديّة، لحسن الحظّ، لا تتمتّع بمقاومة لِلمضادات ولا تصمد في مواجهتها. يستمرّ، على الرغم من ذلك في كثير من الحالات، تلفُ الأنسجة حتّى بعد موت البكتيريا بسبب فعاليّة الموادّ السّامّة التي أفرزتها البكتيريا قبل موتها. يموت، لهذا السبب، حوالي ثلث المرضى حتّى وإن بُدءَ العلاج في المراحل المُبكّرة من تكوّن الالتهاب النخريّ. وترتفع نسبة الوفاة وتصل إلى 60 بالمئة إذا كان الالتهاب النخريّ مصحوبًا بصّدمةٍ مُعدية. 

אבחון מוקדם ועירוי אנטיוביוטיקה לווריד עשויים להציל את חיי החולה | צילום אילוסטרציה: sfam_photo, Shutterstock
يمكن أن يُنقذ التشخيص المُبكّر وحقن المضادّات الحيوية عبرَ الوريد حياة المريض | الصورة التوضيحية: sfam_photo, Shutterstock

 

وفي الختام

البكتيريا التي تُسبّب التهاب الأنسجة النخريّ ليست "مفترسةً"، ومن المؤكّد أنّها ليست شائعةً، على الرّغم من اللّقب التصويريّ الذي لزِمها. مع ذلك، يجب رفع مستوى الوعي للمرض وتشخيصه المبكّر لزيادة فرص التعافي وتقليل معاناة المرضى لأنّه يشكّل خطرًا كبيرًا على المصاب. 

توجد في الطبيعة، لمن يتوق للتعرّف على البكتيريا المفترسة، بكتيريا تستحقّ هذا اللقب حقًّا. المفترسات الحقيقيّة في عالم الكائنات أحاديّة الخليّة الصغيرة جدًّا هي بكتيريا تفترس بكتيريا أخرى وتتغذّى عليها. لكنّ ذلك جدير بنقاشٍ آخر منفصل. 

0 تعليقات