لماذا يظهر الضّباب في الصّباح الباكر تحديدًا؟ وما هو الفرق بين الغَبَش (العجاج) وبين الضَبْخان (الضّباب الدخانيّ)؟ وما هو دور الإنسان في هذه الظواهر، وما الّذي يمكن تجنّبه؟
لحسن الحظّ، إنّ الغلاف الجويّ للكرة الأرضيّة شفّاف. هذه الميزة غير مفهومة ضمنًا، خصوصًا بعد أن اكتُشِفت الكواكب الأخرى. فهذا الغلاف يتيح لأشعّة الشّمس تدفئة أجسام الزّواحف، وتغذية أوراق النّباتات ويتيح لنا فرصة الاستمتاع بالمناظر الخلّابة في عالمنا ورؤية الآفاق البعيدة. لكنّ الهواء المتواجد على السّطح ليس دائمًا صافيًا بما فيه الكفاية، حيث يمكن لبعض الظّواهر في الغلاف الجويّ أن تقلّل من شفافيّة الهواء، وتخفّض من كميّة الضّوء الواصل إلى السّطح، وبالتالي تقصير مجال رؤيتنا.
الظّواهر الثّلاث الشّائعة من هذا النوع هي: الضّباب، والغبش والضَبخان. الشّيء المشترك بينها هو كثافة الهواء التي تنتج عن تراكمِ جزيئات صغيرة في الغلاف الجويّ، والّتي تمنع مرور أشعّة الضوء بحريّة عن طريق امتصاصها أو تفريقها. نوع الجزيئات ونوع العمليّات الفيزيائيّة الّتي تؤدّي إلى تراكمها في الهواء يختلفان ويتنوّعان بين كلّ ظاهرةٍ وأخرى.
تفرّق قطرات الماء أو تبتلع الضوء في الهواء، ما يؤثّر سلبًا في مجال رؤيتنا. سيارةٌ تسير في الضّباب في الهند | تصوير: manoj_kulkarni, Shutterstock
ضباب
يتشكّل الضّباب، على غرار أخواته الغيوم الأعلى منه، عندما يتشبّع الهواء ببخار الماء، أي أنّ الماء يكون في حالةٍ ماديّةٍ غازيّة. "يخرج" الجزء الزائد منه ويتكثّف إلى قطرات ماء صغيرة وكثيفة لا حصر لها. تعتمد نقطة تشبّع الهواء لبخار الماء، المعروفة أيضًا بنقطة النّدى، على نسبةِ تركيز بخار الماء في الهواء ودرجة حرارته. كلّما كان الهواء أكثر برودة، فإنّه يستطيع استيعاب كميّة أقلّ من بخار الماء، وستتكوّن نقطة الندى في نسبة رطوبة قليلة نسبيًّا. لهذا السّبب، يتشكّل الضّباب في الصّباح الباكر، حينها تنخفض درجة الحرارة على السّطح غالبًا إلى أدنى مستوياتها خلال النّهار. إذا انخفضت درجة حرارة الهواء المئويّة إلى ما دون الصفر، فقد تتجمّد قطرات الضّباب وتتحوّل إلى جليد. عندما تبدأ درجة الحرارة على السطح بالارتفاع مع شروق الشمس، ويرتفع معها أيضًا معيار نقطة النّدى، تتبخّر قطرات الماء السائلة وتعود إلى الهواء الشفّاف.
تَحدث نفس الظاهرة في الطّقس البارد، عندما نقوم بإخراج الهواء من الفم في عمليّة الزفير. حينها يَسخُن الهواء المنبعث من جهازنا التنفسيّ خلال مكوثه القصير في الجسم، والّذي يحوي بداخله الكثير من بخار الماء الّذي تبخّر من السطح الداخليّ للرئتَين. عندما يختلط الهواء السّاخن الّذي نُخرِجه مع الهواء البارد في محيطنا، تنخفض نقطة النّدى ويتكثّف بعض بخار الماء الّذي في داخله إلى قطرات مائيّة. هذا هو بخار الهواء الّذي نراه.
كما أنّ بخار الهواء الخارج من فمنا هو ضباب محلّيّ صغير، فإنّ بخار الماء الّذي يخرج في عمليّة الزفير يتكثّف إلى قطرات في الهواء البارد | تصوير: gettyimages
يمكن أن يتكوّن الضباب أيضًا بسبب ارتفاعٍ في تركيز بخار الماء في الهواء دون تغيّر في درجة الحرارة. تحدث هذه الظّاهرة على سبيل المثال بالقرب من مسطّحاتٍ مائيّةٍ كبيرة، مثل المحيطات والبحيرات، والّتي تبخّر بانتظام الماء الّذي يهبّ على سطحها إلى الهواء. حتّى أنّ عمليّة الريّ الّتي تحدث على نطاق واسع في النّباتات داخل الغابات الاستوائيّة على سبيل المثال، قادرة على زيادة تركيز الرّطوبة في الهواء لدرجة ظهور الضّباب والسُّحُب المُمطرة أيضًا.
شرط آخر لتولّد الضّباب والسّحب بشكل عامّ، هو وجود ذرّات غبار صغيرة محمولة في الهواء تُدعَى الضَبوب أو الهباء الجويّ (aerosols). لا يمكن لبخار الماء في الأجواء العاديّة أن يتكثّف إلى سائل فوق الهواء الغازيّ، وإنّما فقط على سطح الأجسام الّتي تكون في حالة ماديّة صلبة أو سائلة. تُدعَى هذه الجُسيمات نوى التكثيف، ويمكن أن تكون من مجموعة متنوّعة من الموادّ. إنّ بلّورات ملح الماء الموجودة في الهواء في البيئة الساحليّة هي نوى تكثيف ذات نجاعة عالية، ويمكن أن تؤدّي إلى تشكّل ضباب كثيف خصوصًا في بيئةِ مسطَّحات مائيّةٍ مالحة. وكذلك وبشكل مشابه تعمل ذرّات الرّماد الّتي ترتفع في الهواء أثناء الحرائق.
إنّ الظروف المؤدّية إلى تشكّل الضباب على السّطح قد تَحدث أيضًا داخل الغلاف الجويّ في الأعلى، حيث ستؤدّي إلى تكوين سحابة طبقيّة على مساحة واسعة تُعرَف باسم الرهج أو الرهل (stratus)، والّتي لها مظهر بطّانيّة بيضاء خافتة، وتغطّي أحيانًا كلّ القبّة السماويّة.
هناك حاجة لجُسيمات الغبار أو الملح في الهواء لتكوين الضباب الجيّد. ضباب يغطّي مدينة | تصوير: Roofsoldier, Shutterstock
الغَبَش (العجاج)
وهي ظاهرة أخرى من ظواهر الغلاف الجويّ الّتي تعكّر صفاء الهواء، وتقلّل من مجال الرؤية فيه. خلافًا للضّباب الّذي يتكوّن من جزيئات ماءٍ سائلة أو متجمّدة، فإنّ الغبش هي حالة تحمل بها طبقة الهواء القريبة من السّطح تركيزًا عاليًا من الجزيئات الصّلبة والجافّة، والمتطايرة في داخلها لفترة زمنيّة طويلة بفضل حجمها الصغير. يمكن للعديد من الموادّ المختلفة أن تسبّب الغبش، مثل الغبار المعدنيّ ورماد الحرائق وحتّى لقاح الزهور.
أمّا في بلادنا، فإنّ الحالات الشائعة للغبش تحدث بسبب التيّارات الهوائيّة الّتي تهبّ من جهة صحاري شمال إفريقية أو شِبه الجزيرة العربيّة، وتحمل معها جزيئات المَرو (الكوارتز) الصغيرة الّتي حملَتها عن سطح الأرض خلال طريقها الطويل. إنّ أصل تربة الراسب الطّفاليّ الّتي تغطّي مساحات شاسعة في جنوب البلاد هي الجزيئات الّتي رَسَبت على السطح على مدار آلاف السنين، لكنّ الغالبيّة العظمى منها وصل من الصحاري المجاورة من النّقب الغربيّ ومن سيناء، وليس من شمال إفريقية البعيدة.
يمكن للنّشاط البشريّ أيضًا أن يؤدّي إلى الغبش. إنّ حرق النّفايات على نطاق واسع، كالحرائق في الغابات الطبيعيّة، يُدخل جزيئات الرّماد القادرة على الانتشار في مساحة كبيرة إلى داخل الهواء. يمكن لمواقع البناء الكبيرة، والمحاجر والحرث في الحقول أن تخلق غبشًا محليًّا.
يأتي إلينا بشكل أساسيّ من الصحراء. كوالالمبور، عاصمة ماليزيا، مغطّاة بالغبش | تصوير: MIFAS, Shutterstock
الضَبْخان (الضّباب الدّخانيّ)
الضّباب الدّخانيّ (smog) هو دمج لكلمتَي الضّباب والسناج الدخانيّ، والّذي يصف حالة تلوّث الهواء الشّديد الناتج غالبًا عن نشاطٍ بشريّ مثل حرق الوقود أو الصّناعة الكيميائيّة. بينما يكون الهواء في الضّباب والغبش محمّلَين بجسيمات سائلة أو صلبة فقط، فإنّ الضَبْخان يحوي العديد من المكوّنات الغازيّة الّتي تُضفي على الهواء إلى جانب الجسيمات الصلبة والسائلة، درجاتٍ مختلفة من اللّون الرماديّ، أو الأصفر أو البنيّ. من الناحية البصريّة، يمكن أن يكون تشابه كبير بين الغبش والضَبْخان، إذ إنّ الغبش يُعتبَر ظاهرة تغطّي مناطق جغرافيّة واسعة، بينما الضَبْخان يكون بوجهٍ عامّ في نطاقٍ محلّيّ، ويُرى من بعيد كطبقة هوائيّة منخفضة تحوم فوق المدن. على الرغم من أنّ مصطلح الضَبْخان يتضمّن كلمة ضباب، فإنّه لا يتطلّب وجود قطرات الضباب.
تتشكّل الغازات الرئيسة في الضَبْخان من أكاسيد النيتروجين، وأكاسيد الكبريت والأوزون. عنصرٌ مهمّ آخر في الضَبْخان هو السناج الدخانيّ الّذي يتكوّن من مركّبات كربون مختلفة في الحالة الغازيّة أو الصلبة، المُنبَعِثة أثناء الاحتراق الجزئيّ للوقود الهيدروكربونيّ مثل الفحم والنفط. يعود مصدر الغازات والجسيمات الّتي يتكوّن منها الضَبْخان إلى الاحتراق الداخليّ في محرّكات المركبات، ومحطّات الطاقة الفحميّة وحتّى في مواقد التدفئة البيتيّة الّتي تعتمد على حرق الأخشاب، أو الفحم أو النفط. لذلك؛ فإنّ ظاهرة الضَبْخان تتميّز خصوصًا في المدن المزدحمة أو تلك ذات الشّتاء البارد، وتُشكّل خطرًا صحيًّا جسيمًا في أرجاء المدن.
إحدى العمليّات الفيزيائيّة المشتركة في تشكّل الضَبْخان تُدعى الضَبْخان الكيميائيّ الضوئيّ: تفاعُل وتحلُّل مركّبات غازيّة ملوّثة بواسطة أشعّة فوق بنفسجيّة من الشّمس من أجل تكوين غازاتٍ جديدة، بعضها شديد التّفاعل وخطيرٌ للغاية. على سبيل المثال، يمكن أن يسبّب الإشعاع في اتّحاد أكاسيد النيتروجين مع الأوكسجين لإنتاج غاز أوزون (O3)، وهو سامّ وغير مستقرّ. يظهر عدم استقرار الأوزون بتفاعله السّريع مع الغازات الأخرى في الضَبْخان من أجل تكوين مركّبات سامّة إضافيّة مثل بيروكسي أصيل- نترات. يزيد الأوزون أيضًا من تحويل أكاسيد الكبريت والنّيتروجين في الضَبْخان إلى حامض الكبريتيك والنتريك، والّتي تُمتصّ إلى قطرات المطر وحتّى إلى قطرات الضّباب؛ ما يؤدّي إلى هطولِ أمطار أو ضباب حمضيّ يضرّ بالنظام البيئيّ، والمباني والبُنية التحتيّة.
يُعدّ تلوّث الهواء الناتج عن الصّناعة ووسائل النّقل السبب الرئيس للضَبْخان في المدُن الكثيفة. مصانع ينبعث منها دخان ملوّث | تصوير : TR STOK, Shutterstock
انعكاس درجات الحرارة
إحدى ظواهر العِلم الجويّ الّتي تُسهِم في تكوين الضّباب، والغبش والضَبْخان هي انعكاس درجة الحرارة أو الانقلاب الحراريّ، في الطّبقة السّفلى من الغلاف الجويّ الّتي تُدعى طبقة التروبوسفير أو المتكوّر الدوّار. بشكلٍ عامّ، تكون درجات حرارة الهواء في طبقة التروبوسفير أقلّ كلّما زاد الارتفاع. لكن، يحدث وضع عكسيٌّ في بعض الأحيان، إذ تكون طَبقة الهواء السفليّة الّتي تلامس السطح أبرد من الهواء فوقها. نظرًا لكون الهواء البارد أكثرَ كثافةً من الهواء الحارّ، فإنّه لا يسعى إلى الصعود إلى الأعلى، وتبقى الطبقة السّفليّة من الهواء في مكانها وتمكّن الجزيئات والغازات من التجمّع فيها بتركيزات عالية بسبب تدفّق الهواء العموديّ دون الانتشار في الفضاء.
لهذا السّبب أيضًا ينبعث الدخان بواسطة مداخن عالية جدًّا في محطّات توليد الطّاقة الّتي تحرق الوقود الأحفوريّ، تكون وظيفتها توجيه الغازات وجزيئات الدّخان فوق طبقة التروبوسفير، حتّى لا تتراكم بالقرب من السطح وتُشكّل خطرًا صحيًّا.
يتسبّب الهواء البارد القادم من الجبال في حدوث الانقلاب الحراريّ وتفاقم مشكلة التلوّث في الهواء. الضَبْخان في مكسيكو سيتي | تصوير: LukeandKarla.Travel, Shutterstock
يمثّل الضَبْخان المتراكم تحت طبقة التروبوسفير مشكلة رئيسة في المدن الكبيرة، الّتي تميل إلى إنشاء "جزر حراريّة مدنيّة" حولها، بسبب امتصاص كبيرٍ لأشعّة الشّمس مقارنةً بالأسطُح الطبيعيّة. أمّا في ساعات اللّيل، عندما يتوقّف إشعاع الشّمس، قد ترتفع طبقة الهواء الحارّ الّتي تغطّي سطح المدينة قليلًا وتمكّن الهواء البارد المتواجد في تلك الأرجاء من الدخول تحتها لحدوث الانقلاب الحراريّ. تزداد خطورة هذه الظاهرة في المدن المتواجدة داخل الوديان، مثل مكسيكو سيتي وأولان باتور في منغوليا، حيث ينزل الهواء البارد من قِمم الجبال أثناء الليل إلى أسفل هواء المدن الدافئ وينحصر تحته. هذه المدن، مثل العديد من المدن الأخرى المتواجدة في تضاريس مشابهة، تعاني من تلوّث هوائيّ شديد للغاية، ويتعرّض سكّانها لخطرٍ متزايد للإصابة بمشاكل صحيّة مختلفة والموت المبكّر نتيجة لذلك.
هذه هي الظّواهر البارزة الّتي تؤثّر في صفاء الغلاف الجويّ. بعضها آثار جانبيّة لعمليّات خارجة عن سيطرتنا، مثل العواصف الرمليّة، أو حرائق الغابات الطبيعيّة أو الانفجارات البركانيّة، لكنّ بعضها ناتج أو يتأثّر بشكل كبير من تلوّث الهواء الّذي هو من صنع الإنسان. نحن قادرون، ويجب علينا، تقليلها من أجل التّمتّع بشكل أكبر بالمناظر الطّبيعيّة في عالمنا، ولكن أوّلًا وقبل كلّ شيء من أجل صحّتنا.