نحن نرى في صفة الكَسَل عيبًا، مع ذلك، قد يعود بقاء حيوان الكسل على قيد الحياة إلى نمط حياته الكسول بالذات

 

تُعرّف الفعاليّة أو النجاعة بأنّها القدرة على النجاح في نيل الأهداف دونما تأخير. إلّا أنّ هذا التعريف ليس مقبولًا على حيوان الكسلان، "الكسول": فهو بطيء في مشيته وفي تناوله لطعامه وفي نومه وحتّى في رَمْش عيونه. كيف استطاع هذا المخلوق البطيء البقاء على قيد الحياة بين سائر الحيوانات الّتي تسبقه في نيل مُرادها؟ 

الكسلانيّات هي ثديّات تنتسب للرتبة العليا غريبات المفاصل- قليلة الأسنان- وتشمل دُببة النمل والأرماديللو (المُدرّع). تعيش هذه الحيوانات على قمم الأشجار في غابات أمريكا الوسطى والجنوبيّة، وهي تكاد لا تنزل إلى الأرض. إنّها حيوانات منفردة أي إنّها تعيش وحيدة  لا في مجموعة، وتلتقي ببعضها البعض في موسم التكاثر فقط. 

تربط حيوان الكسلان علاقة وطيدة بالأشجار. فهي، أي الأشجار، تمنحه مخبأً من الحيوانات المفترسة، الأمر الّذي يتيح له اعتماد أسلوب معيشة بطيء دون الحاجة للهروب السريع أو الهجوم- وكلاهما يتطلّب إهدارًا هائلًا للطاقة. يمكن أن تعيش الكسلانيّات عشرات السنين، وهذه فترة حياة طويلة جدًّا لمن لا يُشغل نفسه بشيء. يُعتبر جزء من الكسلانيّات آكل كلّ شيء حيث إنّها تصطاد الزواحف الصغيرة و مفصليّات الأرجل الّتي تمرُّ بمحيطها، إلّا أنّ المصدر الرئيس للحصّة الأكبر من غذائها هو الأشجار الّتي تقطن عليها: ورق الشجر بشكل خاصّ والثمار وأحيانًا قشور الشجرة.  


 كسلان هوفمان ذو الأصابع المزدوجة. يتغذّى على ورق الشجر بشكل رئيس،  والأزهار أيضًا، وقلّما يتغذّى على الحيوانات الصغيرة | تصوير: Milan Zygmunt, Shutterstock

متشابهة ولكنّها مختلفة

لم تكن الكسلانيّات كَسلى إلى هذا الحدّ دائمًا، ومنها كسلان الأرض الضخم النشط والفعّال الّذي كان يلتهم الأفوكادو والّذي قارب وزنه وزن فيل متوسّط الحجم، فقد مشى أجدادها القدماء على الأرض لمدّة استمرّت ما يقارب 35 مليون سنة، إلى أن انقرضت قبل حوالي عشرة آلاف سنة، على ما يبدو بسبب العصر الجليديّ، تزامنًا مع ظهور الإنسان في قارّة أمريكا. تطلّب البقاء على قيد الحياة في الظروف السائدة الجديدة تكيّفًا تطوّريًّا، وحيوانات الكسلان صغار الحجم قاطنة الأشجار هي الّتي بقيت على قيد الحياة إذ صمدت بوجه التغيّرات المحيطة بها من جهة، ولم تُشكّل صيدًا جذّابًا للإنسان من الجهة الأخرى.  

توجد اليوم فصيلتان من حيوانات الكسلان، الكسلان ذو الأصابع المزدوجة والكسلان ثلاثيّ الأصابع، وتشمل كلّ فصيلة منها عددًا من الأنواع. ينبع التقارب بين الفصيلتين من التطوّر التقاربيّ- التطوّر المستقلّ للميزات المتشابهة في الأنواع ذات الأنساب المختلفة، الّتي لم تتواجد هذه الميزات لدى جدّها المشترك الأخير، أي أن يُطَوّر كائنان مختلفان من أصلَين مختلفَين غير متعلّقين صفاتٍ وميزات حيويّة متقاربة أو متطابقة- وليس من علاقة قرابة تطوّريّة. 

توجد، إلى جانب أوجه الشبه بين الكسلان من الصنفين، اختلافات بارزة أيضًا: الكسلان ذو الأصابع المزدوجة أكبر حجمًا (قليلًا) من ثلاثيّ الأصابع، وله عدد أكبر من الأضلاع (21 زوجًا من الأضلاع مقابل 14 لدى ثلاثيّ الأصابع)، ولا ذيل له. ذيل ثلاثيّ الأصابع قصير، وعدد فقرات عنقه أكبر ممّا لِمزدوج الأصابع، وله  إصبع ثالثة في أرجله الأماميّة. توجد ثلاث أصابع في الأرجل الخلفيّة للكسلان من الفصيلتَين.  


 في الصورة نوعان من الكسلان المعاصر وأربعة أنواع أخرى منقرضة أبناء نفس العائلة. كان أجداد الكسلانيّات القدامى ضخام الجثّة ويمشون على الأرض. | الرسم التوضيحيّ: © Jorge Blanco

من ذا الّذي حرّك عُنقي؟ 

يشذّ عدد فقرات رقبة كلا فصيلتي الكسلان عن عددها لدى سائر الثديّات، علمًا بأنّ عددها لدى ثلاثيّة الإصبع يزيد عنها لدى مزدوجة الأصابع (ثمانٍ إلى تسع فقرات مقابل خمس إلى سبع). توجد لمعظم الثديّات- من الهامستر صغير الحجم حتّى الزرافة الّتي يصل طول عنقها مترين- سبع فقرات في رقبتها؛ حجم الفقرات، وليس عددها، هو الّذي يحدّد إجمالي طول العنق. أضف إلى ذلك أنّ لِتغيّر عدد فقرات الرقبة لدى الثديّات صلة بالعرضة المتزايدة للوفاة في المرحلة الجنينيّة، وصلة بالسرطان والأمراض الأخرى في الجيل المُبكّر والاضطرابات العصبيّة مثل متلازمة مخرج الصدر، الّتي تنجم عن الضغط الّذي يؤثّر به الهيكل العظميّ في الأعصاب وفي الأوعية الدمويّة. يبدو أنّ هذا هو السبب في عدم وجود الكثير من الثديّات الّتي يختلف عدد فقرات رقبتها عن سبع فقرات: غالبًا ما تمنع الطفرات الوراثيّة في هذا المجال الكائنَ الحيّ بلوغَ مرحلة النضج الجنسيّ وإنجاب الذرّيّة القادرة على الإنجاب. 

إلّا أنّ حيوانات الكسلان، بالمقابل، لا تعاني من هذا المصير الكئيب، وهي تعيش حياة طيّبة مع وجود خمس أو ستّ أو ثمان أو تسع فقرات في عنقها. كيف حدث ذلك؟  جميع غريبات المفاصل، بما فيها الكسلان، مقاومة للسرطان، ويسود الاعتقاد بأنّ لِلوتيرة البطيئة لِلعمليّات الأيضيّة دورًا في ذلك. بالإضافة، تُعوّض قلّة حركتها وبطئها عن الضغط الّذي يؤثّر به الهيكل العظمي في الجهاز العصبيّ. ذلك يعني أنّ أسلوب الحياة الكسول لهذه الحيوانات أتاح بقاءها على قيد الحياة على الرغم من الطفرة الوراثيّة، بل وتوريثها للأجيال القادمة.  


شذوذ في عدد فقرات الرقبة. في الصورة هيكل عظميّ لحيوان كسلان ثلاثيّ الإصبع متمسّك بالشجرة | تصوير: Patrick Landmann / Science Photo Library

كيف يبقى الكسلان متعلّقًا بالشجرة?

ليس من السهل أن يكون الكائن كسولًا إلى هذا الحدّ. هل حاولتم مرّة التعلّق بشجرة بشكل مقلوب دونما أيّة حركة؟ ذلك يتطلّب إمساك الغصن بكلتا اليدين والرجلين بقوّة، كما أنّ التعلّق بالمقلوب يضغط على الرئتين ويجعل التنفّس أكثر صعوبة. كيف تفعل حيوانات الكسلان ذلك، وتوفّر الطاقة أيضًا. يكمن السرّ الأوّل في الأظافر. أصابع الكسلان مزوّدة بمخالب طويلة حادّة قد يصل طولها عشرة سنتيمترات، يُحكِم بها الحيوان إغلاقه على الغصن. يمكنه بذلك إرخاء عضلاته ولا يحتاج لبذل الطاقة للإمساك بالغصن. لكن، ماذا بالنسبة لقوّة الجاذبيّة؟ وكيف يمكن التنفّس في هذه الهيئة المقلوبة؟ اتّضح من خلال دراسة أجريت على الحيوان الكسلان ثلاثيّ الإصبع، وجود نسيج ضامّ خاصّ يعمل على إبقاء الأمعاء مكانها، فيمنع بذلك منها (أي الأمعاء) الضغط على الرئات. 

ليس الحيوان الكسلان قليل الحركة فحسب بل هو في حالة دائمة من الغيار البطيء (الحركة البطيئة): تعمل جميع أجهزة جسمه ببطءٍ كبير بالمقارنة مع الثديّات الأخرى ذات الحجم القريب من حجمه. كما أنّ وتيرة العمليّات الأيضيّة والهضم لديه منخفضة إلى حدّ كبير.هضمه للغذاء بطيء لدرجة أنّ الغازات الّتي تنتجها بكتيريا أمعائه أثناء تحليل الغذاء لا تتراكم في الأمعاء وإنّما يتمّ امتصاصها في الدورة الدمويّة وتخرجُ في عمليّة الزفير. بكلمات أخرى، إذا صادف أن تجوّلتَ  في إحدى الغابات المطيرة وشممت رائحة كريهة، فإنّ هذه الرائحة لا يمكن أن يكون مصدرها فِساء أو ضراط حيوان كسلان- فهويُخرج الغازات عن طريق التنفّس (في الزفير) وليس عن طريق الأمعاء والشرج. 

ڤيديو: ديڤيد أتينبورو يمنح حيوانات الكسلان لقب "كومة السماد المحمولة" بسبب وتيرة الهضم البطيئة لديها

عن الضروريّات وعن البيض 

على الرغم من أنَّ حيوان الكسلان لا يتحرّك كثيرًا إلّا أنّ ظاهرةً غريبة شوهدت لدى بعض الأنواع من هذا الحيوان. تخالف هذه الأنواع قاعدة قلّة الحركة مرّةً في الأسبوع على وجه التقريب: تشدُّ أزرها وتأخذ نفسًا عميقًا وتنطلق في رحلة نحو أسفل الشجرة حيث تُحرّكُ حوضها بشكل دورانيّ في رقصة تهدف إلى حفر حفرة صغيرة في الأرض. يستقرّ الحيوان عندها داخل الحفرة ويقضي حاجته فيها (يُبَرّز فيها). قد يضاهي وزن براز الكسلان ثلث وزن جسمه- ذلك لأنّه يخرجه مرّة كلّ أسبوع إلى عشرة أيام. من اللافت للنظر أيضًا أنّ هذه الرحلة الأسبوعيّة غالبًا ما تنتهي في نفس المكان: تقضي حيوانات الكسلان حاجتها في نفس النقطة تحت شجرتها المفضّلة. 

على ضوء هذه العمليّة الغريبة الّتي تتطلّب جهدًا جسمانيًّا وتُعرّض الحيوان للمخاطر، لا بدّ أن يُطرحَ سؤال من منظار تطوّريّ: لمَ هذا المجهود؟ لماذا لا يتخلّص الحيوان الكسلان من إفرازاته من على قمّة الشجرة دون الحاجة لبذل مجهود في النزول عنها وحفر الحفرة في الأرض ثمّ التسلّق عائدًا إلى قمّة الشجرة؟ الحقيقة هي أنّنا لا ندري ما السبب، إلّا أنّ لدينا بعض الافتراضات في هذا الشأن. افترض باحثون من جامعة ويسكونسن، من خلال مقالة نشروها سنة 2014 ، افتراضًا معقّدًا. تعيش حيوانات الكسلان في بيئة محيطة رطبة بلا حركة وبلا اغتسال طبعًا، الأمر الّذي يجعل فروتها منبتًا وموطنًا للطحالب الّتي تُكسب الفروة صبغة مخضرّة اللون تساعد الحيوان في التخفّي داخل قمّة الشجرة. عوضًا عن ذلك، فقد وجد العثّ له مسكنًا داخل فروة الحيوان الکسلان، ويستعين العثّ بتخفّي الكسلان بالطحالب فيعمل على تسميد فروته.  

يدّعي هؤلاء الباحثون أنَّ رحلة الكسلان الأسبوعيّة هدفها تهيئة مكان دافئ وآمن للعثّ لتضع بيوضها- داخل براز الكسلان بالطبع- ويضمن الاستخدام المتكرّر لنفس المكان للعثّ دورة حياة كاملة داخل فروة الحيوان. 

ووفقًا لافتراض آخر فإنّ بُراز الكسلان يُستخدم في التواصل، بما يشبه "وصف حالة" الشجرة لصالح حيوانات كسلان أخرى: هل هذه الشجرة محجوزة؟ ولربّما تختبئ في قمّتها أنثى في فترة الشّبق؟   


في الصورة: حيوان الكسلان ثلاثيّ الإصبع بُنّيّ الحلق. ينزل عن الشجرة مرّة كلّ أسبوع ليقضي حاجته. | المصدر: Parkol, Shutterstock

التعامل مع تغيّر درجات الحرارة- دون فعل شيء

غالبيّة الثديّات هي ثابتة أو متجانسة الحرارة، أي إنّه بمقدورها ضبط حرارة جسمها والمحافظة على درجة حرارة ثابتة على امتداد فصول السنة. بالمقابل، فإنّ كائنات أخرى، مثل الزواحف، هي متغيّرة الحرارة، "ذوات الدم البارد"- تتأثّر درجة حرارة جسمها بدرجة حرارة البيئة المحيطة وتتغيّر مع تغيّر فصول السنة. لا تخضع الكائنات ذوات "الدم الحارّ" لفضلِ البيئة المحيطة ورحمتها فهي قادرة على العيش في الظروف القاسية أيضًا بفضل القدرة على ضبط حرارة جسمها. إلّا أنّ هذه الصفة مُكلفة: يستهلك ضبط حرارة الجسم كميّة كبيرة من الطاقة، الأمر الّذي يُلزم الكائن تناول كميّات كافية من الطعام لتوفيرها. 

الطريقة الرئيسة الّتي يستخدمها الكسلان، على الرغم من أنّه من الثديّات، لِضبط حرارة جسمه هي الانتقال إلى مناطق أكثر حرارة أو أكثر برودة على الشجرة، طريقة تُذكّر بالزواحف. يفضّل الكسلان الاستلقاء على ظهره في مكان مُضاء موجِّهًا بطنه نحو ضوء الشمس في ساعات الصباح؛ بهذه الطريقة هو يوفّر الحرارة لبكتيريا أمعائه أيضًا، البكتيريا الّتي تساعدُهُ في هضم الغذاء. 

وتسهم البيئة المحيطة الّتي يعيش فيها حيوان الكسلان في توفير الطاقة. تعيش حيوانات الكسلان، بجميع أنواعها،  في المناطق الاستوائيّة ذات المناخ الحارّ والرطب والّذي يكاد لا يتغيّر طوال فصول السنة. لا يحتاج حيوان الكسلان إلى الاهتمام كثيرًا بموازنة درجة حرارة جسمه بفضل درجة الحرارة المريحة والثابتة نسبيًّا. تبقى وتيرة عمليّات الأيض لدى الكسلان ثابتة تقريبًا ما دامت درجات حرارة البيئة المحيطة ثابتة هي الأخرى. الشيء الأكثر إثارةً للاهتمام هو ما يحدث مع الكسلان عندما تكون درجات حرارة البيئة المحيطة أقلّ اعتدالًا


يعيش في المناطق الاستوائيّة ويوفّر الطاقة. في الصورة جرو الكسلان ثلاثيّ الأصابع والّذي شارك في الدراسة حول العمليّات الأيضيّة.

يزداد نشاط أجسام غالبيّة الثديّات عندما تسود درجات حرارة متطرّفة في بيئتها المحيطة: ترتعش أجسامنا عندما يكون الطقس شديد البرودة وذلك للتسخين، ونتعرّق عندما يكون الطقس شديد الحرارة كي تبرد أجسامنا. بالمقابل، تلائم الزواحف، درجة نشاطها مع درجة الحرارة: تكاد تكون عديمة النشاط عندما تسود درجات حرارة منخفضة، وتزداد وتيرة نشاطها مع ارتفاع درجات الحرارة.  

يتبنّى حيوان الكسلان استراتيجيّة مغايرة. تهبط وتيرة عمليّات الأيض لديه عندما تسود درجات حرارة غير مواتية له، سواء كانت درجة الحرارة منخفضة جدًّا أو مرتفعة جدًّا. يُبطئ الكسلان من وتيرة عمليّات الأيض، بما فيها وتيرة نبضات القلب، ويدخل في حالة تُذكّر ب "نوم الشتاء"، إلى أن تتغيّر درجة حرارة البيئة المحيطة، ذلك بدلًا من أن يحاول تبريد جسمه أو تدفئته. لا يحتاج الكسلان، بفضل ذلك، لبذل جهد لموازنة درجة حرارة جسمه. 

سرُّ البُطء

يفعل الكسلان كلّ شيء ببطءٍ كبير. يبدو أنّ هذه هي الطريقة الّتي تُمكِّنه من البقاء على قيد الحياة، على الرغم ممّا قد يتراءى بأنّها طريق الخسارة الحتميّة. ينام الكسلان حوالي عشر ساعات خلال الأربع والعشرين ساعة، ويختبئ من الحيوانات المفترسة في قمم الأشجار، ويستهلك ما بين مئة ومئتي سعرة حراريّة ولا يُسرف المزيد منها. أنشأت عالِمة الحيوانات لوسي كوك رابطة تقدير الكسلان قبل حوالي عقد من الزمن هدفها حماية هذا الحيوان من خلال مشاريع المحافظة على الطبيعة، جنبًا إلى جنب مع محاولة تحسين موقف الجمهور تجاه الحيوان وتغيير النظرة السلبيّة الّتي التصقت به. تُقدِّسُ هذه الرابطة أسلوب الحياة "الكسول" وتشجّع الناس على اعتماد طريقة حيوان الكسلان: زيادة النجاعة في استهلاك الطاقة، والانتباه للفضلات الّتي نُكوّنها، والإبداع في عمليّات التدوير وعدم التوقّف عن "حَضن" الشجرة ورعايتها والاعتناء بها. 

 

0 تعليقات