قد يحدث الحمل، وهو من أعجب العمليّات وأكثرها تعقيدًا في جسم الإنسان، أحيانًا، خارج الرحم - مكانه الطبيعيّ. هذه قصّة حمل نادر وخطير، نهايته سعيدة

تخيل أنّك طبيب في قسم العناية المركّزة، تمّ استدعاؤه لعلاج امرأة شابّة تعاني من أوجاع شديدة في البطن. لا بد أن تعلو في ذهنك، في طريقك إليها، الأسباب المحتملة لهذه الأوجاع، ثمّ تستعدّ لفحصها. لم يحدث أن تكون صادفت مثل هذه الحالة في الماضي، على الرغم من المفاجآت والحالات الشاذّة التي اعتدت أن تواجهها. نَجمت الأوجاع الشديدة عن حمْلٍ نادر جدًّا: حمل خارج الرحم. اكتشفت هذه المرأة، بفضل أوجاع البطن، حالة شاذّة جدًّا، أنّها في أسبوع متقدّم من الحمل خارج الرحم. سلِمت الأم وطفلها رغم كلّ الصعاب.


آلام البطن الشديدة هي أحد مؤشّرات الحمل خارج الرحم. نشاهد في الصورة امرأة تعاني من أوجاع في منطقة البطن والحوض |تصوير توضيحي: Alona Siniehina, Shutterstock

 

كيف قابلت أمّي؟

يبدأ الحمل بِخروج بويْضة من أحد المبيضيْن، هذا ما يحدث مع كلّ امرأة من سنّ بلوغها الجنسيّ حتّى نهاية الإباضة. تتحرّك البويضة على طول البوق الرحميّ (قناة فالوب) وتتحلّل، في معظم الحالات، وتنتهي رحلتها. تلتقي البويضة، في حالات نادرة، بِخلايا منويّة وصلت في الوقت المناسب. تبدأ عشرات الملايين من الخلايا المنويّة رحلتها من المهبل، تنجح منها حوالي مئتا خليّة فقط في دخول البوق الرحميّ، وتحاول كلّ منها اختراق جدار البويٍضة. تنقل الخلية المنويّة التي تنجح باختراق جدار البويْضة مادّتها الوراثيّة إليها، وتسمّى هذه البويضة المخصّبة بالزيڠوت، وعندها يبدأ التطوّر الجنينيّ.

يبدأ انقسام الزيڠوت بعد مرور ما يقارب الأربع وعشرين ساعة على إخصابها - انقسامها إلى خليّتيْن، والخليّتان إلى أربع وهلمّ جرا. يحدث الانقسام أثناء حركة البويْضة المخصّبة داخل البوق الرحميّ باتّجاه الرحم. يصبح الجنين مكوّنًا من مائة خليّة بالتقريب بعد  حواليْ خمسة إلى ستّة أيام، ويسمّى عندها بِالكيسة الأريمية أو كيس البلاستولة (Blastocyst)، ويحين وقت استيعابه داخل الرحم.

 

العضو الذي يتضاعف حجمه ألف مرّة

يزوّد الرحم الجنين بالغذاء والحماية، وبمساحة وظروف بيئيّة مناسبة للنموّ حتّى خروجه إلى العالم. يتكوّن الرحم من ثلاث طبقات: بطانة الرحم (Endometrium) حيث يتجذّر الجنين، وهي تُفرَز أثناء الحيض إذا لم يكن هناك حمْل، وعضل الرحم (Myometrium)، وهي الطبقة العضليّة التي تتيح نموّ الرحم أثناء الحمل، والغِلالة المَصْلِيَّةُ للرَّحم (Perimetrium)، وهي طبقة خارجيّة رقيقة وزلقة تسهل حركة الرحم في تجويف الحوض والبطن. 

تتغيّر خصائص الرحم في بداية عمليّة الإباضة، كي يتأهّل لاستيعاب البويضة المخصّبة. يزداد سمك بطانة الرحم، وتتلقّى المزيد من إمدادات الدم، الأمر الذي يساعد في نموّ الجنين وتغذيته. يتضاعف حجم الرحم، مع تقدّم الحمل، 500 إلى 2000 ضعف حجمه في بداية الحمل - من عشرة مليلترات حتّى خمسة إلى عشرين لترًا

تصل الكيسة الأريميّة (البلاستولا)، التي تطوّرت من البويْضة المخصّبة، إلى الرحم في اليوم السابع من الحمل، بالمعدل. تحاول البلاستولا الالتصاق ببطانة الرحم والتجذّر في جداره، كي تتغذّى من الأم وتنمو. تُفرَز البلاستولا من الجسم مع البطانة في الحيض، إذا لم تتكلّل عمليّة التجذّر بنجاح، ولا تعرف المرأة في هذه الحالة أنّ الإخصاب قد حصل فعلًا. تمر حوالي نصف البويضات المخصّبة فقط في عمليّة التجذّر بنجاح، بينما تُفرز البويْضات المخصّبة الأخرى من الجسم. 


يستوعب الرحم البلاستولا النامية ويوفّر بيئة مناسبة لتطوّر الجنين ونموّه خلال فترة الحمل. جنين في رحم أمّه | الرسم التخطيطيّ: Creations, Shutterstock

النموّ خارج المنزل

مصدر مصطلح الحمل الاكتوبيّ، الحمل خارج الرحم أو الحمل المنتبَذ (Ectopic pregnancy)، هو الكلمة اليونانيّة "إكتوبوس" (Ektopos)، التي تعني "خارج المكان". تتجذّر البويْضة المخصّبة في هذا الحمل خارج الرحم بدلًا من داخله. غالبًا - في حوالي 97 بالمائة من الحالات  - ما يتجذّر الجنين في حالة الحمل المنتبذ في البوق الرحميّ (قناة فالوب). قد يحصل التجذّر، في حالات نادرة نسبيًّا، في المبايض، أو في عنق الرحم أو في تجويف البطن.

يشكّل الحمل المنتبذ خطرًا على حياة المرأة، وهو العامل الأكثر شيوعًا لوفاة النساء الحوامل خلال الثلث الأول من الحمل - تبلغ فيه نسبة الخطر على الحياة  9 إلى 14 بالمائة من الحالات. تبلغ نسبة شيوع حالات الحمل خارج الرحم اثنين بالمائة، أي يحصل التجذّر خارج الرحم في اثنتين من كلّ خمسين حالة إخصاب. نسبة شيوع هذه الظاهرة في هذه الأيام هي أكثر ممّا كانت عليه في الماضي، وهي في ازدياد في العقود الأخيرة بسبب عوامل الخطورة، منها التدخين، علاج الخصوبة، ممارسة الجنس في جيل مبكّر، الحمل في جيل متقدّم، استخدام اللولب الرحميّ لمنع الحمل، عمليّات جراحيّة في الحوض و حمل منتبذ سابق. 

كيف يمكن الكشف عن الحمل خارج الرحم؟ من الصعب اكتشافه خلال الأسابيع الأولى من الحمل لأنّ الشكاوى التي من شأنها أن تثير الشكوك لا تظهر إلّا مع التقدّم في الحمل، غالبًا من ستة إلى ثمانية أسابيع، وهي تشمل آلامًا في أماكن متفرّقة من البطن، نزيفًا دمويًّا مهبليًّا، غثيانًا، دوخة، وقد تصل إلى فقدان كمّيّة كبيرة من الدم وفقدان الوعي. أخطر المضاعفات التي تسبّب النزيف وتهدّد الحياة هي تمزّق قناة فالوب (البوق الرحميّ). البوق الرحميّ ليس مهيّئًا - كما الرحم الذي يمكن أن يتمدّد ويزداد حجمه كي يحتوي الجنين الآخذ بالنموّ- لاحتواء كيس الحمل، ولا يصمد بالضغط الذي يؤثّر به الجنين عليه من الداخل، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تمزّقه وحدوث نزيف دمويّ.


ينمو الجنين في تجويف البطن في واحد بالمائة فقط من حالات الحمل المنتبذ (الحمل خارج الرحم)، كما في هذه الحالة. في الصورة: بداية نموّ الجنين في تجويف بطن الأم | الرسم التخطيطيّ: Timonina, Shutterstock

 

قد تظهر قيم متدنية من الهيموڠلوبين وكريات الدم الحمراء في الدم (Hematocrit) - ما قد يرمز إلى فقدان الدم - في فحوصات دم المرأة الحامل خارج الرحم. يمكن أيضًا متابعة مستويات الهرمون بيتا - HCG في الدم، وهو هرمون يُفرَز من المشيمة خلال الحمل، ويُستخدم فحص وجوده للتحقّق المنزليّ من حدوث الحمل. تزداد مستويات هذا الهرمون مع تقدّم الحمل السليم - ويثير عدم ارتفاع مستوياتِه، كالمتوقّع، الشكوك بحدوث حمل خارج الرحم.  

من شأن شكوى المرأة الحامل والفحوصات المخبريّة أن تزيد من شكّ الطبيب الخاصّ بحدوث حمل خارج الرحم، لكنّ التشخيص المؤكّد يتمّ من خلال فحص بالموجات فوق الصوتيّة (الأولترا ساوند) الذي يجب إجراؤه، وقد يظهر فيه رحم فارغ وكيس الحمل خارجه. يعتبر فحص الأمواج فوق الصوتيّة في هذه الحالة بمثابة " المعيار الذهبيّ" (Gold Standard)، أي أنّه الوسيلة الأكثر دِقّة، والمتوفّرة لدينا اليوم، لتشخيص الحالات الجسمانيّة والأمراض.  

هناك ثلاث طرق لمعالجة الحمل المنتبذ (خارج الرحم): العلاج المحافظ، والعلاج بالأدوية أو العمليّة الجراحيّة. يتجسّد العلاج المحافظ في عدم وجود حاجة للتدخّل الطبّيّ عدا عن المتابعة، ذلك إذا كانت حالة المرأة الحامل مستقرّة من الناحية السريريّة، ومن المتوقّع أن يتوقّف الحمل بشكل طبيعيّ ويمتص الجسم الجنين. أمّا إذا لم يكن من المتوقّع أن يتوقّف الحمل بشكل طبيعيّ، وتمّ تشخيص الحالة في مرحلة مبكّرة من الحمل، فمن الممكن، في بعض الحالات، وقف الحمل وإنهاؤه بواسطة العلاج بدواء الميثوتريكسيت (Methotrexate) - دواء يضعِف إنتاج حمض الفوليك (الڨيتامين B9) ويعيق استمرار نموّ خلايا الجنين. إذا كان الحمل متقدّمًا، أو إذا كانت الحالة السريريّة للمرأة غير مستقرّة، يستدعي ذلك علاجًا جراحيًّا يُزال فيه كيس الحمل أو يُقطع البوق الرحميّ.


إذا لم يتوقّف الحمل بشكل طبيعيّ، يمكن إنهاؤه بواسطة الأدوية التي تعيق نموّ الجنين، مثل الميثوتريكسيت. في الصورة حبّة دواء لإنهاء الحمل | تصوير: Sonis Photography, Shutterstock

الولادة التي ناقضت الإحصائيّات

هيا بنا نعود إلى الحالة التي افتتحنا بها المقالة: امرأة عمرها 37 سنة من جزيرة ريونيون (Réunion) الفرنسيّة، قد وصلت إلى غرفة الطوارئ بسبب أوجاع شديدة في البطن، وانقباضات في العضلات قد استمرّت لمدّة عشرة أيّام. أمّا المفاجأة فكانت عندما لاحظ الطاقم الطبّيّ من خلال الفحص الأوّليّ أنّ بطن المرأة كان بارزًا، وبدا كأنّه بطنُ حَمل. شكّ الأطباء بأنّ الحالة هي حالة حمل، وحوّلوا المرأة لإجراء فحص الألتراساوند والتصوير بالرنين المغناطيسيّ (MRI) - وذلك لدحض احتمال وجود أمراض أخرى، والتحقّق، ربما، من الحمل. تبيّن أنّ حدس الأطباء كان صحيحًا: لم يكن ذلك مرضًا وإنّما حملًا. أظهر فحص الألتراساوند وجود جنين يقدّر عمره بـِ 23 أسبوع، يتحرّك ويتلوّى داخل بطن المرأة و يركل برجليْه. 

مع ذلك، ما لفت أنظار الأطباء أنّ بطن المرأة كان صغيرًا وفارغًا - وتلك ظاهرة شاذّة بالنسبة لحمل متقدّم، إذ ينبغي رؤية الجنين السليم داخل رحم كبيرة وسميكة. إلّا أنّ الجنين شوهد خارج الرحم، في أسفل البطن، ما أثار الشكّ بأنّ هذا هو حمل منبوذ (خارج الرحم). رأى الأطباء في فحص التصوير بالرنين المغناطيسيّ (MRI) أن الجنين والمشيمة موجودان فوق العجُز(Sacrum) وخارج الرحم، فأقرّوا أنّ هذه هي حالة حمل منبوذ (أكتوبي) بطنيّ. تبلغ نسبة حالات مثل هذا الحمل حوالي واحد بالمائة فقط من مجمل حالات الحمل خارج الرحم، وهو حالة طوارِئ وتشكّل خطرًا على الحياة.

أُجريت عمليّة معقّدة في الأسبوع التاسع والعشرين من الحمل - على الرغم من انخفاض فرص نجاح الولادة، والخطر الذي يهدّد حياة الأم والجنين في هذا النوع من الحمل - تمّ فيها إنقاذ المولود من داخل المحيط الخطِر وغير العادي الذي نما وتطوّر فيه. أنقذ الجرّاحون بذلك حياة الأم وجنينها. تم تسريح الطفل المولود من المستشفى، لينمو ويكبر في حضن أمّه، بعد أن مكث مدّة شهريْن في قسم الخُدّج. كانت، في هذه الحالة، نهاية سعيدة وسليمة لحالة حمْل بالغة الخطورة.

0 تعليقات