منذ أن بدأت الأبحاث حول دراسة الكوكب الأحمر، والبشرية تأمل أن تعثر على الحياة هناك. تُبذل محاولات في ناسا للحدّ من الخطر المحتمَل لأن يكون ما نكتشفه عبارة عن كائنات حيّة جلبناها معنا من الكرة الأرضيّة
تصَوَّروا ذلك اليوم الّذي فيه سيصل روّاد فضاء إلى سطح المرّيخ. سيأخذون عيّنات من التربة والهواء، وسيبحثون فيها عن أكثر ما يُثير فضول البشر: الحياة. لكن، حتّى لو عثروا فعلًا على علامات الحياة هناك – كأيّ بقايا لمادّة وراثيّة – من المُمكن أن يعود أصل منشأها إلى مكان غير المريخ، بل إلى المركبات الفضائيّة ومركبات الإنزال التي أرسلناها إلى هناك من الكرة الأرضية.
في عام 1971، هبط للمرّة الأولى جسمٌ على سطح المريخ من صُنع الإنسان – مركبة الإنزال الروسية مارس 3. ولاحقًا هبط على سطح الكوكب عدد لا بأس به من مركبات الإنزال وعربات الاستكشاف الفضائيّة الآليّة (روفرات)، بل مؤخَّرًا وصلت مروحية مسيَّرة؛ وجميعها من صنع الولايات المتّحدة. هذه الآليّات، من شبه المؤكّد أنّها أحضرت معها جراثيمًا من الكرة الأرضيّة، وربّما بعضٌ منها بقي حيًّا طوال الرحلة في ظروف الفضاء العدائيّة.
إنّ الكثير من الأبحاث التابعة لوكالة الفضاء الأمريكيّة (ناسا)، تتناول هذه المشكلة بالذات وتركّز عليها، حيث تحمل معها تداعيات جمّة وخطيرة. تخضع كلّ وسيلة فضاء تطلقها ناسا إلى عمليّة صارمة من التنقية والتطهير داخل غرف معقَّمة ومطهَّرة قدر المستطاع. لكن هذا لا يكفي، ففي بيئة نظيفة مثل هذه، تتمكّن بعض الجراثيم وكائنات دقيقة (ميكروبات) أخرى من التغلغل.
تخضع كلّ وسيلة فضاء تطلقها ناسا، إلى عمليّة صارمة من التنقية والتطهير. ينظّف الفنيّّون الخلايا الشمسيّة للقمر الصناعيّ MAVEN الموجود الآن في مدار حول المرّيخ | NASA/Jim Grossmann
تلوُّث ذو اتّجاهين
نسمّي هذه الظاهرة – جلب كائنات حيّة وأشكال أخرى من التلوّث، من الكرة الأرضيّة إلى الكواكب الأخرى – بالتلوّث المُرسل (Forward contamination). عمليًّا، هذه الظاهرة مألوفة في الكرة الأرضيّة أيضًا، من خلال بعثات وصلت إلى القارّة القطبيّة الجنوبيّة وإلى أماكن نائية أخرى. يمكن لهذا الشكل من التلوّث أن يضرّ الفئةَ السكّانيّة المحليّة بشكل خطير -إن وُجدت-. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي التلوّث في المريخ إلى انحراف نتائج الأبحاث التي ستُجرى هناك في المستقبل.
لا ينتهي الأمر عند التلوّث المرسل فحسب؛ فعلى الصعيد النظريّ على الأقلّ، يمكن أن يتشكّل لدينا تلوُّث مرتدّ (Backward contamination). في هذه الحالة قد يجلب روّاد الفضاء معهم، عند عودتهم إلى الكرة الأرضيّة، تلوّثًا لم نعرفه في عالمنا. كما رأينا وسط وباء الكورونا، يمكن لجرثومة أو فيروس ظهرا بشكل مفاجئ، التسبّب بمشاكل كبيرة، خاصّةً إذا تمكّنا من التكيّف مع الجسم البشريّ أو مع أنظمة بيولوجيّة أخرى في بيئة الكرة الأرضيّة.
هل هذا هو كلّ ما تركناه في المريخ؟ آثار سيّارة الطرق الوعرة Curiosity فوق سطح الكوكب الأحمر | NASA/JPL-Caltech/MSSS
تنتمي الجراثيم القادرة على البقاء، إلى مجموعة من الكائنات الحية تُدعى إكستريموفيليات (أليفة الظروف القاسية) والتي تستطيع الحفاظ على حياتها في ظروف قصوى، مثل الأشعة الحادّة أو درجات الحرارة العالية أو المنخفضة للغاية. تملك هذه الكائنات أنظمة مميَّزة قادرة على التكيّف والتأقلم مع هذه الظروف القاسية، بل أحيانًا التكيّف بسرعة للبيئة المتغيّرة، ويعود الفضل لطفرات جينيّة جديدة ستتشكّل داخل مادّتها الوراثيّة.
بخصوص هذه الجراثيم التي ستصل إلى المرّيخ، يمكن أن يطرأ عليها الكثير من التغييرات أثناء الرحلة، التي ستسهّل التأقلم والتكيّف جيّدًا مع الإشعاعات الحادّة الكامنة في الفضاء، والتأقلم مع البرودة أو البيئة شحيحة الأكسجين. يمكن أن تصعِّب هذه التغييرات على الباحثين تحديد مصدرَ المادة الوراثيّة التي قد يجدونها في المرّيخ. يأمل الباحثون من وكالة ناسا، بالاستعانة بقاعدة البيانات التي شكّلوها حول الجراثيم من غرف تطوير وتصنيع المركبات الفضائيّة، أن يسهُل تحديد مصدر علامات الحياة هذه، سواءً في الكرة الأرضية أو في المرّيخ نفسه.
بعض الجراثيم قادرة على البقاء حيّة حتّى داخل الغرف المطهَّرة. القيام بتركيب علبة تجميع العيّنات على سيّارة الطرق الوعرة Perseverance في غرفة نظيفة | NASA/JPL-Caltech/KSC
التلوّث في الفضاء -في متسبي ريمون
ليس فقط ناسا مَن تحاول إيجاد الحلول لتلوّث محتمَل على المرّيخ، فهذه القضية تشغل بال باحثين هُنا في إسرائيل أيضًا. في إطار المشروع D-MARS مكثت مجموعة من الباحثين، لمدّة 11 يومًا، في مكان معزول في جرن رامون، لإجراء محاكاة لمهمّة حقيقية على المرّيخ. إنّ أحد أهداف هذا المشروع المبادر، هو تتبُّع عمليّات التلوّث وابتكار طرائق تمنع حدوثها عند القيام بمهامّ مستقبليّة.
اكتشف الباحثون أنّ التلوّث المُرسل والتلوّث المُرتد، يحدثان بسرعة كبيرة جدًّا: خلال أيّام معدودة، تمّ العثور على جراثيم في بعض الأماكن التي فحصوها. كذلك استطاعوا أن يفصلوا ويعزلوا العوامل المؤدّية للتلوث الحاصل عن طريق القفّازات، الأحذية، أدوات ووسائل أخرى ستلاصِق أجسامَ روّاد الفضاء في المريخ. لم تُستخدم في هذه التجربة البحثيّة أي مركبة فضائيّة أو روبوت اللذيْن قد يساهمان في إحداث التلوّث، لكنَّ المشروع المبادَر الإسرائيليّ يحمل معه أملًا لاستخدام ودمج وسائل كهذه (مركبات وما شابه)، عبر تجارب إضافيّة ستجري مستقبَلًا. يأمل الباحثون أن تتمكّن هذه الأبحاث من ترسيخ طرائق عَمَليّة لتجنُّب التلوّث، حيث سيستفيد منها الأشخاص الأوائل الذين ستطأ أقدامهم سطح المرّيخ.
يتّفق معظم الباحثين على أنّه من شبه المستحيل منع التلوث بشكل مطلَق، إذ نجد الجراثيم في أي بقعة على الكرة الأرضيّة: في التربة، الهواء وفي أجسامنا بالطبع. رغم كل الجهود المبذولة لإخماد هذه التأثيرات، ما زالت تُكتشف جراثيم جديدة حتى في محطّة الفضاء الدوليّة. وليست الجراثيم وحدها هي مَن تستطيع البقاء حيّة طوال السفر إلى الكواكب الأخرى؛ هنالك أيضًا أنواع معيَّنة من الفطريات والطحالب أثبتت قدرتها على البقاء في الظروف القصوى السائدة في الفضاء الخارجيّ.
إنّ اليوم الذي سيهبط فيه الإنسان على سطح المريخ ليس بعيدًا إلى هذا الحدّ، ومن ناحية أخرى فإنّ المهامّ غير المأهولة آخذة في التصاعد. يتطلّب الأمر المزيدَ من التجهيزات والأبحاث، وهذا صحيح على المستوى البيولوجيّ أيضًا، لكي نتمكّن من حماية المريخ من الضرر الذي تخلّفه الكائنات الحيّة التي سيجلبها البشر معهم، بل وربما لحماية الكرة الأرضية نفسها من التلوّث المرتد.