أظهرت دراسة جديدة أنّ بكتيريا الجلد تثير استجابةً مناعيّةً في الجسم، وهو اكتشاف قد يدفع إلى تطوير لقاحات جديدة في المستقبل قد تستبدل الحاجة إلى الحُقن

تخيّل أنّه بدلًا من نخزة إبرة اللّقاح، يمكنك الاكتفاء بوضع مرهم بسيط على الجلد! وإذ بكَ حصلت على التَّطعيم. قد يتحقّق هذا الحلم بفضل دراسة جديدة أجريت في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة، ونشرت في مجلّة Nature. في إحدى الدّراسات، طوّر عالم الأحياء الدقيقة مايكل فيشباخ (Fischbach) وزملاؤه طريقة مبتكرة للتّطعيم من خلال دهن مرهم، والّتي قد تقدم بديلًا لطرقِ التّطعيم التّقليديّة. اختبرت هذه الطّريقة بنجاحٍ على الفئران ونجحت، ممّا دفع إلى إنتاج لقاح ضدّ مرض الكزاز (Tetanus).

ما هو اللّقاح؟

التّطعيم هو طريقة يُسمح من خلالها للجسم بالتّعرّف على العامل المسبّب للمرض، بطريقة مضبوطة وخاضعة للرّقابة، دون تعريض صحّة الملقّحين للخطر. إذا أُصبنا لاحقًا بنفس مسبّب المرض بحالته الشّديدة والخطيرة، فإنّ أنظمة الدّفاع في الجسم ستكون جاهزةً للتّعامل معه، وستعرف كيفيّة إنتاج الأجسام المضادّة ضدّه. ستفعّل بهذه الطريقة الاستجابة المناعيّة في أسرع وقت ممكن، ممّا يساعد الجسم على التّغلّب على المرض دون ظهور أعراض على الإطلاق، أو بأعراض خفيفة فقط.

هناك لقاحات تُحقن فيها مادّة تحتوي على بكتيريا أو فيروس ممات أو مضعف، الّتي قد تسبّب مرضًا غير خطير في الجسم. في حالات أخرى، يحتوي اللّقاح فقط على أجزاء البروتين الموجودة على سطح مسبّب المرض. انتشر خلال وباء كورونا، استخدام لقاحات mRNA أيضًا على نطاق واسع، والّتي تحتوي فقط على تعليمات تكوين هذه البروتينات في خلايا الجسم، وليس البروتينات نفسها. هناك أيضًا لقاحات لا تعمل ضدّ مسبّب المرض نفسه، بل ضدّ المادّة السامّة الّتي يفرزها. مثال على ذلك، اللّقاح ضدّ السّموم الّتي تفرزها بكتيريا المطثية الكزازيّة (Clostridium tetani)، والّتي تسبّب مرض الكزاز.

اليوم، تُعطى معظم اللّقاحات بالحقن في العضلات، لأنّ الدّم يمرّ عبر الأنسجة العضليّة بنجاعة عالية، ممّا يؤدّي إلى استجابة مناعيّة مُثلى. مع ذلك، هناك لقاحات يفضّل أن تُعطى عن طريق الحقن تحت الجلد أو عن طريق الفم. نظرًا لمساهمتهم الهائلة في الصّحّة العامّة، يبحث العلماء والأطباء باستمرار عن طرق جديدة لإعطاء اللّقاحات، بهدف جعل التّطعيم سهلًا قدر الإمكان وتقليل الآثار الجانبيّة.


تُعطى اليوم معظم اللّقاحات عن طريق الحقن في العضلات. فتاة تحصل على اللّقاح بواسطة الحقنة | Shutterstock, gorillaimages

من الحقن إلى التّطعيم بالمرهم

لاحظ الباحثون في مختبر فيشباخ ظاهرةً مثيرةً للاهتمام. من بين مجموعة البكتيريا الّتي تعيش بشكل دائم على جلد الإنسان، هناك، من بين أنواع بكتيريا أخرى، البكتيريا العُنقوديّة البَشْرَوية (Staphylococcus epidermidis). لا تخترق هذه البكتيريا الجسم ولا تسبّب المرض، لكنّها مع ذلك تسبّب تطوّر الأجسام المضادّة ضدّه. إذا كان الأمر كذلك، قد يمكن استخدام نفس الآليّة لتعليم الجهاز المناعيّ إنتاج أجسام مضادّة أُخرى أيضًا؟

لفحص عمليّة تكوين الأجسام المضادّة عبر الجلد بشكل معمّق، دهن الباحثون محلول مشبع ببكتيريا المكوّرات العنقودية على جلد الفئران، دون الإضرار بسلامة الجلد. وجدوا بعد ستّة أسابيع مستويات عالية من الأجسام المضادّة للبكتيريا في دم الفئران. بالإضافة إلى ذلك، تبيّن أنّ خلايا الذّاكرة تطوّرت في جهازهم المناعيّ، ممّا يُتيح الاستجابة الفوريّة لإفراز الأجسام المضادّة في حالة التّعرّض المتكرّر للبكتيريا.

إذا كان الأمر كذلك، تشير النّتائج إلى أنّ الجهاز المناعيّ يتعلّم بطريقة ما الدّفاع عن نفسه أيضًا ضدّ الأجسام المعادية، الّتي فشلت في اختراق حاجز الجلد.

في المرحلة التّالية، أراد الباحثون تحديد ما إذا كانت الاستجابة المناعيّة في جسم الفئران تتركّز على بروتين معيّن من البكتيريا، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو. وجدوا أنّ معظم الأجسام المضادّة كانت لبروتين يُسمّى Aap، بروتين السّلف النّشواني Amyloid beta precursor protein الموجود في الغلاف البكتيريّ. وعندما تمّ هندسة البكتيريا وراثيًّا بحيث لا يتواجد هذا البروتين فيها، وجد أنّ الفئران لديها بالفعل انخفاضًا كبيرًا في إنتاج الأجسام المضادّة للبكتيريا - وهي علامة على أنّ البروتين يلعب دورًا هامًّا في تحفيز الاستجابة المناعيّة.


من بين مجموعة البكتيريا الّتي تعيش بشكل دائم على جلد الإنسان، هناك، من بين بكتيريا أخرى، بكتيريا Staphylococcus epidermidis. البكتيريا في المجهر الإلكترونيّ ويكيميديا،  Janice Carr

على ضوء هذا الفهم، قرّر الباحثون محاولة استخدام البروتين كأساس يساعد في تحفيز الاستجابة المناعيّة ضدّ البروتينات الأخرى أيضًا. من خلال الهندسة الوراثيّة، أنتجوا بكتيريا العُنقوديّة البَشْرَوية تحتوي على بروتين السّلف النشواني AaP على غلافها، وبداخله دُمِج البروتين السّامّ المسبّب لمرض الكزاز. عندما عُرضت الفئران للبكتيريا الّتي تحتوي على البروتين المُصمّم هندسيًّا، عُثِرَ بالفعل على أجسام مضادّة لسمّ الكزاز في أجسامها، وكان مستواها مشابهًا للمستوى الّذي حُصل عليه بعد إعطاء اللّقاح المعتاد ضدّ السّمّ، والّذي يُعطى عن طريق الحقن في العضلات. بعد ذلك، عندما عُرِّضت الفئران الملقّحة عن طريق الجلد لمستويات مميتة من سمّ الكزاز، كانت محميّة تمامًا ضدّه.

تظهر الدّراسة أنّ أجسام الفئران قادرة على إنتاج استجابة مناعيّة، حتّى ضدّ التّهديدات المحتملة الّتي لم تتمكّن من اختراق حاجز الجلد على الإطلاق. إذا جاءت الدّراسات العديدة الّتي لا تزال ضروريّة لتحقيق هذا الهدف بنتائج جيدة، فمن الممكن أن تحلّ الطّريقة الجديدة محلّ اللّقاحات التي تُعطى حاليًا عن طريق الحقن، وتوفّر بديلًا لطيفًا وأقلّ ألمًا. ومن يعلم، فقد تكون آثارها الجانبيّة أقلّ، مثل التّفاعلات الالتهابيّة الّتي تحدث أحيانًا استجابة للّقاحات العاديّة، وذلك بسبب آليّة عملها.

0 تعليقات